Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

الأزمة الرأسمالية والمولود الاقتصادي الجديد

بعد أن انشغلت دول العالم وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية لأكثر من عقد من الزمن في كيفية معالجة أزمة الإرهاب التي استفحلت بداية التسعينات من القرن المنصرم ولا تزال إلى يومنا هذا تشكل هاجساَ أمنياَ دولياً، يواجه العالم اليوم أزمة أخرى لا تقل شأناَ أو خطورة عن الإرهاب إن لم تكن تفوقها في الآثار الأخرى.

فالعالم اليوم وبخاصة المرتبط بالنظام الرأسمالي والسوق الحر يعيد حساباته ويلملم صفوفه لمواجهة هذا الخطر الداهم الذي لاحت بوادره في الأفق الرأسمالي مع نهاية العام 2007م إثر عدم تمكن المقترضين في السوق العقاري من تسديد المبالغ المستحقة عليهم، وأخذت كبريات البنوك في الدول الرأسمالية تتهاوى أمام إعصار هبوط أسعار الأسهم، الأمر الذي أوجب تدخل الحكومات للإسراع في استنقاذ ما يعرف بالسوق الحر، إلا أن جميع الإجراءات التي اتخذتها الدول الأكثر تضرراَ من تلك الأزمة لم تفلح في انتشال ولو جزء بسيط من رؤوس الأموال التي جاءت عليها تداعيات الأزمة المالية العالمية.

من هنا كان لابد للسياسيين من وقفة قبل الاقتصاديين بوضعهم في أولويات برامجهم الخطط والحلول التي من شأنها إعادة قطار الاقتصاد الحر الذي انحرف كثيراَ عن مساره المرسوم له من قبل المنظرين والعاملين وفق النظام الرأسمالي.

وبإتباعهم للعديد من الأساليب وتبنيهم لجملة من الخطط التي من شأنها أن تجد حلا للتدهور الاقتصادي العالمي عن طريق جملة من التدابير كان من بينها تسريح عدد كبير من العمال والموظفين من وظائفهم بحيث وصلت نسبة البطالة في الولايات المتحدة على سبيل المثال إلى 7% في نهاية العام 2008م وهي نسبة مرشحة للزيادة في هذا العام، وبضخ مئات المليارات من الدولارات في شرايين البنوك والمصارف الكبيرة التي بدأت تتصلب، وبرغم ذلك يتوقع خبراء اقتصاديون بأن الأزمة الراهنة سوف تستمر في العام 2009م.

وهي نتيجة حتمية لاقتصاد قائم على أسس بعيدة عن المفاهيم الصحيحة التي ينمو رأس المال من خلالها، فالجشع الرأسمالي القائم على أسس ربوية والذي تشرع له النظم السياسية في تلك الدول، يخالف الفطرة السليمة للإنسان ويخالف جميع التعاليم السماوية الصحيحة في تنمية رأس المال، حيث جاء في قوله تعالى(الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا.....) آية(275)سورة البقرة، وفي الآية(276) من نفس السورة، جاء قوله تعالى(يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ......).

وهو ما حذر منه علماء ومفكرون إسلاميون قبل عشرات السنين وبخاصة المرجع الاسلامي الإمام محمد الحسيني الشيرازي(قد)، فقد أشار إلى انهيار النظام الاشتراكي أولاَ، وقد حصل ذلك الانهيار العام 1990م، فسقطت الاشتراكية كنظام اقتصادي، وسقطت معها معظم النظم السياسية التي تدور في فلكها، وعلى إثر ذلك السقوط انهارت الاشتراكية السوفيتية التي سلبت من الفرد أغلب امتيازاته المالية في حق التملك وجردته من ابسط حقوقه في التنافس المشروع الذي على غراره يٌعطى كل ذي حق حقه.

وببقاء المنافس الكبير للاشتراكية الشيوعية -الرأسمالية الغربية- منفرداً في الساحة العالمية والتي طالما أرادت إثبات صحة نظرياتها في حرية التملك والحصول على الثراء وجمع الأموال بكافة الطرق المتاحة ضمن تنافس أضفت عليه شرعيتها وقننت له ما يمكن تقنينه من تشريعات للحيلولة دون التعرض والمساس بالحرية الفردية في الحصول على الثروة بغض النظر عن الوسيلة، أصبحت المضاربات وصالات القمار وأسواق الأسهم تأخذ مشروعيتها الكاملة من فكر الرأسمالية السياسية أو ما يسمى بـ(العولمة)، كما أخذت البنوك والمصارف بوضع الفوائد التي تراها مناسبة لجمع أكبر كمية من الأرباح على القروض التي يتم منحها للأفراد أو الشركات حتى وصلت الفوائد في كثير من الأحيان إلى أكثر من رأس المال الذي تم استقراضه.

وبدلاً من أن تؤثر السياسة في الاقتصاد أصبح الاقتصاد هو الذي يؤثر ويتحكم في أغلب قراراتها الداخلية أو الخارجية ، وبين الاشتراكية الشيوعية والرأسمالية الغربية بقيت الدول الإسلامية تقتبس من هذه وتلك في تأسيس نظمها الاقتصادية متناسية أو متجاهلة حجم المفاسد التي ينطوي عليها كلا النظامين.

اليوم حيث الأزمة الاقتصادية العالمية تتهاوى على أغلب دول العالم المرتبطة بالسوق الحر أو الاستثمارات الرأسمالية، يمكن أن تأتي تداعياتها على النظم السياسية والاجتماعية بشكل كبير بصورة مباشرة أو غير مباشرة.

وهنا أريد أن أذكر جملة من النقاط التي أكد عليها الإمام السيد محمد الشيرازي(قد) كانت من بين الأسباب التي أدت إلى هذا التدهور في النظام الرأسمالي رغم النجاحات التي حققها في الماضي وهي:

1- النمط الرأسمالي كان يسعى إلى عالمية التسويق والتبادل والتجارة، بينما راحت الرأسمالية تعمل جاهدة لعالمية عملية الإنتاج نفسها أيضا.

2- الرأسمالية القديمة كانت تعمل لتمركز رأس المال عبر الربحية الأكثر، وكانت تعتمد في ذلك على الإنتاج الذي يحقق الأرباح، بينما انقلب اليوم إلى الاعتماد على تشغيل رأس المال فقط، وصولاً إلى احتكار الربح.

3- الرأسمالية التقليدية القديمة التي كانت تدعى المنافسة الحرة تغير مفهومها عن السوق والمنافسة إلى الاحتكار والهيمنة.

4- تبني الرأسمالية الجديدة سرعة وتعجيلاً أكبر في تخطي حدود الدولة القومية والاقتصاد القومي للوصول والسيطرة والتحكم الكامل على الأسواق والمواد الأولية بأسعار رخيصة، وعلى الأيدي العاملة بأجور متدنية.

وبالرجوع إلى مضمار السياسة، فإن نظام الفوضى الخلاقة الذي روجت له الولايات المتحدة سياسياً يبدو أنه قد أحدث فوضى اقتصادية -لا ندري إن كانت خلاقة أم غير خلاقة- بدأت بانهيار الاقتصاد الرأسمالي حتى وصلت إلى حالة كبيرة من الرعب والخوف والذعر الشامل في أوساط المستثمرين والمضاربين والمصرفيين المتورطين في"بورصات" النظام المالي العالمي.

فحالة الذعر التي ضربت مفكري الرأسمالية ومنظّريها، بمن فيهم "ألن غريسبان" حاكم الاحتياط الفيدرالي الأمريكي، للمرة الأولى منذ الكساد الكبير الذي حصل في العام 1929م، هو ذعر لم يهدئ من روعه قرار الإدارة الأمريكية التاريخي بضخ تريليون دولار في المصارف العملاقة.

ورب قائل يقول بأن النظام الرأسمالي قد تعرض إلى العديد من الأزمات السابقة وخرج منها قوي معافى كما هو الحال في أزمات ،1876 ،1929 ،1971 ،1997-1998 و2001م وهو يعاين الدورة التقليدية للأزمات ويثبّت أقدامه بعدها بشكل أفضل.

إلا أن الحقيقة التي تكمن في تصريحات قادة الدول الرأسمالية الكبرى كاليابان - على سبيل المثال- في إفصاحهم عن حجم ذلك التدهور وحجم الخسائر التي تكبدها النظام الرأسمالي وبوصفهم الأزمة المالية بالعاصفة أو الزلزال الذي ضرب الاقتصاد الرأسمالي، بالإضافة إلى حجم البطالة المتسارع في التزايد يومياَ هو بمثابة ناقوس خطر ينذر بنهاية نظام اقتصادي وولادة نظام يختلف بالمفاهيم والقيم التي تلبي حاجة الاقتصاد العالمي على أسس بعيدة عن مفهوم تحقيق الربح السريع على حساب أمور أخرى، ولهذا فأن الخروج من هذه الأزمة سوف لن يتم دون حدوث تداعيات تحمل آثار سيئة على الأنظمة السياسية وصناع السياسية الرأسمالية في أغلب دول العالم القائمة على هذا النهج.

كما إن دعوة مثل التي وجهها الرئيس الفنزولي في بداية الأزمة تعد بمثابة الوقوف على أطلال النظام الاشتراكي الشيوعي الذي رأى أن الحل يكمن في العودة إلى النظام الاشتراكي، ولا أعتقد إن هذه الدعوة جاءت لقناعته بالحل الذي يطرحه للازمة الاقتصادية وانهيارات الأسواق العالمية بقدر ما يريد أن يثبت لشعبه صحة نظام ثورته ونظام الحكم السياسي القائم هناك، وبقدر ما يريد بثه من روح الدولة القومية مجدداً لتعود معها الحروب الكبرى بين الامبرياليات التي شكلت تاريخياً الامتداد الطبيعي للقوميات الرأسمالية ومواجهة ظاهرة العولمة التي كانت هي الأخرى الوليد الشرعي للرأسمالية الأنغلو - ساكسونية منذ أن أرست دعائمها الإمبراطورية البريطانية في أوائل القرن التاسع عشر، والتي أكملت مسيرتها السياسة الأمريكية مجدداً بعيد نهاية الحرب الباردة.

وبين هذه وتلك تبقى كلا التجربتين في الاقتصاد العالمي قد أخذتا طريقيهما إلى التغيير إن لم يكن إلى الزوال وعلى الدول التي تؤمن بنهج القرآن أن تتبنى مفاهيم اقتصادية قائمة على أسس تحفظ للفرد ملكيته الشخصية مع الاحتفاظ بإشراف الدولة للمال العام، وأخذ الدروس والعبر من نظام سلب من الفرد ابسط أنواع الملكية وآخر كرس رأس المال بيد مجموعة من المنتفعين والجشعين(أصحاب رؤوس الأموال وغيرهم من المستثمرين) ووفر لهم الحماية القانونية في جني الأرباح غير الشرعية عن طريق أخذ الفوائد على فوائد رؤوس الأموال، وبالتالي كان الفشل حليفاَ للدكتاتورية الاقتصادية التي تمثلت في النظام الاشتراكي، وللفوضى الرأسمالية التي ترك اقتصاد الدول مطلقا بيد أصحاب رؤوس الأموال.

إذاَ نحن اليوم بانتظار مولود لنظام اقتصادي جديد يأتي ليرى النور بعد مخاض عسير قد يكلف العالم الرأسمالي وأصحاب الأسهم الكثير من الأموال وتغيير العديد من المفاهيم والقيم التي كان نظام الاقتصاد الحر قائماَ عليها.

ويمكن أن تتشكل ملامح النظام الجديد من خلال:

1- عودة الغرب الحر لدراسة السلبيات التي سببت الأزمة المالية، وعليهم أن يدركوا من خلالها أن العالم الغربي يعاني من أزمة مديونية طاحنة، وأن الحكومات، والمؤسسات، والعائلات ترزح تحت ثقل ديون لم يسبق لها مثيل، حيث وصلت نسبة ديون العائلة الأميركية العادية إلى 141% من الدخل المتاح (الجاهز للتصرف) في الولايات المتحدة، و171% في بريطانيا(كما ذكرت ذلك بعض الإحصائيات).

2- تضمين العامل الأخلاقي للنظام الجديد بمستوى ما تؤمن به تلك الشعوب من مراعاة لحقوق الإنسان وحق المواطنة في تخفيف أعباء الديون عن كاهل المعسرين، كي يشعر هؤلاء بنوع من الاستقرار يمكنهم فيما بعد إعادة ولو جزء من الديون المترتبة بذمتهم إلى المصارف، وبالمقابل يشعر أصحاب الأسهم بأنهم استردوا جزءً من خسارتهم، إذ لا يمكن حل مشكلة الديون الزائدة من خلال خلق المزيد من الدين.

3- خلق حالة من التوازن لرأس المال بين تصرف الإفراد من جهة وإشراف الدولة ومراقبتها من جهة أخرى، حتى ولو رأى البعض في هذا التدخل سيؤثر على قدسية التعاقد.

4- وجود فرصة أمام العقلاء ممن يرسمون سياسة اقتصادية جديد للتغيير في أخلاقيات النظام الاقتصادي وكبح جماح رأس المال المنفلت في السعي لتحقيق الأرباح السريعة على حساب ما يمكن أن تتصف به الشعوب من حالة عدم الاستغلال للآخر.

* مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث

http://shrsc.com






Opinions