Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

إخضاع الدين لسلطة العقل:عبث ام ضرورة..

الأسطورة مكون من مكونات التاريخ الأنساني،ترعرعت في حجر الأنسان منذ القدم،وتغلغلت في لبنات التراث الثقافي والوجداني والمثيولوجي لأناس الأرض عبر الأزمنة المختلفة،وهي كائن حي عابر للثقافات يطفو باكثر من وجه، إلا ان الجوهر واحد غالبا،اذ يعاد انتاج الأسطورة حسب التلون البيئي والثقافي للشعوب وفي مراحل زمنية مختلفة،كأسطورة الخليقة،الطوفان،الخطيئة الأولى،عالميّ الجن والأنس،الفردوس والجحيم، انفاصل الأرض عن السماء،الخلق من الماء..الخ من الأساطير الضاربة جذورها في عمق التاريخ البشري،كالحضارة السومرية والبابلية والأشورية وما الى ذلك من حضارات بلاد الرافدين،والحضارة اليونانية والرومانية،الهندية والصينية،وغيرها من حضارات الشعوب.
لبنة كل مجتمع،ايا كان،هي في النهاية الأنسان المتسائل،الذي وجد نفسه في عالم مادي يعج بالظواهر المبهمة،الباحث والمنقب عن جوهرالوجود،سرالحياة والموت،نشأة الكون،الخلود والكمال،وما اليه من احافير معرفية ناجمة عن صراعات اللاوعي والوعي،والفضول الفطري لفهم الكون وماهيات الأشياء،وقد شكل هذا، بتصوري،الركيزة الأولى لإنطلاق الفلسفات.

ولا غرابة اذن ان ينتج الأنسان أينما كان،فكرا اسطوريا يقتفي جوهر قضاياه ويملأ فراغاته المعرفية ولكن بأساليب وصور تتلون بتلون الثقافات،وهذا لا يعني ان كل مجتمع ينتج اساطيره بمعزل عن المجتمعات الآخر،فالثقافات تتزواج وتقتبس من بعضها البعض،وتؤطر ما تفتبس بقوالبها المعرفية.

تدخل الأسطورة في الديانات الوضعية والسماوية،وبشكل عام هي احدى اركان الثالوث الديني المبشر بالعدالة المطلقة كخاتمة للوجود،فلكل دين،وضعيا كان ام سماويا،ثلاثة اركان تلتقي بما تنضح،فتنتِج مجمل الأيديلوجيا الدينية،وهي :
المعتقد..اذ لا دين دون معتقد
الطقوس..لكل دين طقوس وشعائر
والأسطورة..المستقاة من اساطير الشعوب ومروياتهم،والتي يعاد صياغتها لتظهر بوجه جديد في النسق الديني.
على سبيل المثال،مروية انشاء مسجد قباء في المدينة المنورة حيث بركت الناقة،منتجة عن مروية قدموس والبقرة،وهي مروية فينيقية،فمدينة طيبة،وحسب المروية، بنيت حيث بركت البقرة المقدسة.
ومروية سرجون السومري لها حضور مميز في الديانات السماوية التي انتجت نفس المروية بشخصية النبي موسى. ومروية ناقة النبي صالح وفناء قبيلة ثمود،لا تبتعد كثيرا عن مروية ناقة البسوس في التراث الجاهلي،ومروية نيام إفسوس السبعة الرومانية، تتناغم مع مروية اهل الكهف،والكثير من المرويات التراثية التي لها صور مشابهة في المرويات الدينية،كما ان كل دين يأخذ من مرويات الأديان الآخرالتي سبقته او يجتزء منها..

للأسطورة سلطة عبر التاريخ القديم والحديث لا يمكن نكرانها إلا اذا انكرنا الأنسان،وسلطة الأسطورة لا تخضع لسلطة العقل،وهذا يقودني لسؤال مهم:هل يجوز إخضاع الدين لسلطة العقل والأسطورة لصيقة بتركيبته وناضحة فيه منذ القدم؟
إن جاء الجواب بلى، فتلك محاولة غير موفقة لإقصاء هذا التوئيق التراثي الزاخر والغزير بمكنونات التاريخ الأنساني.
هل هنالك من مشكلة منظورة ان جاء الجواب كلا،لا يجوز إخضاع الدين هكذا،والسلطة الدينية بدورها غير معنية بتشريح الدين بمشارط العقل،ومن العبث مطالبتها بهذا..
لا يبدو لي هنالك مشكلة اطلاقا لولا ما ذكرته توا!
المشكلة الأساسية تكمن في السلطة الدينية ذاتها،التي تحاول جهدها تشريح الدين بمشارط العقل والمنطق،العلم والأخلاق،وكل المشارط القيمية التي تؤسس لبناء الأنسان والمجتمع والحضارة،فخلقت لها جبهة مضادة،تحاجج بنفس تلك المشارط،وحضور مثل هذه الجبهة حالة صحية تستنهض الوعي،صراع ابيض من اجل الحقيقة،وضرورة لا بد منها بتصوري .
ويبدو لي من العبث استمرار هذا الصراع فيما لو كفت السلطة الدينية عن تقديم الدين كمعجم للمعرفة والعلوم بصنوفها،وتسويقه كدستور شامل لا تشوبه شائبة لخلاص البشرية،وتكتفي بتقديمه كدين فقط،يحتضن الجانب الروحي ويملأ الفراغ الغيبي،يرعى الأخلاق ويحث على الحميد منها،وهذه قيمة لا يستهان بها.

والمشكلة لا تقف عند تخوم السلطة الدينية،التي تسعى لعقلنة البناء الروحي/الأسطوري عقلنة لاهوتية علمية!، غافلة او جاهلة تماما بأن الأنسان العاقل لا يحتاج هذا إن كان واعيا،فهو المنتج لهذا البناء على مر العصور والدهور،وإن لم يكن واعيا مدركا لحركة الفكرالأسطوري وسيرورته التاريخية،فهو بالتالي داخل البناء الهرمي الذي يفرزه هذا الفكر،ولصيق به اكثر من غيره المدرك، لكون الفكر الأسطوري لصيق بدوره باللآهوت والسماء والألهة والمرويات التراثية والملاحم البطولية،وكل هذا النسيج يشبع الفضول الروحي في دواخله ويشعره بالآمان والرضى،ولا يحتاج لسلطة دينية تعقلن له الدين علميا،فليس في العلم ما يشبع الظمأ الروحي،والعكس صحيح.كما ان الأنسان عادة ما يتشبث بالأمل في ظل الفقر والظلم والإستلاب،والدين يقدم له هذا الأمل فيعلق به رغم فواتير المقايضة التي تزيدنه بؤسا،إلآ ان للأمل سطوة حتى وإن كان سرابا ويُستجدى بشق الأنفس كلما ضاق الخناق واشتد وطيسه..

المشكلة كما ذكرت لا تقف عند تخوم السلطة الدينية فهنالك تخوم التطرف،ولا اقصد هنا التطرف الديني بل التطرف المعرفي بشكل عام أو الإتغلاق المعرفي،وينجم هذا التطرف،الذي تعاني منه الكثير من المجتمعات،عن الفشل في إحتواء الهوية الأنسانية ومعارفها المنتجة،وعدم فهم هوية كل مُنتَج، ودوره في دفع دفة الحياة او تعطيلها،فيحصل الإنحياز الى معرفة ما متداولة تربويا في المحيط المجتمعي على انها الأنجع لتسيير الدفة،اذ تتضخم تلك المعرفة في العقل الجمعي تضخما سرطانيا يحجب رؤية ما تنتجه المجتمعات من معارف رافدة للإنتاج الحضاري، او يقلل هذا التضخم من شأنها،او يجعلها تابعا من توابع معرفته لا تؤدي اغراضها إلا ضمن سياق تلك المعرفة واحكامها.

للمعرفة هوية واحدة،الهوية الأنسانية،والمعرفة ليست في سباق مع الزمن، بل مُنتِج المعرفة،ولكل معرفة اتـجاه محدد،محرك ودفة يمسك بها المُنتِج،الخلط بين محرك واخر او مُنتِج وآخر،او استبدال دفة بدفة،ينتج النكوص والخيبة،فمحرك المعرفة الدينية لا يصلح كمحرك للمعرفة العلمية..والعكس صحيح.
ومحرك المعرفة السياسية لا يصلح كمحرك للمعرفة الدينية،والعكس صحيح، وعلنا لا نغفل بأن الدعم الأيجابي بين المعارف وسلطاتها وارد ومفيد.
أن يدخل رجل دين الى مختبرعلمي ليزن لنا البرتون في ذرة الهيدروجين او يحدثنا عن هندسة السدود في نص ديني،او أن يدخل رجل سياسة الى جامع لإلقاء خطبة الجمعة،هذا خروج سافرعن إتجاه وتعطيل لمحرك،وهذا لا يعني ان رجل الدين لا يمكن ان يكون عالم ذرة او سياسيا محنكا،ولكن لا يمكنه كأي أنسان ان يدير ثلاث محركات أجتماعية في آن واحد،وعليه ان يختار المحرك الأنسب ويتفرغ لتشغيله ونحو الإتجاه الصحيح.

الإتجاه هوالأمام كهدف،اتجاهات المعارف متوازية،وينبغي ان تكون متآخية صوب الهدف،ان تتقاطع فهذا إرتطام وتوقف قد يطول،ان يعطل محرك من المحركات فتلك خسارة لا بد من تجاوزها باصلاح المحرك بأسرع ما يمكن.
المجتمعات التي اخفقت في معرفة حجم كل محرك وقدرته الحصانية،والزيت المناسب لتشحيمه، ومن يقف خلف كل محرك،تأخرت،اذ اصبح العلم دينا والدين علما،السياسة دينا والدين سياسية،فأختلط الحابل بالنابل وبات كل محرك اما مستجديا زيوته من المحرك الآخر،او فارضا زيوته على المحرك الآخر ففسدت المحركات وتوعرت الإتجاهات وحل البلاء..
الدين لا يُستَهدف لذاته كدين،مثلما لا تُستَهدف الأساطير،والسلطة الدينية لا تُستَهدف لذاتها.بل لوقوفها امام المحرك الخطأ بالزيت الخطأ مقتحمة الفضاء
الخطأ.
العقل سلطة ولا جدال في هذا،وللروح سلطة منذ بدء الخليقة،السلطتان توأم منفصل،ولا عزاء بينهما إلا اذا حاولنا أجراء عملية جراحية على غير العادة للصق التوأم وجها بوجه،فتتلاشى الملامح ويختلط اللعاب فتبدو سلطة الروح سلطة للعقل،وسلطة العقل سلطة للروح.
او بمعنى آخر..ما ينتجه العقل البشري من اساطير يصبح فوق العقل! بهمة السلطة الدينية والأولياء!،.وما ينتجه من علوم يصبح مطرقة تدك الأسطورة
وبهمة العقلاء.
الجدوى هي إلاّ نفسد التوأم بجراحة شاذة تُحيلنا الى طارق ومطروق،ونفسح له المجال كي يمرح.. كل بفضاء سلطته...والى الأمام..




فاتن نور
09/02/03



Opinions