إستشهاد المطران – كابوس ثقيل أم خبطة في الرأس
wadeebatti@hotmail.com
يحدث احيانا ان نتعرض جميعا , كبشر , الى كوابيس مزعجة كريهة نستيقظ على اثرها لنتناول جرعة من الماء ونتعوذ من ابليس ونتلو الصلاة الربية او نقرأ سورة الفاتحة , كلَُ و قبلته , ثم نحاول العودة للنوم. ويحدث ايضا احيانا اخرى ان يتعرض كائن ما او تتعرض مجموعة بشرية لحادث من النمط الغير الاعتيادي , فيكون بفعله ونتائجه اشبه بخبطة عنيفة في الرأس , تُحدث رجًة عظيمة تكون سببا في اعادة التعيير وتنظيم النفس من جديد لترتقي الى مستوى الحدث , وبالتالي تكون قادرة على التفاعل مع الظروف التي افرزها ذلك الحادث لتسفيد منها في انطلاقة جديدة.
الجميع سمع المطران الجليل الشهيد بولص فرج رحو وهو يُطلق قبل استشهاده سلسلة من تساؤلات ( لماذا ) التي اعترف المطران الشهيد بصعوبة الحصول على جواب شاف لها. ان السؤال الذي يبدو ملحا وضروريا اليوم بعد الجريمة , يكمن في هل سيمثٍل استشهاد المطران الجليل نقطة تحول تاريخية في تفكير واداء قياداتنا الدينية والسياسية والاجتماعية بحيث تُثبت جميعا وبالفعل الملموس انها قد أصيبت , بفعل الجريمة التي أُرتكبت بحق المطران الجليل ورفاقه , بخبطة عنيفة في الرأس اتاح لها الفرصة في اعادة التفكير بمواقفها وتصرفاتها , أم اننا كنا جميعا امام كابوس ثقيل , نوعا ما , وقد رصدنا اياما معدودة لنعالج امره بالصلوات والقداديس والنياح والمسيرات والبرقيات والاتصالات على امل ان نعود بعد اسبوع او اسبوعين الى النوم والغناء كلَُ على ليلاه , دون ان ننكر ان هذه الفعاليات جميعا قد اجادت في تقديم حالنا الحاضر ولكن يبقى الهدف هو في الاستفادة منها في عمل المستقبل.
لقد مثًل المطران الجليل باستشهاده علما اجتمع تحت رايته كل العراقيين على اختلاف انتماءاتهم الدينية والمذهبية والقومية , اما على صعيد شعبنا الكلداني السرياني الاشوري فقد افرز الاستشهاد حالة طبيعية عفوية من الشعور بالوحدة لم تتمكن كل فعالياتنا السياسية ان تحقق جزءا منها خلال السنوات الماضية , بل ربما يصح القول ان لدماء الشهيد المطران رحو الفضل في ترميم جزء كبير من الثقوب التي فعلها الاداء السلبي لهذه الفعاليات في جسم الوحدة خلال الفترة الماضية . لقد برهن شعبنا , ليس لنفسه لانه يؤمن ان هذا هو الحقيقة والمسلمة التي لاتحتاج الى إثبات , ولكنه برهن ذلك لمن يشكو من غشاوة في عينه , بان المطران الشهيد هو حصة سريانية واشورية خالصة بنفس القدر الذي هو فيه حصة كلدانية خالصة , وهكذا انتقم ( شعب المطران الشهيد فرج رحو ) لوحدته التي اصابها ما اصابها طوال السنين السابقة من طعنات الظهر من اهل البيت وسهام الاخرين الشامتين.
انه لوهم كبير ان نعتقد ان استمرارنا في التشرذم والتشتت واستجداء المواقف المؤيدة هو السبيل الناجع للوصول الى ما نصبو اليه من حقوق وحماية شعبنا وقياداته وابنائه , كما حدث مؤخرا عندما احتفل البعض بالكلمات الخجولة الصالحة للاستهلاك الاعلامي الرخيص بخصوص حقوق شعبنا والتي جاءت على لسان رئيس الوزراء العراقي السيد نوري المالكي في سياق لقائه التلفزيوني مع قناة عشتار الفضائية . ان الدعوة الباردة للسيد المالكي بكتابة مطاليب شعبنا وتقديمها هي اشبه بمشهد لازال محفورا بذاكرتي , حيث كانت قد اصبحت شائعة في فترة السبعينات من القرن الماضي ظاهرة إطفاء الاراضي في منطقتنا وكان الرجال الكبار في السن , اصحاب تلك الاراضي , يكابدون حزنا وهم يشاهدون اراضيهم التي يحسبونها مع ابنائهم وهي تُؤخذ عنوة منهم وبتعويضات بخسة , وهكذا كانوا ينتظرون زيارة اي مسؤول حكومي ليشكو له مظالمهم , فما ان يسمعوا بقدوم احدهم حتى تراهم يبحثون عن المتمكن في العربية , إنشاء وتعبيرا , فيكتب لهم التماسا يستخدم فيه كل الوان البيان والبديع في ديباجته ويختمه بكل انواع الدعاء والتمجيد , عسى ولعل هذا يستطيع ان يداعب الاحاسيس ويجعلها تتمايل قليلا مع المطالب العادلة لاؤلئك الكهول المساكين , ولكن مع الاسف كانت كل تلك الجهود , في شحذ الفكر واليراع , تذهب سدى , حيث كانت تلك الطلبات , كما كان يظهر في الفعل اللاحق , تذهب في احسن الاحوال الى سلة الحفظ في الارشيف إن لم يكن الى سلة المهملات . انه لمثير للتندر والعجب , ان تطلب حكومة من شعب ما بتقديم مطالبه لدراستها بينما تمارس بحقه كل اشكال التهميش الى الحد الذي سهت يوما فاعتبرته جالية في بلده !.اضف الى ذلك فان الرسالة التي بثتها وسائل الاعلام قبل ايام واكدت الاستخبارات الامريكية انها تعود لزعيم القاعدة والتي هدد فيها الدول الغربية , وشخًص البابا بالاسم , فانها تمثل قبل كل شئ تهديدا جديا ايضا على شعبنا وحياة ابنائه وزعمائه الروحيين بالذات , كون استعمال الرسائل الغير المباشرة كاوراق متوفرة هو امر شائع في عالم السياسة وخاصة في منظمات العنف والارهاب .
ان امام كتاب ومثقفي شعبنا كما امام فعالياتنا السياسية مهمة مصيرية في تحشيد جهودهم للوقوف صفا متراصا يحاول الامساك بالعصا من المنتصف , في كتابات واداء سياسي يسقيان على الدوام شجرة الوحدة والتماسك وتنسيق الخطاب التي اعطتها دماء المطران الشهيد جرعة مهمة من الحياة , ترك الجميع ينتبه من جديد الى اهميتها ويفخر بها في نفس الوقت . ان العودة مرة اخرى من قبل البعض الى عالم المهاترات والسجالات العقيمة والاصطياد في المياة العكرة واللعب على الحبال المتهرئة والاقصاء والتهميش وفرض الاجندة بالحقن الاجباري , مترادفا مع سياسة البعض الاخر المبنية على المعارضة المطلقة للاخر جملة وتفصيلا وانعدام الرغبة في تأسيس اية جسور مشتركة معه وعدم إجهاد النفس في اكتشاف اية قواسم معه , لهو في مجمله جميعا دلالة عجز سياسي عن التصدي لظروف هذه المرحلة والارتقاء الى مستوى تحدياتها , ينبغي على صاحبه , ايا كان , اعلان تقاعده السياسي او الاعلامي وفسح المجال للاخرين , احتراما لدماء المطران الشهيد ووفاء لمبادئ صُرفت من اجلها احلى واجمل سنين العمر. ان الذين اجتمعوا على الحزن في ( كرمليس ) قادرون , بالتأكيد إن توفرت النية الصادقة ونكران الذات , على اللقاء لما فيه خير ووحدة شعبنا , ان المطران الشهيد وقبله شهداء الايمان , الاب بولص اسكندر والاب رغيد كني والشمامسة الابرار وكل شهداء شعبنا لايطلبون منا نياحا وبكاء وذكرى فقط , بل , قبل ذلك ومعه وبعده , فعلا منظما يُكمل المشوار والمسيرة . كما ان على كتاب ومثقفي شعبنا , و بصورة خاصة ابناء المغتربات , مسؤولية كبيرة في اعادة قراءة ما يكتبونه مرات عديدة قبل دفعه للنشر , والتفكير مليا في جدواه لقضية شعبنا ومصيره , فنتجنب الدخول في مستنقعات اخرى نغوص فيها من جديد , ولا نتورط في هذه الظروف الحساسة في معارك او تخديش للعلاقات مع اطراف ليس من مصلحة شعبنا بتاتا الصراع معها, خاصة عندما يكون ذلك بالترويج لاتهامات تنقصها الدلائل والبراهين , فليس كل مانعتقده صالح للنشر في كل الازمان والظروف , ويبقى لكل حادث حديث , و الكاتب الذي يحترق غيرة على مصلحة شعبه و لاتأخذه في حقوقه لومة لائم هو الذي يترفع عن كل مجد شخصي او مصلحة حزبية ضيقة او تعصب او تطرف اعمى .
تُرى , هل ترى ( حليمة شعبنا ) بمسمياتها المختلفة ان استشهاد المطران الجليل كان كابوسا استفاقت منه لتعود الى عادتها القديمة ؟!, ام ان ذلك كان خبطة عنيفة في الرأس , كافية لنرى اداء سياسيا واعلاميا جديدا ؟.
قادم الايام كفيل بالاجابة على السؤال.