Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

إدارة الضغط على الحكومة وتوجيهه -1

22 شباط 2011
الضغط على الحكومة، كالضغط من الأعلى على بالون على الأرض. يمكن أن يجعلها تقفز عشوائياً بأي اتجاه كان.
الضغط، قوة غير موجهة في الفيزياء، وكثيرا ًما لا يختلف الأمر في السياسة. فعندما تضغط جهة ما على حكومة فإنها لا تستطيع دائماً أن تحدد نتيجة ذلك الضغط واتجاه رد فعل الحكومة المضغوطة. فلو أخذنا مثالاً للتشبيه، فأننا عندما نضغط من الأعلى على وسط بالونة على الأرض، فإنها ما لم تنفجر، سوف تقفز في أتجاه ما، يصعب علينا تحديده مسبقاً. كذلك معظم انواع الضغط السياسي المسلطة على أية حكومة، فمن أجل التخلص من ذلك الضغط، قد تتجه الحكومة للإستسلام له، أو بالعكس، قد تتجه إلى مقاومته ومحاولة كسره، أو قد تتجه إلى الهرب إلى جهة ما، قد لا تكون لها علاقة مباشرة باتجاه ذلك الضغط، مثلما تتجه الحكومات إلى الحرب الخارجية للتخلص من مشاكل داخلية لا علاقة لها بتلك الحرب. إنها تتجه إلى حيث تجد منفذاً، بغض النظر عن وجهة ذلك المنفذ.
خير طريقة لمن يريد أن يجعل البالونة تقفز باتجاه معين يحدده بنفسه، هي أن يضع الحواجز حول تلك البالونة، بحيث لا يترك لها سوى منفذ واحد تهرب منه، هو الإتجاه الذي يريده. إن هو فعل ذلك، فسيكون كل ضغط على تلك البالونة يخدمه، حتى إن كان من يقوم بالضغط يقصد أتجاهاً آخر.
لذلك يكتفي الضاغط في كثير من الأحيان بترتيب الحواجز المناسبة في أنتظار الضغط الذي تأتي به الصدفة أو الأحداث، أو الآخرين، كقبطان يعد أشرعته بشكل مناسب، ثم ينتظر الريح. إن ميزة هذه الطريقة ليست فقط الإقتصادية في الجهد، ولكنها تبعد الشبهات أيضاً، عندما يكون تسليط الضغط العلني غير مناسب سياسياً، كأن يفهم على أنه تدخل دولة أجنبية.
هكذا قد تجد شعباً يضغط على حكومته من أجل الديمقراطية، فتقفز الحكومة بدلاً من ذلك إلى توقيع اتفاقية أمنية مع دولة أخرى يمكنها أن تساعدها في تهدئة الوضع سياسياً أو بالقوة، أو ربما تثير حرباً لتشغل الناس بها فينسو الموضوع أو قد تلجأ حتى إلى المزيد من الدكتاتورية للتخلص من ا لضغط بواسطة قمعه، رغم أن الشعب الذي سلط الضغط المحرك للتغيير، كان يقصد العكس. ما يحدث هو أن الحكومة، وجدت الحواجز مرتبة بشكل يجعل من إشعال حرب في الخارج أو إستعمال الإضطهاد، ألطريق المفتوح أمامها للتخلص من ذلك الضغط. المضغوط لا يهمه أن يعرف رغبات من يسلط الضغط عليه، بل يهمه أن يعرف المنافذ المفتوحة للتخلص من الضغط. وبالطبع من المحتمل جداً أن أحداً ما رتب الحواجز للحكومة بهذه الطريقة وانتظر ضغط ثورة الشعب، أو شجع ذلك الضغط بطرقه الخاصة، بعد تورية القصد من ذلك الضغط. ليس ذلك سوى ما نسميه "الفوضى الخلاقة" فهي فوضى في الحركة النشطة بأي اتجاه كان، وهي خلاقة لأن بالإمكان توجيه طاقتها كما يريد من يسيطر على منافذ تنفيس الضغط.
لقد كشف لنا أحد عملاء السي آي أي السابقين، جون بيركنز، الوسائل التي تتبعها المؤسسات السرية الأمريكية لتسليط الضغط على حكومات العالم عندما تريد أن تجبرها على سياسة باتجاه معين يتناسب مع طموحات رجال الأعمال الأمريكيين، مثل بيع ثروات تلك البلاد للشركات الأمريكية بشكل مجحف للشعب. وهنا نجد الإبداع في تسليط الضغط، حيث يبدأ الأمر عادةً بإقناع تلك الحكومة باقتراض مبالغ مالية كبيرة، وإقناع الجهات المالية الدولية مثل البنك الدولي، على تقديم تلك القروض. ورغم أن القصد من تلك القروض يبدو لحل مشاكل تلك البلاد الإقتصادية، فأن من يخطط الأمر يخفي أمراً آخر.
يقدر هؤلاء المخططين، أن البلاد سوف لن تتمكن من إيفاء ديونها، أو أنهم سيحاولون دفع الامور في ذلك الإتجاه من خلال علاقاتهم العالمية الإقتصادية وغيرها، بحيث يسلط الدين على الدولة المدانة، ضغطاً يمكن استثماره للوصول إلى غايتهم، حيث يتم محاصرة المنافذ الممكنة لحل الأزمة الإقتصادية، وترك طريق واحد مفتوح أمام حكومة البلد، وهو بيع ثروات بلادهم بسعر بخس للشركات التي خططت الموضوع كله بالتعاون مع الأجهزة الأمنية الأمريكية.
ويبين جون بيركنز في كتبه وفي المقابلات التي أجراها، أنه في حالة فشل الضغط في توجيه حركة الحكومة بالإتجاه المطلوب فأن الخيار الآخر هو قتل المسؤول الذي يرفض الإذعان للضغط، كما حدث لرئيس الأكوادور السابق جيم رولدوس ورئيس بنما السابق عمر تروخيو، الذان تقبلا مصيرهما ببطولة نادرة بدلاً من بيع بلادهما وقتلا الواحد تلو الآخر خلال بضعة أشهر. (1)
يحتاج الضاغط إذن لإنجاح خططه، أن تكون له سيطرة على ظروف الضحية، وأن يتمكن من ترتيب محيطها بحيث يترك لها منفذاً واحداً لتنفيس الضغط، وهو المنفذ الذي يخدمه.

لنأخذ مثال عراقي، من حكومة المالكي الأولى المنتخبة، (بشكل ما). حين بدأ المالكي يحاول ممارسة عمله إصطدم بواقع محاصر أعد له، جعله يشتكي علناً قائلاً أنه "لايستطيع تحريك فصيل بدون موافقة أمريكية" رغم أنه القائد العام للقوات المسلحة. وكان جزء هام من هذا الضغط من أفضال أياد علاوي، رئيس الحكومة الأولى المعينة من الإحتلال، حيث رفض مشروعاً ألمانياً فرنسياً، يتيح للحكومة العراقية المنتخبة صلاحيات كبيرة للحركة وتجعل من قوة الإحتلال الأمريكية، التي كانت حتى ذلك الحين تحت غطاء أممي، قوة مساعدة على حفظ النظام حسب طلب الحكومة العراقية، التي كانت ستحتفظ بالسلطة الأعلى. لكن وجود علاوي في الحكم مكن الأمريكان من تجاوز الأمر، حيث ذهب هذا مع كولن باول وطلب من مجلس الأمن ترك الأمر بين العراق وأميركا ليتفقا عليه بدون تدخل الأمم المتحدة، فكان ما كان. (2)

كان هذا التصرف من قبل علاوي ضرورياً بالنسبة للأمريكان لتمكينهم من محاصرة الحكومات العراقية التالية، وتحديد خياراتها وإخضاعها للضغوط الأمريكية. وبالفعل وجد المالكي الضغط شديداً حيث اصطدم مع قائد القوات الأمريكية بشكل مؤلم فاشتكاه لبوش، فأجابه هذا بأن عليه أن يهدأ! وهذه الشكوى تبين بوضوح أن المالكي لم يكن يدرك الأمر، ولم يفكر أن تصرفات قائد القوات كانت مقصودة كجزء من خطة لمحاصرته وتحديد خياراته بما يناسب الإحتلال.
إضافة إلى ذلك فقد كان للوسائل الأخرى المعدة مسبقاً، مثل طريقة كتابة الدستور وتوزيع السلطات، وكذلك السلطة الإعلامية التي تمتلك الولايات المتحدة كل مفاتيحها الأساسية في العراق، ضغط كبير جداً على أية حكومة عراقية. وقد استفاد هذا الإعلام من حقائق معينة لتثبيتها وتكبيرها أيضاً، مثل الطائفية، والقرب من إيران، لمحاصرة أي عمل يحاول رئيس الحكومة أن يقوم به، ولا يناسب سياسة الولايات المتحدة.

ومما نذكره عن ضغوط الولايات المتحدة في العراق قضية الديون العراقية الفاسدة. فقد كان بإمكان الحكومة الأمريكية إعلان أن ديون العراق تعتبر ديوناًُ فاسدة تخص صدام حسين. وكانت قد فعلت ذلك عام 1820 مع كوبا عندما احتلتها. لكنها كانت ترى أن في العراق ظرفاً آخر يتطلب منها الإحتفاظ بأكبر عدد ممكن من أدوات الضغط عليه، ومنها الإقتصادية. وبالفعل كانت الديون حجة لتمرير شروط اقتصاد السوق والقبول بمعاهدات مع أميركا، لم تكن مقبولة من الشعب العراقي.
وخلق الإعلام جواً من الإتهامات والحساسيات، مستفيداً من حقائق فعلية، ضمنت إمكانيات كبيرة لتسليط الضغط على أي حكومة عراقية. وبغض النظر عن براءته أو نواياه، فقد كان المالكي عاجزاً عن محاسبة أي لص كبير أو التحقيق في أية جرائم يقوم بها المحسوبين على الطائفة الأخرى، السنة، أو أية شخصيات سبق أن اعلنت عدائها لإيران. فأية حركة من هذا النوع كانت تفجر بوجهه كل تهم الطائفية والعمالة لإيران، حتى صار الأمر معتاداً أن أي وزير لص كان يهرع فوراً إلى القول أن ملاحقته لها أسباب طائفية أو سياسية، أو لأنه انتقد علاقة السلطة بإيران! وإن لم ينفع كل ذلك في ردع الحكومة، كان الأمريكان يتكفلون بتهريب المتهمين، حتى بعد إدانتهم، بقوة السلاج ومن بين أيدي الشرطة!
هكذا أوصل الإحتلال المالكي إلى الإحساس بالشلل والحصار والضغط الشديد،ولم يكن المالكي يدرك في البداية أن الضغط الذي يسلط عليه كان جزء من اللعبة (بدليل شكايته لبوش)، وسرعان ما انفجر هذا الضغط بالإتجاه المرسوم له، الإتجاه الوحيد المفتوح له للعمل، وهو: ضرب الصدريين في "صولة الفرسان"، محققاً حلماً أميركياً كان سيكون مستحيلاً بدون ذلك الحصار ذو المنفذ الواحد للتصرف.
طبعاً كان للمالكي أسباب أخرى هي مشكلة الميليشيات وتصرفاتهم، لكن ذلك ربما كان يمكن حله من خلال الضغط على قادتهم في التيار الصدري، وهم شركاءه في الحكومة. هل كان سينجح بذلك؟ لا أحد يعلم، لكن ذلك لم يكن يناسب الأمريكان، ومن الواضح أن المالكي لم يحاول ذلك، وإن فعل فليس بأية جدية تستحق الذكر، فقد بدا الحل العسكري، منفذاً شديد الإغراء لتنفيس الضغط الأمريكي.
لكن إدارة الضغط لم تكن ناجحة دائماً، رغم شدته ومهارة إدارته. فقد تمكنت حكومة المالكي، ومن خلال السيد حسين الشهرستاني، من إدارة ملف النفط بشكل ممتاز إذا تذكرنا كمية الضغوط التي سلطت عليها. لقد كان انتصار الشهرستاني في ملف النفط، يتمثل في عدم الرضوخ للضغوط الشيديدة، ومحاصرته لكي يقبل الخيار المفتوح الوحيد لديه، وهو توقيع اتفاقيات شراكة مع شركات النفط الكبرى، والتي تمتلك الولايات المتحدة حصة الأسد فيها. وكان من أدوات الضغط التي سلطها الأمريكان على الشهرستاني بشكل خاص وحكومة المالكي بشكل عام، حكومة كردستان.
فعلى العكس من حكومة المركز التي صمدت في هذا الموضوع، كان حكومة كردستان مستسلمة تماماً للفساد، وكان وزير النفط الكردستاني يوقع عقود الشراكة بشكل هستيري، ولم يكن هناك من يجرؤ على ما يبدو في حكومة أو برلمان كردستان على مطالبته بكشف تلك العقود. وما وصل عنها كان من مصادر أجنبية. وكان من وقاحته أنه نقل بعضاً من أكبر الحقول من قائمة الحقول المكتشفة إلى قائمة المناطق الإستكشافية، لكي يبيعها رخيصة للشركات!
وبالطبع فأن صمود المركز ضد مثل هذه العقود كان محرجاً لكردستان، التي سلطت ضغوطاً شديدة لتوقيع قانون النفط الذي يتيح توقيع مثل تلك العقود، ووصل الأمر إلى ما يشبه الشتائم الموجهة إلى وزير النفط العراقي، الذي تحمل ذلك الضغط، دون أن يستسلم للتنفيس عنه، حين وجد أن التنفيس الوحيد الممكن، يتمثل في بيع ثروة بلاده بشكل لصوصي إلى الشركات. وحتى خلال تشكيل الحكومة الثانية للمالكي قبل فترة قصيرة، كان أحد شروط الإئتلاف الكردستاني للإنظمام، هو توقيع قانون النفط، أملاً في أن تجد الحكومة نفسها تحت ضغط يجبرها على التنفيس عنه من المنفذ الوحيد: القبول.
النفط يذكرنا بضغط آخر في مكان آخر. كان من الواصح أن أميركا لم تكن سعيدة بتطور العلاقة الإقتصادية بين روسيا والإتحاد الأوروبي، وكانت تسعى لعزل روسيا في السنوات العشرة الماضية. لكن الولايات المتحدة لم تضغط على الإتحاد الأوروبي لكي يتوقف عن استيراد الغاز الروسي، (من خلال إثارة المشاكل في دول أوروبا الشرقية العميلة لها، والتي تتحكم بطريق مرور هذا الغاز- خاصة أوكرانيا في ذلك الحين) قبل إعداد منفذ "مناسب" للإتحاد الأوروبي لتنفيس هذا الضغط، يتمثل بمشاريع أخرى مثل مشروع خط أنابيب بديل (مثل خط نابوكو) لإستيراد الغاز والنفط من دول أخرى تناسب أميركا أكثر من روسيا.
وهنا أيضاً لم تكن الحواجز الأمريكية مرتبة بشكل ممتاز، لأن "المنفذ" البديل كان مكلفاً ولم يكن كافياً، ولذلك كان نجاح أميركا في هذا المجال محدوداً رغم جهودها، فقد أصرت ألمانيا ودول أخرى على علاقات إقتصادية متينة مع روسيا، ومازالت أوروبا تستورد ربع حاجتها من الغاز من روسيا.

كأمثلة أخرى مختلفة لأستعمال الضغط الإقتصادي، نتذكر إجبار الإتحاد السوفيتي السابق على الدخول في سباق تسلح مكلف جداً، مما جعله عاجزاً عن تقديم الخدمات اللازمة لشعبه. ولزيادة الحصار، فأن الأمريكان ضغطوا على المملكة العربية السعودية ودول الخليج لإغراق السوق بالنفط ليهبط سعر البرميل الواحد بشكل كبير. ولأن العملة الصعبة للإتحاد السوفيتي كانت تأتي بشكل رئيس من النفط، فقد تسبب ذلك له بخسائر هائلة، تقدر بمليار دولار للعام الواحد لكل دولار واحد ينخفض فيه سعر البرميل. وهكذا تم خلق الجو المناسب لإثارة غضب شعوب الإتحاد السوفيتي من حياتها الصعبة.
وأستعمل نفط السعودية والكويت ايضاً للضغط على حكومة صدام بعد الحرب مع إيران. ووجد صدام نفسه أمام ضغط إقتصادي شديد يتوجب الحركة، حيث أنه خرج من حرب إيران (التي كان للولايات المتحدة والسعودية دور رئيس في إثارتها أيضاً) بديون ضخمة جداً، كانت أرباحها أكبر مما يستطيع دفعه. وقبل ان تقوم الولايات المتحدة بحركة الضغط، فأنها توصلت إلى أن صدام، الذي مازال يمتلك جيشاً قوياً جداً، لن يجد منفذاً للضغط الإقتصادي سوى أن يحتل فيها الكويت، أو جزء منها، وهو ما سوف يثير اضطراباً في المنطقة يتيح لها إدخال قواتها اليها وبشروط مناسبة جداً لها.
وبالفعل تم الإيحاء لصدام بذلك الحل. وكانت الحركات الأخيرة التي اسقطته في الفخ، هي تصريح الناطق باسم البيت الأبيض، رداً على أخبار احتمال اختراق عسكري عراقي للكويت بأنه "لا توجد اتفاقيات دفاع مشترك بين الولايات المتحدة والكويت" بدلاً من الجواب المعتاد بالتحذير من أي أعتداء عسكري. وأخيراً جاءت مقابلة صدام حسين مع السفيرة الأمريكية أبريل غلاسبي، والتي أعطت الضوء الأخضر لصدام ليمر من المنفذ الوحيد الذي تركته الولايات المتحدة مفتوحاً أمامه، ويدخل بقواته إلى الكويت، إلى الفخ. (3)
عندها، تغير الموقف فجأة، وصار الهدف هو ترتيب البيئة لدفع صدام لإختيار البقاء في الكويت حتى يتمكن الأمريكان من إخراجه بالقوة. ومن أجل الهدف الجديد، تغيرت لهجة الولايات المتحدة وأصبحت عدوانية واستفزازية، ومهينة لصدام. وكان الغرض من ذلك أيضاً توجيه ضغط أدبي سياسي عليه لكي يغلق عليه باب الخروج من الكويت بلا حرب، وبالشكل الدبلوماسي، ويترك خياراً واحداً مفتوحاً له، الخيار الأنسب للخطة الأمريكية. وبالفعل نجحت الخطة تماماً. ورغم أن صدام أعلن إذعانه في الساعات الأخيرة المسموح له بها من الإنذار، فأن بوش رفض الأمر وأصر على المضي قدماً في إكمال خطته وإدخال جيوشه والبدء بالحرب، كاشفاً أن الحرب كانت هدفاً بحد ذاتها.

ويمكن أن نلاحظ أيضاً نوعاً آخر هو عبارة عن عمليات ضغط متعددة المراحل. فيمكن ترتيب ضغط يسلط على ا لشعب، ليقوم بدوره بتسليط ضغط على الحكومة التي يكون المخطط للموضوع كله قد رتب ظروفها لكي لا تجد منفذا للتنفيس عن الضغط إلا بالسير في الممر الوحيد الذي تركه لها المخطط للمؤامرة.
ويحدث مثل هذا الضغط في الدول الديمقراطية، حيث يكون للشعب رأي هام، وحيث يكون الضغط المباشر على الحكومة أكثر صعوبة، بسبب توزيع السلطات والشفافية، فأن الضاغطين كثيراً ما يلجأون إلى هذا النوع من الضغط غير المباشر. وإذا كان للحكومات مستشارين قد يساعدوها على اكتشاف الضغوط ومقاومتها، فأن الشعوب لا تمتلك هؤلاء، وهي تتصرف بعفوية حتى الشعوب المثقفة، وتتأثر بشكل أكبر بالمؤثرات الإعلامية، لذلك فهي تقع في الفخ بسهولة أكبر. فالشعب يضغط على حكومته عادة بشكل مباشر، ودون دراسة المخارج المتوفرة للحكومة، ودون ترتيبها بشكل يضمن أن حركة الحكومة ستكون كما يريد.
وأحد الأساليب هي أيضاً محاصرة الدولة إقتصادياً بحيث تجعلها عاجزة عن تقديم الخدمات اللازمة، وبالتالي يسلط نقص الخدمات الضغط اللازم على الشعب لكي يسلط ضغطاً على حكومته، التي يجب أن يكون المخطط قد رتب بيئتها لتسير الحكومة في ا لطريق المرسوم.
كمثال ممتاز على هذا النوع من الضغط الإقتصادي، نذكر خطة مارشال التي نفذتها الولايات المتحدة في أوروبا الغربية. فبعد حوالي سنتين من نهاية الحرب العالمية الثانية وجدت الولايات المتحدة أن شعوب أوروبا تختار الشيوعية بشكل كبير، وبشكل خاص في اليونان وإيطاليا وفرنسا والمانيا وأسبانيا وكذلك اليابان. ووجدت أن الطريقة الوحيدة لردعها عن ذلك هو استغلال الفقر الشديد الذي كانت شعوب أوروبا الغربية تعاني منه، وكون الولايات المتحدة الدولة الوحيدة التي كانت تتمتع بإقتصاد منتعش في العالم، فقررت الإستفادة من ضغط الجوع المنتشر، فوضعت أمام تلك الشعوب منفذاً واحداً لتنفيس ذلك الضغط، وهو: طرد اليساريين من حكوماتهم!
حدث مثل هذا الأمر في نيكاراغوا، فبعد إنهاك البلاد إقتصاديا بحروب العصابات التي كانت أميركا تدعمها، وضعت هذه شعب نيكاراغوا أمام خيار وحيد للخلاص من ضغط الجوع والإرهاب، وهو التخلي عن حكومتهم المفضلة، الساندينيستا، وقبول الحكومة المفضلة أمريكياً، والتي دفعت البلاد ثمن خيارها غالياً.
وتشمل إمكانيات هذا الضغط، شعوب أوروبا في العصر الحديث أيضاً، رغم أنها لا تعاني من الجوع. كمثال على ذلك، أختار الشعب الهولندي، بحريته، أسوأ حكومة في حياته قبل بضعة أعوام حين صوت لـ "حزب" الشعبوي "بيم فورتان"، وكان هؤلاء مجموعة من عصابات الشركات والمحتالين رفعهم الإعلام بشكل مثير للإنتباه. ولأجل ذلك تم استغلال غضب الشعب المشروع من حكومته اليمينية السابقة لتسليط ضغط شعبي يبحث عن حل بديل، وليقدم حزب فورتان كبديل وحيد، رغم أنه كان واضحاً للمراقب أنهم ليسوا البديل المناسب على الإطلاق، فالبديل المنطقي المناسب كان الخيار اليساري. لكن هذا الخيار كان مغلقاً بحواجز نفسية وإعلامية، فسقط الشعب الهولندي في الفخ وقبل "الطريق الوحيد المفتوح" عملياً، وانتخب مجموعة فورتان، الذين أسسوا حكومة لم تصمد ثلاثة أشهر حتى وصلت الصراعات بينهم إلى رفع المسدسات بوجه بعضهم!
سقطت الحكومة، لكن بعد إتمام توقيع صفقة مشاركة إنتاج الطائرات "جي إس إف" مع شركات الأسلحة الأمريكية، والتي كانت تواجه معارضة شعبية شديدة جداً، وكالعادة تبين لاحقاً أنها كانت صفقة سيئة، وأن كلفتها أكثر كثيراً مما كان معلناً.
أن الفرق بين الإتجاه المخطط سراً، وبين ما يبدو علنا، قد يكون كبيراً إلى درجة مدهشة، كما حدث للشعب الهولندي، حين كان يأمل بحكومة تلبي حاجاته، أي أكثر يسارية، فجاءت حركته بعصابة يمينية من أصحاب الشركات الفاسدين. وكمثال آخر أذكر أحد مواطني الولايات المتحتدة – ألباما، يقول بأن سبب انتخابه لبوش هو أنه تعب من الضغوط المادية، وأن بوش سيخفض الضرائب عن الفقراء!
يعرف ملاحوا الزوارق الشراعية أنهم يستطيعون الإستفادة من ضغط الرياح، لتسيير سفنهم باتجاه يكاد يكون معاكساً لإتجاه الريح الضاغطة، من خلال وضع الشراع وزعنفة السفينة بشكل مناسب!
هذه المرونة لتغيير اتجاه تأثير الضغط، يمنح من يسيطر على تحديد المنافذ، القدرة على الإستفادة من مختلف الضغوط المتوفرة، ومهما كان اتجاهها، وليس بالضرورة كما يتجه الضغط أو يريد صاحبه. أن من يريد تسليط الضغط على الحكومة من أجل هدف معين، عليه أن يحسب المنافذ المتاحة لها قبل أن يبدأ بتسليط الضغط.

(1) http://www.youtube.com/watch?v=mfXmk-87yv8&feature=related
(2) أنظر مقالتي ("دور علاوي في فقدان سيادة العراق على العمليات العسكرية ووجوده تحت الفصل السابع)
http://al-nnas.com/ARTICLE/SKHalil/18alawi.htm
(3) http://al-nnas.com/ARTICLE/SKHalil/25april.htm

Opinions