الآشوريون والأكراد: بين إرث الماضي والمستقبل الغامض
يعيش الآشوريون والأكراد في العديد من المواطن عيشاً مشتركاً، يتقاسمون الخيرات، وتربطهم علاقات تاريخية، تتصف على الأغلب بالرؤية السلبية أحدهم تجاه الآخر، نتاج الحروب والمذابح التي اقترفت بحق الآشوريين على يد الأكراد، وخصوصاً على أيام بدرخان بك أمير بوتان، ومحمد كور أمير راوندوز، والمذابح التي اقترفها الخيالة الحميدية والتي تشكلت في أغلبها من العشائر الكردية، فالتمايز القومي الموجود بينهما، زاده التمايز الديني حدةً، مما وسع شقة العداء، وسهل لأعداء الشعبين ولبعض القيادات في كلا الشعبين من استغلال ذلك لزرع المزيد من الشقاق بينهم، ولأننا ندرك عمق الخلافات التاريخية والتي حدثت لأسباب معلومة لأغلب المطلعين على تاريخ الشعبين، فإن إعادة التاريخ إلى الواجهة ليس غرضنا، ولكـن اسـتشفاف السـبل الممكنة لإعـادة اللحمة بين الشـعبين، ووضع خطوط أساسية يمكن من خلالها بناء أساس متين لعلاقة تعاون وتعايش تخدم كلا الشعبين، وتساهم في بناء مستقبل زاهر لهما وللعراق بكل تلاوينه القومية . إن أي أساس متين لعلاقة سليمة بين الكرد والآشوريين يتطلب الاعتراف المتبادل بينهما على أنهما شعبين متمايزين ويضمهما وطن واحد وتجمعهما مصالح مشتركة، وأن اختلافهما في الانتماء القومي والديني يجب أن يكون عامل غني لهما ويساهم في إثراء حياتهما المشتركة، ويجب أن يقبلا بعضهما البعض كما هما وليس كما يريد الآخر. ومن هذا المنطلق يجب على الطرفين الاعتراف المتبادل بالغبن التاريخي الذي أصابهما، جراء عدم تمكنهما من التعاون والتعايش السلمي، وجراء إثارة الخلافات بينهما نتيجة اختلاف انتمائهم الديني، كما يجب أن يعترفا - بأن تمتع أي منهما بحقوقه المشروعة، وكما أثبته التاريخ - لن يكون على حساب الآخر. فالتجربة البدرخانية وتجربة أمير رواندوز ومذابح / 1915 / واغتيال مار بنيامين شمعون وما تلاه، لم تقدم للشعب الكردي أية إضافةٍ لحقوق جديدة، ولكنها زادت في تسميم الأجواء بين الشعبين .إن إثارة النقطة أعلاه ضرورة لتطّلع عليها النخبة المثقفة الكردية، فاعتبار بدرخان وأمير راوندوز وسمكو الشكاكي أبطالاً في التاريخ الكردي وقادة أرادوا تحقيق حلم الأكراد في التحرر والاستقلال، يُثير لدى الآشوريين تساؤلاً مشروعاً هو : إذا كان أبطال الأكراد من أمثال هؤلاء، فأي خير يُرتجى من التعاون والتعايش ؟ كما يجب أن لا ننسى إن المذابح التي اقترفت بحق الآشوريين من قِبل هؤلاء، لم يأت بأية نتائج ملموسة للشعب الكردي، سوى إبادة الآلاف من جيرانهم الآشوريين، مما سهل في كل مرةٍ للدولة العثمانية التدخل بحجة ضبط الأمن والسلام الأهلي .
إن العيش في التاريخ واستحضاره كعامل لزرع الحقد وإثارة العداوة لن يفيد أي من الشعبين فما حدث في الماضي البعيد أو القريب، يجب أن يُستحضر كتجارب يمكن الاستفادة منها . فخلال كل هذه السنين لم يتمكن أي منهما أن يُزيل الآخر من الوجود، والمشاكل العالقة بينهما لا تزال قائمة وتُستغل من قِبل الآخرين لإدامة الواقع الراهن .
فالمطلوب آشورياً اليوم : هو أن يَعوا أن الأكراد شعب يستحق أن يعيش وأن يتمتع بكل ما يتمتع به أي شعب آخر في الأرض، وأن ننظر إلى حقوقه كنظرتنا إلى ما نتمناه لأنفسنا، ونحن بحملنا لأي حقد ضد الأكراد لن نحقق لنا أي شيء، غير التشفي في حالة تعرضهم للمحن، لا سمح الله، وهذا الحقد (والذي أُقر بوجوده لدى البعض) لن يُعيد إلينا إمبراطوريتنا القديمة . إن دعوتي هي لتفهّم حق الأكراد التمتع بكل حقوقهم أسوةً بكل شعوب الأرض، وكما نتمنى لأنفسنا، وهذه الدعوة لا تعني البتة مساندة بعض الطروحات الكردية، والتي تقول بمنح الأولية للقضية الكردية، ومن ثم فإن الأكراد سيمنحون حقوق الآشوريين فهذه الدعوة ليست منطقية في لغة الحقوق السياسية لذلك فالآشوريين لن يقبلوا أن يمنحهم الآخرين حقوقهم، إن حقوقهم يستحقونها كما يستحقها العرب والأكراد والتركمان، وليس مِنّةً من أحد . إن دعوتنا هذه لا تبلغ البتة حد تكريد القضية الآشورية ( كما تمارسه بعض القوى الآشورية ) بحجة أو بمجرد تعايش الآشوريين والكرد في شمال العراق، ذلك أن تكريد القضية الآشورية وجعلها مجرد فقرة في الاجندة الكردية هو انتقاص وتجاوز لحقيقة كون القضية الآشورية مفردة وطنية عراقية شأنها في ذلك شأن القضية الكردية .
لقد قدّم الآشوريون الكثير لقضية الأكراد، والمطلوب أن يُقدموا الكثير لقضيتهم ولكن بالتفاهم مع الأكراد، والعكس يصح للجزء الثاني للجملة، بما يعني أن الكرد لم يُقدّموا أي شيء لقضية الآشوريين، وعليهم أن يتفاهموا مع الآشوريين ليتمكنوا من تقديم الكثير لقضيتهم . فلن يفيد الكردي اجترار تجربة حكومات بغداد معهم، وإعادة تسويقها على الآشوريين، فهذه السياسة أثبتت فشلها والدليل الدامغ نراه في الواقع الحالي لشمال العراق، فلو كانت التجربة ناجحة لما رأينا كل هذا الكم الهائل والمتراكم من المشاكل والأحقاد .
إن إبلاء التمايز الديني بين الكرد والآشوريين له أهميةً خاصة، نابع من أن الكثير من الأكراد صاروا ممَنْ يرفعون شعار (الإسلام هو الحل) متأثرين بتوجهات أصولية في البلدان المجاورة، وحيث أن الشعار أعلاه يهدد أسس التعايش السلمي بين الكرد والآشوريين، ويزرع لدى الآشوريين المخاوف مستندين إلى تجربة التاريخ القريب، فإن على الكرد إن أرادوا حقاً التعايش والتضامن أن يحاربوا تسييس الدين، أو تطبيق قوانين تؤثر ضميرياً على الآشوريين ولن يقبلوا الخضوع لها أو هضمها .. وما نعنيه بالمحاربة هو التوجيه والإرشاد والتثقيف، فلسنا أبداً ضد تديّن شخص أو فئة ما، فهذا حق من حقوق الإنسان الأساسية، وإنما نحن ضد فرض قيم معينة (من طرف الأكثرية) لا يُمكن للآخر (الأقلية) القبول بها، فذريعة (الأكثرية والأقلية) لا تبرر هذا الفرض ... كما نحن نرفض فرض قيم تستند إلى قوانين إلاهية لا يُمكن لأحد معارضتها بحجة قدسيتها . باعتقادنا أن تجاوز سلبيات الماضي لا يتم بمجرد إظهار المودة، ولكن بوضع تصور سليم ومشترك لمستقبل العلاقة بين الشعبين، أو بتبني كل القوى الفعالة في الشعبين لمفاهيم تساهم في ترسيخ القيم الديمقراطية، وتساوي الشعبين بعيداً عن المقولة الممقوتة للأكثرية أو الأغلبية والتي لا تتوافق مع تساوي حقوق الشعوب مهما كبر أو صغر عددها، إن تبني القوة الفعالة في الشعبين - اللذين ذاقا الظلم والحرمان أكثر من غيرهما - القيم الديمقراطية سيجعلهما الصخرة القوية التي يُبنى عليها العراق المستقبلي.