إلى الأستاذ أبرم شبيرا ومنه إلى كل كتاب ومثقفي شعبنا: قللوا من الكتابة في غير إختصاصكم رجاءا
جامعة يونشوبنك - السويدشعبنا بتسمياته ومذاهبه المختلفة في وضع حرج لا بل في مخاض إن لم نمنحه الرعاية الكاملة فنحن وإياه في خطر كبير لا بل مميت – إنه خطر الزوال والإندثار.
والأخطار التي أحدقت وتحدق بشعبنا على مر التاريخ كانت أخطارا داخلية وخارجية. الأخطار الخارجية يتحدث عنها المؤرخون بإسهاب وهي خارج نطاق مقالنا هذا.
أما الأخطار الداخلية – والتي هي لب موضوعنا هذا – تتمثل بما نلحقه نحن ابناء الشعب الواحد من الكلدان الأشوريين السريان بأنفسنا. هذه الأخطار كان ولا زال وقعها علينا كشعب كبيرا او قد يفوق تأثيرها ما تعرضنا ونتعرض له من أخطار خارجية.
بين التفكيك والتفليش
في إنتقاده لما أكتبه عن قضايا وهموم شعبنا، إتهمني زميل لي بأن كتاباتي "تفليشيّة." بمعنى أخر أن ما أكتبه عن مؤسساتنا – لا سيما الدينية منها – أدى إلى تفليشها. ردي عليه هو أنني أعتبر هذا مدحا وليس ذما. نعم أنا أكتب مقالات قاسية ولكنها ليست "تفليشيّة" بل تفكيكيّة.
والتفكيكيّة مفهوم فلسفي معاصر أتى به الفيلسوف الفرنسي الكبير جاك دريدا وهو أكثر الفلاسفة تاثيرا على المنهج العلمي الذي أتبعه في كتاباتي الأكاديمية وربما هو الذي شجعني على كتابة مقالات "تفليشيّة" كما يسميها زميلي الكاتب. ولا أعلم إن كان زملائي من كتاب شعبنا قد قرؤا دريدا ولكن بإختصار شديد يفكك (يفلّش، حسب تعبير زميلي الكاتب) هذا الفيلسوف العملاق معظم افتراضاتنا ومعتقداتنا ويلامس ويدغدغ المفاهيم الأكثر حساسية فينا فهو بدلا من تعرية أجسادنا يعري جذورنا الفكرية والعقائدية.
وكتاب ومثقفي شعبنا، وأنا واحد منهم، أحوج ما نكون إلى شخص مثل دريدا يفكك (يفلش) لنا الكثير من المفاهيم الثقافية واللغوية والدينية والمذهبية التي نتعلق بها وندافع عنها متصورين أننا نقدم خدمة لثقافتنا ولغتنا وقوميتا وديننا ومذهبنا ولكن في الواقع نساهم – من حيث ندري او لا ندري – بإلحاق أذى لا بعده أذى بواقع ومستقبل شعبنا الذي في الأساس شعب مضطهد ومجروح وإن لم نداوي جراحه هناك إحتمال كبير أن نخسره.
مصدر الخطورة المحدقة بشعبنا
الخطر الداخلي (الذي نشكله نحن) على شعبنا يأتي في أغلبه مما نكتبه نحن الكتاب والمثقفين لا سيما في أمور وقضايا ثقافية ولغوية وتراثية وعلمية خارج إختصاصنا. فترى هذا الكاتب يحمل بكلوريوس في الكيمياء أو علوم الحاسبات وإذا به يخرج علينا كبهلوان يسطر مقالا بعد الأخر في الشؤون التاريخية والثقافية واللغوية والأدبية المتعلقة بشعبنا.
هذا لا يعني أنه لا يحق لنا التطرق إلى امور في غير إختصاصنا ولكننا عندما نكتب فيها علينا الإعتراف أن هذا خارج إختصاصنا وأن ما كتبناه لا يعتد به ما لم يؤيده عالم اوأستاذ في إختصاصه.
ومع الأسف الشديد هذا لا يقبل به الكثير من كتاب ومثقفي شعبنا لأنهم وضعوا مذهبيتهم ومفاهيمهم التي غذتها مؤسسات مبنية على التعصب والمذهبية المقيتة والمفاهيم المغلوطة فوق اي إعتبار حتى إعتبار العلم والإختصاص.
الشعوب الحية تفعل العكس تماما. تهمّش، لا بل لا تعير أية أهمية، لكل من يكتب في غير إختصاصه، وتعلي شأن المختصين وتسمع لهم وتعمل حسب نصيحتهم.
ولهذا صرنا اليوم نسمع كلام الذي يوصف الخشخاش دواءا للعيون ونستهجن وصفة طبيب عيون إختصاص يحمل أرقى شهادة علمية في إختصاصه:
مثل الخشخاش والعيون المريضة
أسرد لكم هذا المثل الذي يحمل في طياته مقاربة ومقارنة قريبة جدا للأثر والنتيجة التي يحصل عليها شعبنا من كتاب ومثقفين يكتبون في غير إختصاصهم ولا يعيرون أية أهمية لأصحاب العلم والإختصاص.
كان هناك رجل نهض من النوم وفي عينيه إحمرار شديد بالكاد يستطيع فتحهما. وكان لهذا الرجل صديق حميم يشاركه أتراحه وأفراحه. فهرع الرجل إلى صديقه طالبا النصيحة.
وبدلا من أن يشير إليه صديقه بالذهاب إلى طبيب العيون– طبيب إختصاص – نصحه بوصفة طبية من عنده مفادها جمع كمية صغيرة من الخشخاش من البرية ودقها في هاون ونقعها وعجنها ومن ثم ملىء عينيه بها قبل النوم.
وفعل الرجل ذو العينين المحمرتين كما نصحه صديقه. وفي الصباح وقعت الطامة الكبرى حيث لم يعد بإستطاعة الرجل الرؤية ومنذ ذلك اليوم دخل هذا الرجل المسكين في خانة المكفوفين.
كتابات أفقدتنا البصر
وأنا أوجه رسالتي هذه إلى الأستاذ شبيرا ومن خلاله إلى كل كتاب ومثقفي شعبنا، هدفي الأول هو التبصير – منح شعبنا حق الرؤيا بشفافية خالية من التعصب والمذهبية المقيتة، شفافية تمكن شعبنا من التميز بين الغث والسمين، بين الحق والباطل، وبين العلماء والمثقفين وأنصاف وأشباه العلماء والمثقفين.
وهدفي الثاني ينطلق من حرصي ومحبتي لشعبنا ولغته وثقافته وتاريخه وأدبه وفلكلوره وموسيقاه وإيماني العميق أننا شعب واحد رغم تسمياتنا ومذاهبنا المختلفة.
والهدف الثالث هو إعتقادي أنني أشترك في كثير من الأمور مع ألأستاذ شبيرا الذي يعد واحدا من الكتاب البارزين من مكون شعبنا الأشوري وقد يضعني البعض في خانة قد تكون موازية لمكانة الأستاذ شبيرا بين مكون شعبنا الأخر ألا وهو الكلداني.
نقاط الخلاف
أعتقد أنني أختلف مع الأستاذ شبيرا ومعظم كتاب ومثقفي شعبنا في نقاط عدة منها:
اولا: أحاول أن لا أكتب أو أتكلم في غير إختصاصي
ثانيا: أقف موقفا وسطيا من التسميات والمذاهب، لا أفضل واحدا منها على الأخر وأراها متساوية في القيمة الدينية والدنيوية – من حيث التاريخ واللغة والثقافة والدين (المذهب).
ثالثا: الأستاذ شبيرا ومعه الكثير من كتاب ومثقفي شعبنا يضعون ما لهم فوق الكل، درجة أنهم يقعون في مغالطات تاريخية وثقافية ولغوية شنيعة لا يقبل بها لا العلم ولا حتى الحس السليم.
رابعا: الأستاذ شبيرا ومعه الكثير من كتاب ومثقفي شعبنا يكتبون في غير إختصاصهم وكأنهم أصحاب الإختصاص وهذا أكبر خطر يواجهه شعبنا وإن لم نضع حدا له فإنه قد يؤدي إلى فقداننا للبصر والبصيرة إي هلاكنا كما حدث لصاحب العيون المريضة في المثل أعلاه. وبهذا فإنهم يؤلبون شعبنا على نفسه وبدلا من تجميعه يعمدون إلى تفريقه وشرذمته.
البرهان
لنقل إن ما ذكرته فرضيات بحاجة إلى برهان. وليسمح لي الأستاذ شبيرا أن أخذ المقال الذي كتبه مؤخرا بعنوان: "قاموس أشوري لجامعة شيكاغو قفزة نوعية في علم الأشوريات" (رابط 1) كدليل. وأنا أحاول البرهنة على الفرضيات التي أتيت بها، ينتابني شعور بالحزن والأسى على ما آل إليه وضع شعبنا.
النقطة الأولى
الذي يقرأ المقال لا يخرج إلا بمحصلة واحدة أن القاموس أشوري بالمعنى الحرفي.
بالطبع هذا هراء ومغالطة كبيرة لأن القاموس ليس أشوريا بالمعنى الحرفي بل يعني بعلم الأشوريات. وشتان بين الأشوري والأشوريات. الأشوريون القدامي جزء صغير جدا من حضارة الشرق الأدنى، الحقيقة التي يغفلها الكاتب. القاموس قاموس حضارات الشرق الأدنى لا سيما التي كانت في فترة غابرة من الزمن (من الألف الثالث قبل الميلاد وحتى نهاية الألف الأول) تنطق بالأكدية وغيرها من لغات شعوب الشرق الأدنى القديم.
هذه المعلومة المهمة يضعها علماء جامعة شيكاغو في الصفحة الأولى من موقعهم الإلكتروني (رابط 2) وتؤكد أن القاموس يعني بحضارات ولغات وعلوم وثقافات وتاريخ الشعوب التي عاشت قديما في الشرق الأدنى. والمفهوم الأثاري والتاريخي للشرق الأدني القديم وكل الحضارات والشعوب القديمة التي قطنته ويغطي بلاد النهرين (العراق وسوريا) الأناضول (تركيا اليوم) وليفانت (لبنان وفلسطين وإسرائيل والأردن) وإيران القديمة وحضاراتها من الفرثية والعيلامية والفارسية والساسانية وغيرها.
قاموس الأشوريات هذا يعني بكل هذه الأمم القديمة التي عاشت في هذه الأرض الشاسعة وحضاراتها وثقافاتها واعلامها وأديانها ولغاتها وأدبها. تحويره يعد كارثة بمفهوم الإختصاص والعلم.
النقطة الثانية
يقول الكاتب أنه يعيش بالقرب من المتحف البريطاني وأحسده على ذلك. ولكن هذه النقطة بالذات كان يجب عليه إستغلالها بصورة علمية وعملية كي يفيد منها شعبنا كما سأوضح لاحقا.
يقول الكاتب أن لغة القاموس أكدية. نعم هذا صحيح، ومعظم الشعوب القديمة التي عاشت في العراق القديم كانت لغتهم الأكدية ومنهم الأقوام التي ندعي أننا أحفادهم. ولكن لا يوضّح أن لغتنا السريانية لغة مستقلة وعلاقتها بالأكدية لا تتجاوز كونها لغة سامية شأنها شأن العربية والعبرية والحبشية والفينيقية وغيرها من اللغات السامية.
وكي يبرهن الأستاذ شبيرا على نظريته يذكر لنا بعض المفردات التي يراها متشابه لما لدينا في السريانية. وهنا تكمن الطامة الكبرى. لو أخذنا بهذه النظرية لكانت الإنكليزية أصلها عربي لأن ليس فيها بعض المفردات لا بل مئات المفردات ذات الأصل العربي. وإن أخذنا بهذا المفهوم الذي يستند على بعض المفردات لتقرير أصل لغة ما لكان أصل معظم اللغات في الدنيا يوناني لأن لا توجد لغة في الدنيا لا تحتوي مئات من المصطلحات والمفردات اليونانية.
النقطة الثالثة
يستقي صاحب المقال كي يبرهن نظريته أن لغتنا أكدية (لغة شعوب العراق القديم) أنه وكثير من الإنكليز لا يفقهون لغة شكسبير التي كانت سائدة قبل حوالي 400 سنة.
ردي على ذلك هو أنك والإنكليز لا تسستطيعون قرأتها لأن إمكانياتكم اللغوية محدودة جدا. فأنا، كمختص في علم اللغة، وكاتب أستخدم الإنكليزية في كتاباتي، أقرأ شكسبير بطلاقة لا شكسبير فقط بل أقدم مخطوطة باللغة الإنكليزية ومنها كتابات شوصر، وهو واحد من أقدم الكتاب الإنكليز.
وبما أنني أقرا السريانية الفصحى (الطقسية) التي تعود جذور بعض نصوصها الكنسية الى القرن الأول قبل الميلاد لكان بإمكاني قراءة الأكدية لغة شعوب العراق القديم ولكنني لا أستطيع ولا بإستطاعة أي عالم من علماء السريانيات. علينا تعلمها وذلك بدراستها كما ندرس أي لغة أجنبية أخرى.
فمثلا، مديرية الدراسات السريانية التي تم تشكيلها مؤخرا لا علاقة لها بدراسة اللغة الأكدية لغة الشعوب التي ندعي الإنتماء إليهاولا بعلم الأشوريات في جامعة بغداد او جامعة شيكاغو حيث صدر القاموس. الدراسات السريانية التي ستعني باللغة والتراث والثقافة سيقوم بها أساتذة مختصون بلغتنا وتراثنا السرياني وليس بتراث شعوب العراق القديم وكل الأمم القديمة التي كانت تتكلم الأكدية في الشرق الأدنى.
كيف وقعنا في هذا الفخ
هذا ليس فخا بل طامة كبرى أن يحاول البعض الإنتسباب إلى أمم لم تتحدث لغتهم وليس بإمكانهم حتى تفسير معنى إسم لهم أو فك طلسم حرف مما كتبوه. وهذا الإنتساب غير العلمي الذي لا يؤكده أي عالم في الأشوريات صار عبئا فكريا وسياسيا وثقافيا وعنصرا هداما لا يتشبث به إلا من لا إختصاص وعلم له.
وأنت تعيش بالقرب من المتحف البريطاني
لو كنت مكان الأستاذ شبيرا ومكان كل مدعي الإنتساب إلى لغات وثقافات غريبة عن لغتنا وثقافتنا لحاولت ولو لمرة واحدة على الأقل أن أسأل أصحاب الإختصاص بدلا من الوقوف امام التماثيل والأصنام والرقم والتباهي بها وأنا لا أفقه أي شيء منها.
فمثلا بإمكان الأستاذ شبيرا – وهو كاتب بارز من أبناء شعبنا وكل الكتاب والمثقفين الأخرين – الإتصال بعالم الأشوريات القدير جون كرتس الذي يدير قسم الشرق الأدنى في المتحف البريطاني ويأخذ مسجلا معه ويلتقي به ويسأله ويستأنس برأيه قبل الكتابة.
ولكن لا يستطيع هؤلاء فعل ذلك لأن العلم والإختصاص ليس ديدنهم والوصول إلى الحقيقة من خلال العلم والإستقراء والبحث لا شأن لهم به. همهم الركض وراء سراب الماضي السحيق معتقدين أن أهميتهم ومساهمتهم في الحضارة الإنسانية تعتمد على أقدميتهم وينسون ان الإنتساب إلى شعوب غابرة له مقومات علمية وتاريخية ولغوية بإمكان علماء اليوم التحقق منها بسهولة.
ولهذا فإن ذهب هؤلاء إلى علماء جامعة شيكاغو، الذين أمضوا عقودا في تأليف قاموس الأشوريات، وقالوا لهم نحن أحفاد هذه الشعوب لغويا وإثنيا لوقع هؤلاء العلماء على قفاهم من الضحك. وحقا لقد جعلت هذه الكتابات منا أضحوكة.
رابط 1
http://www.ankawa.com/forum/index.php/topic,525181.0.html
رابط 2
http://oi.uchicago.edu/research/pubs/catalog/cad/