إلى أبناء وبنات شعبنا: الأمة التي تخسر لغتها تخسر ذاكرتها وتاريخها وثقافتها وهويتها
جامعة ينشوبنك – السويدمقدمة
الشعب الذي يتمسك بلغته القومية معناه أنه شعب حي تمكن من المحافظة على ذاكرته وتاريخه وأدبه وفلكلوره ومسويقاه وكيانه وهويته وثقافته – المكونات التي لولا اللغة القومية لما إستطاع شعب تميز ذاته وهويته عن الشعوب الأخرى.
ماذا عن شعبنا؟
كلمة "شعبنا" تعني لأغراض هذا المقال تسمياتنا المختلفة دون ذكر أي إسم منها صراحة. نحن شعب غادر لغته طواعية. ونحن نموذج لشعب سلم ذاكرته وتاريخه وفلكلوره وموسيقاه وكيانه وهويته وثقافته للأخرين لا بل داس عليها بأقدامه. وهذا لم يفعله أي شعب أخر في التاريخ. هناك شعوب ثارت عندما حاول أخرون تغير لغتها القومية وأعطت الاف الشهداء في سبيلها.
هل شعبنا أمي أم متعلم؟
يعتقد الكثير من أبناء شعبنا أن كونهم يتكلمون السورث (وصارت اليوم لهجة هجينة هي غليط من عدة لغات ولهجات وغالبية مفرداتها لا علاقة لها باللغة الأم)، فإنهم يقعون في خانة المتعلمين. هذا هراء. الشخص الذي يقول "رجوع رجوع، هوب هوب لا سحقتي" هذا يتكلم لغة هجينة نسميها "بيجن"، أي كشكول مختلط، وليس لغة. هذا من جانب.
ومن الجانب الأخر، وهو الأهم، ألأمية لا تمحى إذا كان الشخص قادرا على التحدث فقط. لأن كل إنسان قادر على الكلام. وإذا أخذنا هذا المنطلق كمعيار معناه أنه لا يوجد أمي واحد في العالم. الأمي هو الذي بإمكانه التكلم ولكن ليس بإستطاعته القراءة والكتابة.
ما هي نسبة الأمية في شعبنا؟
لو أخذنا اللغة الأم، السريانية، (سمها ما شئت هذا لا يغير في الأمر شيئا)، أي اللغة القومية، التي هي ذاكرة القوم وهويتهم وتاريخهم وثقافتهم وكيانهم، فإن نسبة الأمية قد تصل إلى 99% بين صفوف شعبنا او أكثر. بمعنى أخر أننا ربما أكثر شعوب العالم بعّدا عن لغتنا القومية وإن أردنا محو أميتنا فإننا نتجه صوب لغات غريبة عن ذاكرتنا وتراثنا وثقافتنا وتاريخنا وهويتنا.
ماذا يحدث عندما يبدل الفرد او المجتمع او الأمة لغتهم؟
نحن شعب بدل لغته طوعا وغادر لغته القومية. وعندما تغير لغتك القومية معناه أنك تكتسب ذاكرة وتاريخ وثقافة جديدة. بمعنى أخر أنك تدوس بأقدامك، بإرادتك او بدونها، على تاريخك وذاكرتك وثقافتك وهويتك. وعند إكتسابك للغة جديدة كي تحل محل لغتك القومية معناه أنك لبست لباس قومية ذلك القوم. اليوم لا نستطيع أن نقول إن إبراهيم اليازجي وإيليا ابو ماضي وجورجي زيدان وجبران خليل جبران وخليل مطران ويوسف الصائغ وغيرهم من عمالقة الشعر والأدب العربي الحديث أنهم من أبناء شعبنا. ولا نستطيع القول أنهم كانوا جزءا من ذاكرة وتاريخ وثقافة وكيان شعبنا. أخذوا مكانتهم اللامعة في ذاكرة وتاريخ وثقافة شعب أخر.
كيف يتعامل الفرد او المجتمع او الأمة التي تبدل لغتها مع لغتها القومية؟
الأمة التي تبدل لغتها القومية لصالح لغة غريبة عن ثقافتها وذاكرتها وتاريخها كما فعلنا نحن، تقع طواعية في حب اللغة الجديدة أو أي لغة أخرى درجة أنها تنبذ اللغة الأم وتحملها الكثير من المأساة والتهميش الذي تشعر به. فتتصور أن إنقلابها على اللغة الأم – وهذا أسوأ إنقلاب كارثي يحل بالبشر – ثورة في الإتجاه الصحيح وهي قد تدري او لا تدري أنها بهذا الأمر تمحو ذاكرتها وثقافتها وتاريخها وأدبها وشعرها وموسيقاها وفولكلورها وهويتها. وتبدأ الأمة هذه بالتباهي بأسماء وأعلام وشعراء وأدباء وموسيقيي اللغة الجديدة التي إكتسبتها درجة أنها تنسى كل ما لديها.
هل تبديل اللغة نوع من الإستعمار؟
العمل على تبديل اللغة (مثلا التعريب او التكريد) هو أسوأ انواع الإستعمار. يظهر التاريخ أن النظم والمؤسسات الإستعمارية والشمولية تمنح لغتها اليد العليا على لغات الأقوام التي تحت سيطرتها وتعطيها أهمية بالغة تصل درجة المغالاة وتخصص لها من المصادر والموارد ما تخصصه لقواتها المسلحة.
ولهذا ترى ان الأمم الحية مثل الفرس والأكراد والعرب يقاومون بما لديهم من قوة أية محاولة لطمس لغتهم. والتاريخ خير شاهد على ذلك.
ماذا فعلنا نحن؟
نحن عربّنا أنفسنا على طبق من ذهب دون مقاومة على الإطلاق. وعندما سنحت لنا الفرصة كي نرفع نير التعريب عن كاهلنا بعد سقوط نظام صدام حسين كما فعل الأكراد والتركمان مثلا إزددنا تعريبا درجة أننا نفضل ترتيلة عربية رتيبة ومملة ذات كلمات سمجة على ترتيلة فيلسوف ولاهوتي وعالم مثل أفرام ونرساي وماروثا من الذين لم تلد ليس المسيحية بل الإنسانية من أمثالهم.
هل تحارب الأمة التي غيرت لسانها لغتها القومية؟
نعم. والدليل ما يحدث لشعبنا اليوم. يشن الذين بدلوا لسانهم طواعية، كما فعلنا نحن، حملة شعواء على كل ما يتعلق باللغة الأم من ذاكرة وتراث وتاريخ وهوية وحتى ريازة وعمران. فنحن لم نترك مثلا كل ما تركه لنا أجدادنا العظام من تراث كنسي وأدبي وعلمي بل قمنا بمسح ذكراهم حتى من ريازة كنائسنا. واليوم نفضل ريازة لاتينية رومانية في بناء كنائسنا على الريازة العمرانية التي تركها لنا أجدادنا.
ليس ذلك حسب، بل نتصور أن الذي ينادي ويطالب بإحياء تراث الأجداد العظام إن كان من خلال العودة إلى التراث الكنسي او الكتابي شخصا معتوها او أميا. وهكذا نتصور أن كل ما أتانا من الخارج أفضل بكثير مما لدينا من كتب الصلوات والتراتيل واسماء القديسين وكتب الأدب والقصص والشعر وغيرها.
هل محاربة اللغة الأم تقف إلى هذا الحد؟
كلا. يبدأ القوم الذي قبل تغير لغته القومية طوعا بإلغاء أي علاقة وجدانية له مع الهوية القومية – العلاقة الوجدانية تعني علاقة حميمة مع اللغة الأم مع كل الصفات المتعلقة بها والتي ذكرناها أنفا. فمن منا بإستطاعته تذكر إسم من أسماء علمائنا الفطاحل الذي أسسوا مدارس وجامعات، على غرار مدرسة الإسكندرية، إن في نصيبين او الرها او جنديسابور او بغداد؟ حتى مؤسساتنا الدينية والدنيوية أسدلت الستار على الإنجازات العلمية لأجدادنا. مدرسة الرها التي درس فيها علماء كبار من أمثال إيهيبا وبرصوما وأفرام ونرساي وصارت تعاليمها في الفلسفة واللاهوت والعلوم الطبيعية الأخرى تقلق أباطرة روما ومذهبهم الكنسي درجة أن الإمبراطور زينون إضطهدها أشد الإضطهاد مما أضطر رئس هذه الجامعة الهرب إلى نصيبين ونقل جامعته هناك.
هل نعرف من هو برصوما؟
كلا. ولا نريد أن نعرفه. ولكن هاكم ما يقوله التاريخ عنه. برصوما الذي إضطهده مذهب كنسي أخر كان تحت حكم الرومان هرب إلى نصيبين التي كانت عندئذ تحت حكم الفرس الوثنيين وهناك أسسس في منتصف القرن الخامس الميلادي ما يعد بحق كلية لاهوت وفلسفة من الطراز الأول يضعها بعض المؤرخين في قمة الجامعات التي أسست ليس في الشرق بل العالم أجمع.
بدلا من إحياء التراث اللاهوتي والكنسي والفلسفي الذي تركته جامعة برصوما لنا، ذهبنا إلى جامعات أخرى لدراسة تراث كنسي أخر وبلغات أخرى واليوم ندرس في المعاهد التي لدينا (ربما معهد واحد في عينكاوة وأخر في الأشرفية حسب علمي) أمورا غريبة عن تراثنا كان برصوما وأصحابه من العلماء ومنهم العلامة نرساي وأفرام وغيره قد سبقوها في كتاباتهم ومحاضراتهم قبل حوالي 1500 سنة.
هل نعلم أننا أول شعب إخترع نوتة موسيقية؟
كلا. هذا لا نعرفه ولا نريد أن نعرف أي شيء عنه. وضع الأساتذة الأجلاء في هذه المدارس نوتة موسيقية، ولو بشكل بدائي، تمكن بواسطتها شعبنا الحفاظ على تراثه الفني والموسيقي لقرون عديدة. واليوم لا يعرف عن هذه النوتة الموسيقية إلا بعض الأفراد وهي في طريقها إلى الإندثار. اما الالحان والمقامات التي وصلتنا منهم، فهذا لا شأن لنا به.
قارن كيف حافظ الفرس والأتراك والكرد والعرب على ألحانهم ومقاماتهم وموسيقاهم وقارن كيف أننا لم نلغي هذا التراث بل نشمئز منه رغم كونه أقدم وأكثر نضجا من حيث الأداء والتلحين والكلمات مما لدى الشعوب الأخرى في المنطقة.
قولوا لي بالله عليكم أي أمة تستهين بهكذا تراث موسيقي يحفظ لها ذاكرتها الموسيقية على مدى حوالي ألفي عام؟ وأي أمة في الدنيا لها هكذا تراث موسيقي تستطيع إراجعه إلى القرون المسيحية الأولى؟
هل حدث وأن إستهانت أمة بتراثها؟
نعم. نحن الذين بدلنا لساننا نستهين اليوم بتراثنا، وإلا كيف نفسر تكالب جوقاتنا وموسيقيينا وكنائسنا على تراث موسيقي أجنبي معظم ألحانه وكلماته رتيبة، سمجة وسيئة الوقع على السامع. لو كانت أمة أخرى لما إستبدلت لسانها اولا وما إستهانت بهكذا تراث فريد لا يملك مثله أي شعب أخر في العالم.
هل حدث وأن قاومنا؟
ولأننا بدلنا ذاكرتنا وثقافتنا وتاريخنا لأننا غيرنا لغتنا، نحاول طمس الكوارث التي حلت باللغة الأم وعدم إكتراثنا بها. وأكبر وأسوأ كارثة حلت بنا وبلغتنا وثقافتنا في العصور المتأخرة لم تقع على يد الثقافات والأديان التي عشنا معها لأكثر من ألفي سنة، بل عل يد مؤسسة كنسية (سنتحفظ على ذكر الأسماء) التي سلمت الملايين من بني قومنا فريسة سهلة للضواري والذئاب الإستعمارية من مؤسسسة كنسية أخرى. قاوم هؤلاء أشد مقاومة للحفاظ على اللغة القومية ولكن بطش الإستعمار الكنسي كان هائلا حيث كانت تسانده قوة إمبراطورية إستعمارية. فأنهال أفراد هذه المؤسسة مثل الذئاب الكاسرة على بني قومنا وأجتثوا ذاكرتهم وثقافتهم وتاريخهم من الجذور بعد أن قتلوا من قتلوا واحرقوا الكتب أي أحرقو اللغة الأم ودانوا المقاومين بالحرمان الكنسي لا بل نتفوا لحاهم. هذا الحدث الأليم الذي يرقى إلى جريمة ضدالإنسانية والثقافة الإنسانية لا يذكره أحد لأننا كلنا تقريبا أميون بقدر تعلق الأمر باللغة الأم – وهذا معناه أنه لا ذاكرة لنا بقدر تعلق الأمر بلغتنا القومية.
وأخر محاولة متواضعة للحفاظ على لغتنا من عوادي الزمن جرت في مستهل الستينات من القرن الماضي عندما إنبرى رجل دين مقاوما الضغط الهائل من قبل محبي الألتنة (من اللاتينية). ولكن هذه المقاومة سرعان ما تبخرت لأن المذهب لدى شعبنا يأتي قبل اللغة القومية ومزاياها.
ما هي محصلة مغادرة اللغة الأم؟
بالإضافة إلى فقدان الذاكرة والتاريخ والثقافة، يشرع هؤلاء الأفراد والمجتمعات والأقوام على بسط أميتهم باللغة الأم على التاريخ، فيبدأون بالقفز فوقه وعليه، لأنه لا ذاكرة لهم باللغة ألأم، وليس بإمكانهم ذكر إسم او إسمين من اعلام لغتهم، ولا يحفظون بيتا شعريا واحدا لشعرائها ولا يأخذون أي من أعلامها رموزا كما تفعل الشعوب الأخرى.
ولأنها لا ذاكرة لها ولا تاريخ لها لأنها تركت لغتها القومية، تبدأ هذه الأمة بالإنتساب إلى رموز تاريخية وشعوب تاريخية لا علاقة وجدانية ولغوية لها معها على الإطلاق. فهذا ينادي أن جده نبوخذنصر ورمزه التاريخي أنكيدو وأكيتو والأخر ينادي أن جده أشور ورمزه التاريخي أشور بانيبال وأسرحدون. والإثنان لا يستطيعون فك طلسم من لغة هؤلاء القوم ولا قراءة حرف من حروفهم وحتى لا يعرفون معنى أسمائهم.
شعبنا إلى أين؟
مع إحترامي وتقديري لكل الاسماء التي يطلقها شعبنا على نفسه ومع إحترامي وتقديري لكل المذاهب التي يتبعها، إلا أنني أقول صراحة إن شعبنا في طريقه إلى المجهول، يقوده اليوم أشباه العلماء فاقدي الذاكرة والتاريخ والثقافة التي تكتنزها اللغة القومية ومكتسبي ذاكرة جديدة وثقافة جديدة وتاريخ جديد.
وطالما لا نملك لغة قومية خاصة بنا – نكتبها ونقرأها – فنحن قوم زاحفون صوب المجهول.
وكان الله في عوننا