Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

إشكالية النخب السياسية بين الممارسة الحزبية والمشروع الوطني

ان واحدة من أبرز المعطيات وأكثرها تداخلا وتعقيدا في الممارسة السياسية للنخب العراقية هي اشكالية التوفيق بين الممارسة الحزبية وادارة شؤون الدولة. ذلك ما فرضته ظروف الانتقال السريع والمفاجئ من صفوف المعارضة للنظام السابق الي حالة المباشرة في ادارة الدولة وتسيير شؤونها، ما أظهر الي السطح جملة من الاشكاليات التي تحتاج الي وقفة من التأمل والتمحيص والتحليل. وربما بدت هذه المسألة طبيعية في بلد كان يفتقـر الي ابسط قيم الديمقراطية كالتعددية السياسية والحياة البرلمانية والتداول السلمي للسلطة طيلة فترة طويلة من تأريخه المعاصر، لكن من غير الطبيعي ترك الموضوع يمر دون معالجة بأنتظار ما ستفرزه نتائج الانتخابات القادمة. اذا كانت القواميس السياسية الانكليزية قد عرفت كلمة النخبة Elite بأنها: أقوي مجموعة من الناس في المجتمع، لها مكانتها المتميزة، وذات اعتبار. فإن هذا التعريف بعيد كل البعد عن النخب السياسية العراقية عامة والنخب الحاكمة او بعض النخب المشكلة للحكومة خاصة. والتي يمكن اعتبارها مجازا النخبة السياسية الحاكمة. فالنخب في العراق غير متبلورة بالمفهوم والمعني العام منذ تأسيس الدولة العراقية والي الآن، وخصوصا علي المستوي السياسي حيث كانت نتاج الوراثة تارة او نتاج الانقلابات العسكرية تارة اخري، واليوم هي نتاج الديمقراطية والانتخابات بكل ما تحمله الكلمة من معني وعلامات استفهام مع تجربة جديدة علي مجتمع وشعب لم يفقه رموزها ولم يدرك معالمها بعد. واذا كان من دور يذكر لهذه النخبة في الحياة الديمقراطية بالعراق، فهو ما افرزته تجربة الانتخابات الماضية والتي نبهت الي حقيقة مفادها ان الشعب ان لم يتوفر له التوجيه السليم بواسطة أجهزة الاحزاب والهيئات والنخب الثقافية والاجتماعية ورأي الصحافة فانه في معظم الاحيان لا يعرف كيف يختار. وسبب الفشل تتحمله جملة عوامل منها ما يعود الي ان الاحزاب التي لم تمارس دورها الطبيعي داخل المجتمع، ذلك الدور الذي يتمحور في اختيار الاقوي والاكثر كفاءة للقيادة الاجتماعية والسياسية لكي تقدمه، في ما بعد، للشعب الناخب وتطلب منه تأييد اختياره. بل اكتفت هذه الاحزاب بالتكتلات السطحية والتخندقات الطائفية التي لا يقصد منها تعريف الرأي العام بالقادة الحقيقيين بقدر ما كان فرصة لكسب المعترك الانتخابي ساعدها في ذلك آلية نظام القائمة المغلقة. فانحدرت الاحزاب الي مستوي حلقة المصالح الضيقة، وفقد جمهور الناخبين حريتهم فأصبحوا منقادين للمفهوم الطائفي في السياسة واستأثرت الاحزاب من جراء ذلك بالمغانم الانتخابية وانعكس فعلها سلبا علي الدولة والمجتمع.
واذا استطاعت الاحزاب في مناسبة واحدة ان تستقطب الشعب لمطالبها، فإن ذلك حدث بسبب تخلف معظم النخب المثقفة في المجتمع عن اداء واجبها في التوعية وتراجع دورها وبقائها علي هامش الحياة بعد فترات من الانفلات الامني وفوضي السلاح التي عمت المجتمع العراقي في السنوات القليلة الماضية. ولكي تعود النخب الثقافية والاجتماعية لاداء دورها في تثقيف الشعب والنهوض به للاختيار السليم علي المستوي السياسي وتحقيق التوازن المطلوب في مواجهة قصور وتراجع النخب السياسية عن مهماتها، يستلزم الامر العمل المباشر علي اعادة تشكيل القيادات النخبوية الاجتماعية والثقافية وملأ الفراغ الرئيسي الذي احدثته فترات غيابها. لكن هذا لن يحدث ببساطة لان الموضوع ذي خلفيات تتعلق:
1 ــ طبيعة الصراع في المجتمع بين الحداثة والتقليد والذي احتدم منذ مطلع القرن المنصرم.
2 ــ غياب التجانس الفكري والاستقرار للطبقة المتوسطة الوليدة، في حينها، التي كانت بمثابة العمود الفقري للتنظيمات المدنية الحالية.
ان تراجع دور واداء النخبة الحزبية والسياسية الحقيقي في تعزيز قيم الديمقراطية داخل المجتمع، ومسؤوليتها في قيادة الجماهير مرده:
1 ــ انقطاع آلية التواصل بينها وبين الجمهور بحجج الضرورات الامنية. فالنخب علي هذا المنوال محاطة بحلقات مغلقة من السرية في التواجد والتنقل والحواجز الكونكريتية العازلة، واغلب المسؤولين اماكن تواجدهم مجهولة وهواتفهم مغلقة حتي ان الكثير من البرلمانيين شارف علي اكمال دورته دون الالتقاء بناخبيه او زيارة المحافظات التي ترشح عنها.
2 ــ تعمد النخب السياسية عامة والاسلامية خاصة في تعاملها مع المجتمع الي زج الجمهور في تحقيق وفرض ارادتها ومصالحها.
3 ــ اما في حالة تقاسم السلطة، فإنها تعمد عن قصد الي الغاء دور الجمهور والاستئثار بالمزايا لها وللحلقات الدائرة في فلكها.
ان تراجع دور ومسؤولية النخب لا ينفي وجود اشكالية في الممارسة السياسية تعانيها النخب العراقية ماثلة وشاخصة لا تتراجع في الكثير من المفاصل التي لا بد الخوض في أسباب الرهانات القائمة حولها، والتي منها:
ــ الرهان علي الخارج، وهو ما طبع اداء وارتباطات النخب في تحركاتها وتصريحاتها وممارستها السياسية عموما خلال الفترة الماضية.
ــ الانكفاء داخل التنظيمات الداخلية للاحزاب، وغياب روحية الانفتاح الكفيلة بتفعيل العمل الوطني. وهذا ما دفع الرغبة في الاستئثار الحزبي الي الظهور بشكل جلي وواضح علي حساب الغير تارة وعلي حساب المصلحة العامة تارة اخري.
ــ فقدان الجماهير الثقة بالنخب السياسية، وهذا موضوع يتعلق بالمشروع السياسي للاحزاب الذي يتسم بالضبابية والابتعاد عن التطبيق. واشكالية اخري تتمثل في مصداقية الطرح الانتخابي الذي اثبت فشله خصوصا بعد الوصول الي السلطة. وهذا بدوره أدي الي غياب الدعم الشعبي للمشاريع المطروحة حاليا، وانقطاع تام في قنوات الاتصال بين النخب والجماهير.
ــ البون الشاسع بين القاعدة واعلي قمة الهرم النخبوي المتمثل في الكتل البرلمانية وكبار قيادات السلطة التنفيذية الذي أدي فيما أدي اليه الي فقدان النخب السياسية لتطلعات الجماهير وبالتالي العجز عن ايجاد لغة مشتركة بين الطرفين.
ــ تكريس المحاصصة الطائفية في الممارسة السياسية أمرا لا مفر منه. والحقيقة ان المحاصصة الطائفية لا علاقة لها بتعدد الطوائف او تنوع المذاهب او الديانات، فالتعددية الدينية والثقافية بدون شك هي مصدر تنوع واثراء كامل للمجتمعات البشرية وخصوصا ضمن خارطة الوطن الواحد. اما المنطق السائد حاليا الذي يعتبر المحاصصة التي تمارسها النخب السياسية انعكاسا مباشرا وطبيعيا للتعددية الطائفية التي يتسم بها المجتمع. وبالتالي هي ستراتيجية موازية تستخدمها بعض فئات النخبة السياسية في التنافس علي السلطة وسياسة منهجية تتبعها في سبيل تأمين قاعدة اجتماعية شعبية او اثنية او مذهبية تعزز مواقعها الوظيفية والمناصبية، وهو ما تعمدت الاحزاب الي تطبيعه لتكريس المحاصصة الطائفية في العراق كحتمية اجتماعية وتأريخية في كافة دوائر الدولة والحكم وما زالت مستمرة عليه. والدليل علي ذلك تراجع فكرة حكومة التكنوقراط لحساب المحاصصة الحزبية الجارية الان في تشكيل او ملأ الشواغر في الحكومة القائمة.
ــ أمام المعطيات المطروحة نجد ان التصور السائد، يدق ناقوس الخطر، وهو مكمن الفساد، لانه يكرس مفهوماً خاطئا يتعلق بأن المحاصصة داخل الدولة هي انعكاس للطائفية داخل المجتمع، وعلي الافراد القبول بالتعايش داخل الدولة مع ممارسات محاصصية عديدة، وذلك خلاف الواقع، لان النخبة يجب ان تعمل علي الاستفادة من التعددية في المجتمع لتقوية اواصره واغناء التجربة.
ــ الاشكالية المثيرة لعلامات الاستفهام هو اعتبار النخب السياسية الحاكمة في العراق موارد الدولة غنيمة لها ولاحزابها، والكارثة ان هذا التصور عمل علي تحرير النخبة، في الحكم والحكومة، ليس فقط تجاه المسؤولية القانونية بل من واجباتها الحقيقية المتمثلة في بناء دولة ديمقراطية، قوامها مفهوم سيادة القانون فوق الجميع، لا تقاسم السلطة والمناصب بين نخب الحزب الواحد. الامر الذي أدي الي رفع الممارسات الحزبية عن طاولة النقد، لان التصور والتوجه المعمم وحد تماما بين منطق عمل الدولة ومنطق عمل الحزب الذي يستأثر بالمناصب والنفوذ والمزايا علي حساب باقي الصف الوطني محاولا بذلك انهاء أية امكانية لتصور دولة سياسية ديمقراطية تقوم فيها الممارسة علي اساس توسيع المشاركة والانفتاح والمحاسبة Opinions