الأبعاد السياسية لثورة الإمام الحسين عليه السلام
خالد عليوي العرداوي/الثوار عندما يقومون بثوراتهم فأنهم لا يكتسبون هذه التسمية إلا عندما تحقق أفعالهم تغييرا جذريا وحقيقيا في المجتمع الذي ثاروا فيه وعلى مختلف الصعد والأبعاد بحيث يغدو المجتمع بعد ثورتهم مختلف تماما عما كان عليه قبلها فهل يصدق خروج الإمام الحسين عليه السلام وصحبه الكرام أن نطلق عليه اسم ثورة لاسيما ونحن نحاول في هذه السطور التطرق إلى الأبعاد السياسية لهذا الخــروج؟.
ان الإجابة على هذا التساؤل الكبير لا تكون واضحة إلا بعد أن ندرك كيف استطاع الإمام الحسين عليه السلام بخروجه أن يؤثر على مجرى الأحداث السياسية في عصره وفي العصور اللاحقة حتى يومنا هذا، مما يجعلنا إزاء نوعين من الأبعاد السياسية: احدها يتعلق بتأثير الإمام الحسين عليه السلام السياسي في الامتداد العرضي أي بمجرى الأحداث السياسية لعصره، والآخر يتعلق بتأثيره في الامتداد الطولي أي بمجرى الأحداث السياسية للعصور اللاحقة.
أولا: التأثير السياسي لخروج الإمام الحسين عليه السلام بامتداده العرضي
سبق واقعة كربلاء أحداث مهمة في تاريخ الأمة الإسلامية ستكون انعكاساتها سلبية تماما على عنفوان هذه الأمة واعتزازها بكرامتها وطبيعة الحكم فيها لو لم تحصل واقعة كربلاء ولا يمكن الخوض بجميع هذه الأحداث لكثرتها، لكن سنقتصر في الحديث على ابرز حدثين هما: صلح الإمام الحسن عليه السلام مع معاوية وعملية تزييف بني أمية للحقائق لتكريس قواعد مشروعية وشرعية لحكمهم، ففيما يعلق بحادثة الصلح فأن كل من تابع وحقق بأسبابه وموجباته يعلم علم اليقين أن الإمام الحسن عليه السلام قد اكره عليه وقبله بشروط تحفظ شرع الله وتصون حياة وكرامة المسلمين عموما وأهل البيت وشيعتهم بشكل خاص ومن شروطه المهمة عدم تسليط الطغاة على رقاب المسلمين من خلال منع توريث الحكم وترك الخيار بيد الأمة، وهذا الصلح ما كان معاوية وبني أمية معه يرغبون في تنفيذ شروطه أو الالتزام بما ورد فيه لكنهم استغلوه أسوء استغلال من خلال تصوير الأمر لعامة المسلمين بأنه دليل على أحقيتهم في نزاعهم مع آل البيت فهذا الحسن بن علي – حسب زعمهم - قد بايع معاوية وأقره بخلافة المسلمين فأسسوا مشروعية حكمهم على هذا الصلح ومن خلاله حاولوا سلب أهل البيت أحقيتهم بالإمامة وقيادة الأمة الإسلامية لأنهم تنازلوا عن حقهم فسموا عام الصلح عام الجماعة وادعوا حرصهم على وحدة المسلمين وعدم تفريق كلمتهم..
أما ما قام به بنو أمية بعد ذلك من تشويه وتزوير للحقائق فخطير على جميع المقاييس، فهم حاولوا أن يرسموا هالة من القدسية المزيفة على عدد من منافقي صدر الإسلام كمعاوية وغيره بحجة أنهم أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله فهم عدول لا يجوز المس بهم مهما قالوا أو فعلوا وهم كالنجوم أو الأنوار.. وذلك لقطع كلام الناس ومنعهم من أن يكون لهم رأي سياسي معارض لأفعال هؤلاء المنافقين ممن اظهروا الإسلام واستبطنوا الكفر، بل وعملوا على العودة بالأمة إلى عصر الجاهلية وقيمها البالية، ثم زادوا من التزييف فبدئوا بـتأويل الآيات والأحاديث التي تبين فضل أهل البيت وكرامتهم من خلال جعلها تعود لبني أمية فهم قد ادعوا بأنهم قرابة الرسول الواجبة مودتهم في آية القربى وأنهم أهل البيت الذين اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا في آية التطهير وأنهم خلفاء الرسول الذين لا يخرج حكم الأمة وقيادتها منهم تمهيدا لتوريث يزيد ومن يأتي بعده الحكم، وقد ساعدهم على تسويق هذه الأباطيل جهل الناس وقرب عهد الكثير منهم بالإسلام، فضلا عن الأقلام المأجورة من وعاظ السلاطين الذين باعوا آخرتهم بدنياهم.
أما ما برز من أفعالهم المنكرة والمتجاوزة لكل أمر ألهي فقد حاولوا تبريرها بالفصل بين سلوك الإنسان ومعتقده وضميره بحيث يكون الإنسان مؤمنا وان ارتكب أقبح الأفعال والكبائر لأن تحديد إيمان البشر – خاصة الحكام – بيد الله لا بيد البشر، والله وحده يقرره يوم القيامة، فاتحين بذلك الباب على مصراعيه لفلسفة الإرجاء المخدرة لضمير الأمة والمستبيحة لمقدساتها.
لقد كان الخط البياني لهذه الأحداث – تزييف حادثة الصلح وعملية تشويه الحقائق- يشير إلى أن بني أمية سوف ينجحون في سياستهم بحيث تنطلي أكاذيبهم على المسلمين، ويكون السكوت عليها من أهل البيت دليل قبول لها فيلزم على الأمة أن تقبل حكم بني أمية لكون الإمام الحسن قد صالحهم ولا يخرج الحكم منهم لأنهم أحق به بزعمهم ولا يجوز الاعتراض على أقوالهم وأفعالهم وتفسيقها لأن الواجب طاعة الحاكم وان كان في سلوكه فاسقا لأن تقرير أيمانه أمر متروك لله وحده.
أقول كان لهذه السياسة أن تحقق مبتغاها وتصل إلى أهدافها المنشودة لولا تلقيها لتلك الضربة القاصمة التي وجهها إليها الإمام الحسن عليه السلام وصحبه، فقد رفع أبو عبد الله وسبط الرسول صوته بأعظم كلمة لا في تاريخ الإنسانية، فعرى بني أمية من الاحتجاج بصلحهم مع الإمام الحسن وكشف تجاوزهم وانتهاكهم لشروط هذا الصلح، وتزييفهم الحقائق وانتهاكهم الحرمات وتسلطهم على رقاب الناس بحجة القرابة من الرسول صلى الله عليه وآله مبينا أن هؤلاء ما هم إلا أدعياء كذابون، الرسول صلى الله عليه وآله منهم براء، كما منح الأمة الحق في الثورة على حكمهم وإنكار أفعالهم فحكام السوء لا يجوز القبول بهم ويجب إسقاطهم لإعطاء القيادة لمن يصلح لها.
إن خروج الإمام الحسين وحصول واقعة كربلاء جردت حكم بني أمية من كل مشروعية دينية وشرعية شعبية فأصبح حكمهم مدعاة للشك والريبة وعرضة للرفض والتغيير وأصبح الناس معسكرين: معسكر الظالمين والفاسقين الذين يمثلهم بنو أمية ومن يقبل بأفعالهم، ومعسكر الإصلاح والتغيير والحق الذي يمثله أهل البيت ومناصروهم، وهذا الفرز الاجتماعي ومنح الشرعية للثورة على الظالمين وإسقاط مشروعية الحكم القائم وزلزلة مرتكزاته الفكرية يدل على أن ما حصل في كربلاء لم يكن مجرد تمرد فردي أو حدث عابر، بل هو ثورة عظيمة نجح مفجروها في تحقيق أهدافها السياسية الآنية التي من أجلها ثاروا تاركين للمستقبل أمر تحقيق أهدافها البعيدة والمتجددة التي ستتضح من خلال تحليل تأثير الثورة في امتدادها الطولي.
ثانيا: التأثير السياسي لخروج الإمام الحسين عليه السلام بامتداده الطولي
لم تتوقف نتائج ما حصل سنة 61 هجرية على ارض كربلاء عند هذا التأريخ، بل استمرت وتراكم زخمها مع مرور السنوات والعقود والقرون، فبعد استشهاد الحسين عليه السلام وصحبه المأساوي دقت أجراس التغيير والنقمة في كل العالم الإسلامي وكان من نتائجها القريبة والمباشرة هو تمزيق وحدة الصف المعادي الذي ثاروا عليه، فقد أدرك قادة هذا الصف حجم الكارثة التي حلت بهم والنفق المظلم الذي وضعهم فيه تعديهم على سبط الرسول صلى الله عليه وآله فبدئوا يتبرؤون من فعلهم ويلقي كل منهم مسؤولية ما حصل على غيره، وهذا ما شاهدناه في سلوك رأس السلطة آنذاك يزيد الذي حاول ألقاء المسؤولية على عبيد الله بن زياد ومثل هذا التنصل- غالبا – ما يضعف السلطة ويذهب بقوة أرادتها ويجعلها هشة غير قادرة على المقاومة، ومعظم الثوار يضعون تحقيق هذا الأمر في سلم أولوياتهم للانتصار على أعدائهم.
ثم ازداد زخم التأثير السياسي لواقعة كربلاء من خلال الصدمة القوية التي تعرض لها ضمير الأمة، فاهتزت لها قلوب النادمين والناقمين على قتل سبط الرسول، وبدئوا يبحثون عن السبل الكفيلة للثأر من قاتليه، فأصبحت كربلاء عنوانا للثورة والتمرد على حكم بني أمية، وقد بدأت أولى هذه الثورات بثورة التوابين عام 65 هجرية، ثم ثورة المختار الثقفي عام 67 هجرية، مرورا بثورة زيد الشهيد عام 122 هجرية وصولا إلى إسقاط حكم الأمويين في عام 135 هجرية وتأسيس حكم بني العباس الذي استغل اسم الحسين عليه السلام لكسب مشروعيته وشرعيته، والثورة على ظلم العباسيين وغيرهم، ولم تتوقف كربلاء عن منح المشروعية للثورة على الظالمين حتى يومنا هذا سواء كان الثائرون من المسلمين أو غير المسلمين، كما أصبح خروج الإمام الحسين عليه السلام مدعاة إلى إثارة جدل فكري محتدم لم يخمد لهيبه حول من يحكم الناس؟ وما يجب عليه؟ وما يجب على الناس في حالة ارتكابه للمعاصي وتجاوزه على حقوق الله وحقوق الناس؟
وقد دفع هذا الجدل إلى خلق المدارس الفكرية الرئيسة في الإسلام، كالمعتزلة، وأهل العدل والتوحيد، والاشاعرة وغيرهم، ومن التأثيرات السياسية الأخرى- أيضا- هو الفلسفة الكامنة وراء خروج الحسين عليه السلام بأهل بيته من النساء والأطفال إلى جانب المقاتلين، فهذه الفلسفة لا تقتصر على تأثيراتها الآنية المتمثلة بالدور الإعلامي المتميز الذي جسدته الحوراء زينب عليها السلام، بل تمتد إلى ما بعد هذا التاريخ لتصل إلى يومنا هذا، فكما هو معلوم أن المعسكر الذي قاتل الحسين عليه السلام لم يكن معسكرا شريفا، إذ وصلت همجيته وبربريته إلى حد الحرمان من الماء وإحراق الخيام على النساء وقتل الأطفال حتى الرضيع منهم، مما يدل على لا إسلاميته واحتكامه إلى منظومة قيمية لا تمت إلى الإسلام بصلة، بينما كانت القيم والمبادئ التي عكسها معسكر الحسين علية السلام قولا وعملا عنوان لكل ما هو انساني سواء في سلوك الإمام مع أهل بيته وأصحابه أو في سلوكهم مع أمامهم أو في سلوكهم فيما بينهم، بل وحتى في سلوكهم مع الطبيعة المحيطة بهم جمادا وحيوانا – سلوك الحسين عليه السلام مع جواده مثلا – إن هذا الفرز بين قيم المعسكرين يلقي ضوءا ساطعا على ما يتميز به المسلم الحقيقي من قيم تحترم حقوق الإنسان وحرياته العامة وتجعل كل ما يخالفها بعيدا عن الإسلام وان ادعى انتسابه اليه وصام وصلى وقرء القرآن من أمثال بني أمية وبني العباس والخوارج الذين وصلت بعض فرقهم إلى حد تبرير قتل الأطفال الرضع وكذلك حكام السوء الذين حكموا هذه الأمة وانتهكوا حقوق وحريات أبنائها تحت مسميات عديدة.
ان القيم الإصلاحية الإنسانية التي خرج من اجلها الحسين عليه السلام هي خط الدفاع الرئيس للأمة اليوم في صراعها وحوارها مع الحضارات الأخرى التي تتهمها بانتهاك حقوق الإنسان وحرياته العامة وهي الصرخة التي يوجهها المسلمون بوجه من يتهمهم بهذا الاتهام ليقولوا أن من ينتهك حقوق الإنسان وحرياته العامة ليس الإسلام بل من تلبسوا بلباسه وعملوا بخلاف أحكامه من الذين حكمتهم المطامع وسيرتهم الأهواء، فبفضل الحسين وأهل البيت عليهم السلام لم ينجح الحكام الظلمة وتجار الكلمة من تشويه الصورة الحقيقية للإسلام ولم يكرسوا انتهاكاتهم لحقوق الإنسان على إنها من طبيعة الإسلام.
وكذلك دموع الحسين عليه السلام في كربلاء كانت نبراسا للثائرين ودليلا للمصلحين ولولاها لما نظرنا إليه على انه إمام الرحمة والشفقة، إن دموع الحسين في كربلاء بصرت الثوار والمصلحين إلى حقيقة مهمة هي أن متطلبات الإصلاح والثورة لا تعني أن يكونوا قساة جفاة عديمي الشفقة، بل إن فيض عواطفهم هو الذي يضئ دربهم ويلهمهم القدرة على صناعة التاريخ، وبهذا نزع الحسين القناع عن جميع من طلبوا الثورة والإصلاح من خلال العنف والقبضات الحديدية ليبين للجميع أنهم ما هم إلا طغاة مستقبليون جاءوا للجلوس مكان طغاة آخرين، وقد بينت حوادث التاريخ صدق هذه الحقيقة منذ قتل قابيل وستبقى إلى يوم الدين.
انطلاقا مما تقدم، يمكننا القول أن خروج الحسين عليه السلام عام 61 هجرية يمثل ثورة بكل المقاييس، بل هو ثورة عظيمة ليس لها نظير في قيمها، ودلالاتها، وأبعادها، وتأثيراتها ألهمت وستلهم جميع الثورات الخيرة وتضع المعايير الصحيحة للتمييز بين طلاب الإصلاح وطلاب السلطة، بين من ينشرون الحب والتسامح ومن ينشرون الخراب والدمار، والمسلمون اليوم في هذا الوقت العصيب أحوج ما يكونون إلى السير في منهج الأمام الحسين عليه السلام وثورته المباركة قولا وعملا لا اللهج بحبه قولا ومخالفته عملا.
* مدير مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية
http://fcdrs.com
khalidchyad@yahoo.com