إلى المهجر الآشوري الصامت: زهورهم الغالية ودماؤنا الرخيصة!
اتصل بي "ابن برور" الصديق الاخ الذي يهوّن عليّ كثير من غربتي. انسان تنطبق عليه تلك العبارة التي نقرأها أحياناً في زوايا الصفحات[ لم تنصفه الحياة ]،لا بل أزيد وأقول، كم كنت اتمنى ـ وانا العارف بكل ظروفه وبما قدمه، ليس لأبناء الجالية الآشورية فحسب، بل لكل من طلب العون ـ ان يكون مُفرغاً للعمل في الشأن السياسي الآشوري، وذلك لما يمتلكه من كاريزما تجمع بين الحس العالي بالمسؤولية، وعشق مهذب للآشورية، تشعر وانت تسمع في وصفها وكأنها مجرد مذهب أخلاقي، أو رسالة سماوية انبياؤها كانوا مجرد بشر لا أكثر.على الهاتف، اتفقنا ان نلتقي في موقف محدد للحافلات [ في إحدى العواصم الاوروبية]. وفي طريقنا لأحد المقاهي، بدا منفعلاً على غير العادة، بل ومحبطاً، وسرعان ما أردف قائلاً:
ـ لقد أصبحنا شعب بلا روح وبلا حياء. هل يُعقل هذا الصمت المخجل لأبناء الجالية الآشورية في العالم تجاه ما يحدث للآشوريين (المسيحيين) في بغداد. أين هي منظماتنا وأحزابنا، اين هي جماهيرنا؟.
تبادلنا وجهات النظر في هذه المسألة، كلانا أجمع على اننا نمر بحالة عناد شخصي لا أيديولوجي، وهو ما أفرز حالة الفتور واللامبالاة هذه، فالتنظيمات السياسية الآشورية متعددة ومتنوعة بشكل مُبالغ فيه، وتوحيد خظاب سياسي في قضية ما، أصبح مسألة خاضعة لأهواء القيادات السياسية متمثلة بأشخاص، حذفوا من قواميسهم السياسية مصطلح
/ المصالحة/ أو حتى التقارب. وما أزمة الآشوريين اليوم إلا امتداد لأزمات سابقة ولكن تحت عناوين مختلفة، ولو كنا كأشوريين اكتفينا بمتابعة وتفعيل القضية الآشورية في المحافل الدولية، وذلك دون السماح بفتح باب المناقصات والاجتهادات، لكنّا اليوم قادرين على معالجة أية أزمات، وفق منظورنا وبشروطنا، وليس كما هو حاصل اليوم، بضع رسائل ومجموعة بيانات، ستُهمل كما غيرها، والسبب خروج الآشوريين من المعادلة السياسية، وبالتالي عدم تأثيرهم في موازين الربح والخسارة.
دخلنا إلى أحد المقاهي، حيث الخدمة ذاتية فيها. توجّه ابن برور كالعادة إلى عصير التفاح، ثم ما لبث ان هدأت نفسه وابتسم قائلاً:
ـ يوماً ما سأدعوك إلى تناول عصير التفاح في برور. وسنجلس تحت تفاح برور الشهير، وسنتسامر ونتحدث ولو لمرة عن الرياضة وعن الفن وذلك بدون ان نربط ذلك بهمومنا القومية. نحن شعب نحتاج السلام ونستحقه، وعندما نحققه، سنفعل الكثير...
اتجهنا إلى زاوية كانت الاكثر هدوءاً. لكن طاولاتها كانت مصممة بشكل كانت فيه المقاعد بشكل مشترك. وما ان بادرت بالجلوس وصديقي أيضاً، حتى دوت في الافق صرخة وأي صرخة!. اعتقدنا ان شيء رهيب قد حصل، وسرعان ما رأينا امرأة تهرول باتجاهنا، وتصرخ محّدقة نظرها إلى صديقي.. كان صراخ غير عادي... وسرعان ما ارتمت على المقعد، الزهور!. خفت ان لاتراها.. فهي في هذا الكيس... خفت ان تضع شيئاً عليه...
تجشّم ابن برور في مكانه، ونظر إليها باستغراب، ثم تنهّد قائلاً:
ـ كنت قد رأيت الكيس( الحقيبة) يا سيدتي.
ثم ابتسم وهو يهزّ برأسه، وألقى بنفسه على المقعد، فيما اقتربت هي وبدأت تعتذر وتشرح عن أهمية هذة النوعية وكيف حصلت عليها، وكم هي حسّاسة!. اعتذرت ربما عشرات المرات، وحاولنا بدرورنا ان نخفف من شعورها بالحرج.
سيدة بجانبنا نظرت إليها بازدراء وتمتمت قائلة: اعتقدت انها كانت تصرخ من أجل طفل.
بعد ان ارتشف صديقي قليلاً من عصير التفاح، قال والحسرة تعلو وجهه:
ـ انظر ماذا فعلت فقط من أجل الزهور. انفعلت وخافت وصرخت وأي صراخ. ونحن جالياتنا الآشورية في المهجر
" الاغلبية لديها أقارب واصدقاء في العراق " صامتة غير مكترثة، وربما تخجل من التظاهر والصراخ. هل يحتاج التظاهر والاحتجاج إلى برامج سياسية؟.
للحظات أحسست انني فقدت الاحساس بالمكان، كنت أتأمل الوجوه من حولي، أردت الهروب من هذه الذاكرة المثقلة بالأحزان، وللحظات تملّكتني الانانية وتمنيت لو انني مثل هؤلاء الجالسين حولي، يتصفحون جرائدهم، وأعرف ما بداخلها، فعدا عن الاخبار الدولية، فهي تعج بمواضيع تتعلق بالضريبة والعمل، والاحتباس الحراري وخطره، ومواضيع علمية شيّقة، واحياناً عن الامراض النفسية التي تصيب الحيوانات! وفي النهاية طبعاً صفحة المعارض الفنية والسينما والمسرح.
لحظات من الصمت... كلانا لم يجد ما يقوله.
ما هي إلا دقائق، حتى همّت السيدة بالوقوف وأرادت ان تغادر، لكنها اقتربت قبل ذلك واعتذرت مجدّداً عن رد فعلها.
ـ زهورهم غالية ودماؤنا رخيصة. قالها ابن برور بصوت ممزوج بالألم.
أخفضت رأسي، وقلت في قرارة نفسي، سأنقل رسالتك أيها الصديق. هي ليست عصية على الفهم.
عدنا إلى الحديث مرة أخرى. أعادني موضوع الخجل إلى ذلك اليوم الذي اشتكى فيه البعض من لامبالاة سلطات الهجرة لقضاياهم.
يومها اقترحنا تنظيم مظاهرة احتجاج مع تقديم لائحة بالمطالب والشكاوى. كانت ردود الفعل تعكس سطحية شريحة واسعة من الشعب الآشوري، ويأس مشوب باتكالية على إله، تكاد تكون مفرطة وأقرب للجنون منها إلى العقل.
بعدها بأيام، وفي نفس المدينة، نظّم مثليي الجنس مظاهرة للمطالبة بحقوقهم المدنية. وقفوا في ساحة البرلمان ونظّموا مهرجاناً خطابياً ـ أكثر جدّية من المهرجانات الخطابية التي تقيمها الحكومات العربية ـ وطرحوا مشاكلهم من خلال إطار علمي وانساني. الكثير من أبناء الجالية الآشورية كانوا يلعنون هؤلاء و يلعنون من سمح لهم بالتظاهر. وهنا بيت القصيد، حيث ورغم مرور مدة ليست بالقصيرة على تجربة المهجر الآشوري في أوروبا، إلا انها لم تصقلنا بالشكل المرن والمطلوب، حيث اننا لا زلنا نتعامل مع المستجدات والمتغيرات، بأليات لا ترتقي إلى المستوى المطلوب، وفوق كل هذا نطالب الحكومات الدولية بمساعدتنا ووفق مقاييسنا الخاصة، فرغم كل التجارب، لازلنا نضع ثقلنا على رجال الدين والمؤسسات الدينية، والتي أفقدت الشعب الآشوري الزخم الذي يفتقده في عمله السياسي، بل ووضعت المسار السياسي في طريق أكثر شائكة. وتعالوا بكل صراحة نضع تصريحات رجال الدين الاخيرة في الميزان(( مع كامل تقديرنا واحترامنا لنداءاتهم)) لكن المسألة مسألة منطق، فإذا وضعنا هذه النداءات في ميزان التفاعلات والتجاذبات السياسية، نجد ان السلبيات لا تقل عن الايجابيات، فأولئك الوافدين إلى بغداد من أجل الجهاد وبضع حوريات، سوف لن تزيدهم هذه البيانات المصبوغة بطابع مسيحي، إلا إصراراً على ممارسة حملاتهم، باعتبارها جزء من العقيدة الجهادية، وهي جل ما تبقّى لهم، بعد ان انعدمت سبل الحياة في بلادهم، وهم ليس لديهم ما يخافون عليه. وفي ظل هذا الشحن الطائفي، وما بين رائحة الجثث، فإن فانتزيا الدين وبكل إرهاصاتها قد جعلت منهم مخلوقات غير قابلة للترويض، ولذا فإن هذه البيانات في منظورهم، هي بيانات تتحدى عقيدتهم، وتقف عائقاً أمام طريقهم في إقامة ما يسمى بدولة الخلافة أو ما شابه. أما الحديث عن تقصير حكومي في معالجة هذه المسألة، فهي لا تستند إلى المنطق، فالحكومة نفسها تفتقد الحماية، وما المنطقة الخضراء إلا خير دليل على هذا الكلام. والحل أجده في ممارسة الضغظ على الحكومة الامريكية، وإحراجها وتحميلها وزر ما حدث، بتقسيماتها الطائفية وتحالفاتها المشبوهة مع أطراف معينة على حساب أخرى، وقد يكون لبعض المظاهرات ضد السفارات الامريكية المتواجدة في بعض العواصم التي تتواجد فيها الجاليات الآشورية ردود فعل إيجابية، لا أقلّها، لفت انتباه الادارة الامريكية إلى سياسات المعايير المزدوجة التي كان فيها الاشوريون الخاسر الأكبر، وإظهار عدم الرضا كلياً على السياسات الامريكية في العراق، وهو ما قد يُهدّأ نفوس البعض، وربما يثير حمية البعض، فيبادر إلى التدخل الفعلي، فالعقلية الشرقية لا زالت رهن المقاييس والتجاذبات العاطفية، ومهما كثرت بيانات ال6000 عام، ونغمات أصحاب الأرض حتى قبل المسيحية، فهي لن تحمي عائلة مهددة، أو طفل خائف. وتبقى المسألة الأكثر جدلاً، ما هي خلفية هذه الجماعات التي تقوم بهذه الاعمال؟ وما هي الدوافع الحقيقة وراءها؟ وهل هي مُخترقة من قبل أجهزة مخابرات خارجية، وتعمل وفق أجندتها ودون دراية منها؟. أسئلة لا شك انها ستبقى بلا إجابة، ولكن ليس لوقت طويل، لكن قبل ذلك علينا ان نكون صادقين مع أنفسنا، وان يكون تفاعلنا مع الأزمات نابع من ضمير الانسان الملتزم والجاد. وكم أجد موقف المهجر الآشوري معيباً، ولا سيما ان بإمكانه ـ إذا ما أراد ـ ان يكون عاملاً حاسماً لإنهاء هذه المعاناة الطويلة، والتي نعيش الان جزء من فصولها، لكن قبل ذلك علينا دراسة بعض الظواهر السلبية التي تقف عائقاً في طريق تشكيل لوبي آشوري نافذ ومؤثر، ومواجهة هذه الظواهر تستلزم الكثير من الشفافية والجرأة، والاهم هو الاحساس بقيمة الانتماء والهدف منه.
ولما لا!
أحد الأصدقاء من حزب فورقونو أخبرني انهم، وبالإضافة إلى بعض المبادرات التي هي في طور النقاش، فإنهم ينوون وفي عدة بلدات، عدم إرسال أولادهم إلى المدرسة ليوم واحد احتجاجاً على ما يجري في بغداد، وسيبعثون برسائل إلى إدارات المدارس لشرح الدوافع.
هذه الأفكار والمبادرات هي التي تحدث دوياً في المجتمعات الغربية، لما لها من صدى وردود أفعال، تتجاوز في تأثيرها، البيت والمدرسة والشارع، وحتى الرأي العام.
ويا حبّذا لو قامت وسائل الاعلام الآشورية، وبالأخص المرئية ـ لعلمي ان الذين يشاهدون التلفاز هم الغالبية الساحقة مقارنة بالذين يقرأون ـ بتعبئة المشاهد الآشوري، ولفت انتباهه إلى الكارثة التي يواجهها الاشوريين ( المسيحيين ) وذلك من خلال وقف عرض الحفلات، والاقتصار على الاغاني التي لها مدلولات خاصة، والإكثار من البرامج المتعلقة بهذه الأزمة، وإعطاء المزيد من الوقت لسماع الأراء والأفكار والمبادرات، فالاعلام سلاح فعّال ومؤثر، وتصويبه في وجوهنا جنون ما بعده جنون.
آخر الكلام
الكثير من الشعوب نالت وفي فترات معينة، مكاسب جمّة لا تُقدر، وذلك لانها اتقنت لعب دور الضحية. وما يثير العجب في الشعب الآشوري انه ورغم كل ما جرى، فهو لم يتقن كيف يرتدي ثوبه، وأقصد ثوب الضحية.