الأطروحة الماركسية عن الكون المرئي
jawadbashara@yahoo.frكان الفلاسفة القدماء يتجادلون في مسألة بدت لهم غاية في الأهمية ألا وهي: هل وجود الكون المرئي ضروري، ومن أين تنبع ضرورته؟ وتعقيباً على ذلك يطرح السؤال التالي نفسه:" كيف يمكننا أن نفكر بكينونة الكون؟ تبنى بعض الفلاسفة الإغريق أطروحة الحلول panthéisme أي أن الله الخالق حل في كل شيء في الوجود، وهي نفس الأطروحة تقريباً التي تبناها عدد من أقطاب الصوفية في الإسلام، كما نلاحظ أن المفكر والفيلسوف الماركسي فردريك أنجيلزEngels اقتنع بجزء من هذه الأطروحة، وبالأخص ذلك المتعلق بمسلمة أن الكون غير مخلوق وأبدي وأزلي، غير قابل للفناء، ومستقر ويتفاعل عبر سلسلة من التقلصات والتمددات ، وهذا يذكرنا بما قاله بعض كبار الفلاسفة اليونانيين بشأن إلوهية الكون أو أن الكون ذو ماهية إلهية L’Univers est Divin أي أن الكون هو الله L’Univers est Dieu أي أنه كائن عاقل وواعي وحساس Dieu sensible أو Theos aisthètos . والحال إن العلوم الوضعية les sciences positives أبعدتنا عن هذا المفهوم الفلسفي الغارق في القدم والذي يمكن أن يقودنا إلى مبدأ الحلول panthéisme بيد أن مبدأ الحلولية يواجه بعض التحفظ لدى بعض الفلاسفة الوضعيين، إذ لو كان الكون المرئي هو الكائن الأول، أو العقل الأول، والمطلق، فعلينا أن نعترف ، كما يصرح هؤلاء الفلاسفة، بأن هذا الكون المرئي، وعلى ضوء الاكتشافات العلمية والمشاهدات الحديثة ، في حالة تكوين مستمرة en genèse ، لأننا صرنا نعرف اليوم مسيرة تطوره. فهو مطلق ولكن في حالة تشكل مستمر، وينبثق عن جوهره الخفي على نحو تدريجي. فهذا المطلق بدأ قبل مليارات السنوات كمادة بسيطة نسبياً، ثم غدا بالتدريج، بفضل مصادره الذاتية، مادة حية، ومن ثم مادة مفكرة وعاقلة وواعية وذكية، وبالتالي فإن الحلولية ستكون تطورية ومتعلقة بمبدأ الإلوهية حتى لو كان التعبير المباشر لهذه الأطروحة يقول أن العالم الموجود مادياً هو الكائن المطلق غير المخلوق وغير القابل للفناء، مع الأخذ بالاعتبار التطور الكوني الفيزيائي.
وبهذا الصدد يعلن الماركسيون بأنهم ماديين وعقلانيين وعلميين، وأن فكرهم علمي ونظريتهم علمية، وبالتالي فهم لا يقولون أن للكون المرئي صفة إلهية وأن مبدأ الحلولية يعبر عن معتقدات ذات أشكال ميثولوجية أسطورية ووهمية mythologique ويكنفون بالقول أن الكون المرئي هو الكينونة لا أكثر، وإنه موجود وهذه يكفي، و لا يحتاج الأمر لإضافة أي شيء آخر، وهذا لا يختلف في ظاهره عن ميتافيزيقيا " الواحد الأحد" métaphysique de L’Un. ويمكن مناقشة أطروحة "الكون باعتباره الكائن المطلق، الذي لا يعتمد على أي شيء آخر، لأنه الكائن الوحيد الموجود، أو الكينونة المطلقة الوحيدة الممكنة والمكتفية بذاتها. المشكلة القائمة اليوم بين أبناء العلم الحديث والقدماء هي أن الناس اليوم يعرفون ما لم يعرفه القدماء بفضل ما قدمته العلوم الحديثة والمعارف المعاصرة والانجازات التكنولوجية المذهلة من إجابات وتصورات فيما يتعلق بالكون المرئي وتطوره، ولا يمكن نفيها أو عكسها أو تجاهلها ، والتي أثبتت أن لهذا الكون المرئي تاريخ، أي بداية. وللتمسك بمقولة أن الكون المرئي هو الكينونة L’Univers est L’Etre يتعين الاعتراف بأنه في حالة صيرورة متطورة، وإنه نظام في حالة إبداع وابتكار مستمرين en état d’invention continuée ، وأن نستخدم مصطلحات ومفاهيم ديالكتيكية أو اللجوء إلى خدع جدلية لغوية artifices dialectiques بارعة وماكرة تنم عن دهاء فكري لكي لا تسقط في مطب التخريجات الأسطورية المتقادمة أو التي عفا عليها الزمن وباتت متكلسة. وبالرغم من إصرار الماركسيين على عدم اعتبار النجوم ذات طبيعة إلهية، لأنهم يعرفون سرها وتركيبتها الكيميائية، لا يوجد لديهم ما يدفعهم لاعتبار الكون المرئي إلهي الجوهر، ونراهم يصرون على اعتبار الكون المرئي أنه هو الوجود المادي الوحيد الممكن والملموس، ويعارضون النزعة الإحيائية animisme ، أي المذهب الديني الذي يضفي النفس الحية على كل الأشياء، وينفرون من المبدأ الحلولي ، إلا أنهم سوف يصلون ، شاءوا أم أبوا، ودون قصد منهم، إلى نزعة إلحادية ،ستكون في نهاية المطاف، شكلاً مختلفاً من أشكال الحلولية. يجدر بنا التذكير بأن الماركسيين يعطون معنيين لمفردة " المادية matérialisme" متميزين عن بعضهما. أحد المعنيين هو أن المادية هي الضد " للمثالية idéalisme " وإن المادية بهذه المعنى هي التي تؤكد الوجود المادي الموضوعي والوضعي للعالم، كونه مستقلاً عن النفس البشرية التي تعرفه وتتعرف عليه، في حين أن العالم بالنسبة للمثالية ومن وجهة نظرها، ما هو إلا التعبير أو التصور والتمثيل أو التشخيص الذاتي للعالم la représentation ، وإن كينونة العالم ستقتصر على هذا التمثيل أو تختزل بهذه التشخيص أو التصور esse est percipi وفق المادية الماركسية، أي أن العالم موجود مستقلاً عن موضوع المعرفة البشرية إذ أنه موجود قبل الإنسان ، بمعنى آخر لا يمكنني أنا الإنسان اختزال العالم بتصوري وإدراكي وتشخيصي الذاتي له. أما المعنى الثاني للمادية لدى الماركسيين فهو: إن المادية الديالكتيكية المستندة إلى المذهب التجريبي والمذهب العقلي، هي نقطة الانطلاق للمعرفة والوعي عن طريق الحس والتجربة، بغية تكوين مفهوم علمي ونظرية علمية تعكس الواقع التجريبي بعمق ودقة حسب المعتقد الماركسي في موضوع المعرفة وبضمنها المعرفة الكونية. فالتجربة هي المقياس الذي يجب أن يطبق على كل معرفة نظرية ولا وجود لمعرفة خارج نطاق التجربة حسب اعتقاد الماركسيين، وكما قال ماوتسي تونغ :" أن نظرية المعرفة في المادية الديالكتيكية تضع التطبيق في المقام الأول. ولكن من المفارقة أن تعترف الماركسية بأن التجربة تعكس ظواهر الأشياء ولا تكشف عن جوهرها وقوانينها الداخلية التي تهيمن على تلك الظواهر وتنسفها. من هنا يمكن القول أن الإدراكات الحسية التي نحصل عليها بواسطة التجربة لا تستطيع بذاتها تكوين مفهوم عقلي خاص عن الشيء الخارجي. فالمذهبين العقلي والتجريبي أجبرا الفلسفة على التراجع والإنسحاب والتخلي عن وظيفتها لصالح العلوم الطبيعية. فقبل هيمنة الاتجاه العلمي التجريبي، كانت الفلسفة ، منذ بداياتها، تحتكر كل المعارف البشرية تقريبا، ومن بينها حقول علمية متعددة كالعلوم الطبيعية والرياضيات، وكانت الطبيعيات تعالج في نطاق الفلسفة باعتبارها مساءل ميتافيزيقية أو تجريدية، حيث كانت الفلسفة تتحمل مسؤولية الكشف عن الحقائق في كل مجالات الكون والوجود بواسطة منهجية القياس. ومن ثم انكمشت الفلسفة بالتدريج وتنازلت عن حصونها الفكرية لتترك المجال للعلم الحديث، في كافة المجالات، وهكذا تكرس الانفصال شبه التام بين الفلسفة والعلوم. ولوحظ أن الفلسفة تقوقعت داخل مقصورة القياس كأداة عقلية للتفكير بينما لجأ العلم إلى منهج التجريب والطرق التجريبية والتجارب المختبرية بغية الوصول إلى النظريات العلمية والقوانين العلمية المثبتة مختبرياً.
إن مجال العلة والمعلول ومبدأ العلية يكون جوهر البحث الفلسفي في الكون والوجود. وقد محصت الفلسفة مسألة أن لكل سبب مسبب أو سبب قبله أو يسبقه، كان هو الأصل في حدوثه في سلسلة لا متناهية. وتساءلت الفلسفة عن : هل الجوهر الإنساني أو البشري مادي محض أم مزيج من المادية والروحية؟ في حين أن الأسئلة التي يطرحها العلماء في نفس المجالات تخضع للتجارب والمعادلات الرياضية من أجل الوصول إلى الدليل العلمي القاطع على صحة النظرية أو الفرضية العلمية التي تقدم كإجابة أولية على التساؤلات. وكان أن تربعت الفلسفة المادية المحدثة على عرش الفلسفة التقليدية والمثالية التي ترتكز إلى منهجية الطريقة العقلية في التفكير، وقد أتاحت الفلسفة المادية إمكانية الاستناد إلى مجموعة أو محصلة الحقول والتجارب العلمية للكشف عن العلاقات والروابط الموجودة بين العلوم المختلفة بغرض وضع نظريات علمية متينة ومقنعة، وهذه الفلسفة العلمية المادية هي الماركسية.
الموقف الوضعي يجسد، في أفضل جوانبه، هذه الأطروحة الماركسية، وهو موقف مبني على رفض أية فلسفة مهما كانت متعالية أو متسامية transcendante خاصة إذا كانت ماورائية أو غيبية، ومنع فرض هذا النمط من التفكير الميتافيزيقي الغيبي على العلوم، إذ أن الماركسية تجريبية في منطقها وأدوات تفكيرها حيث لا مكان للميتافيزيقيا وأبحاثها وطروحاتها، لذلك سميت المادية الديالكتيكية بالفلسفة العلمية لكونها تدعي استنادها للمنطق العلمي وترتكز إلى كافة العلوم الطبيعية، أي أنها تعارض وبقوة وشراسة وضع أية فلسفة أخرى فوق العلوم. والجدير بالذكر أن الفلسفة العلمية لا تخوض في مساءل ما وراء الطبيعة، أي أنها ضد المبدأ الفلسفي القائل أن للعالم مبدأ أول يقبع في ما وراء الطبيعة المادية الظاهرة والملموسة، لا يمكن إدراكه لأنه خارج عن مجال التجربة.
كان ديكارت رمزاً للفلاسفة العقليين حيث بنى فلسفته على مبدأ الشك من أجل الوصول إلى اليقين وهو الذي اشتهر بمقولته التي يرددها القاصي والداني :" أنا أفكر فإذن أنا موجود" بيد أنه لم يفلت من طوق التفكير المثالي كلياً وأعتبر فكرة الله حقيقة موضوعية تعلو على الإنسان وفكره المحدود ووعيه القاصر، ولتغدو فكرة الله عنده غامضة لأنها تعكس فكرة الكامل المطلق الذي لا نهاية له ولا بداية، وخارج عن نطاق التفكير. وهو يعتقد بقوة أن الشيء لا يمكن أن يخرج من اللاشيء. وتوصل بحدسه إلى أن كل الأشياء منبثقة عن الكائن اللانهائي وإن هذا الأخير ـ أي الكائن اللانهائي ـ هو أول حقيقة موضوعية خارجية أسماها ديكارت " الله المجرد" ، وعلى هذا الأساس وضع تصوره ومشروعه الفلسفي عن الكون. وهو الشيء نفسه الذي فعله عمانويل كانط في مشروعه النظري العظيم " نقد العقل المحض". ثم جاءت الفيزياء بعد عمانويل كانط لتفسر الطبيعة تفسيراً واقعياً ومادياً تحكمه قوانين الميكانيك التي وضعها إسحق نيوتن ، فالطبيعة موجودة فعلاً بمعزل عن الذهن والشعور إذ أنها مادية بحتة وتتكون من جزيئات وجسيمات لا متناهية في الصغر وإن تلك الكتل الأولية التكوينية للطبيعة في حالة حركة مستمرة في المكان، حيث ستمكن العقل البشري من أن يستنتج ، عبر تجربته الحسية، وأن يثبت، أن بمقدور الإنسان أن يبلغ جميع المعارف عن طريق التجربة لأن ما يدركه الإنسان عن الكون هو تماماً، وبصورة دقيقة، الشيء نفسه الذي يضاف إلى الكون ليغدو مفهوماً وقابلاً للإدراك.
إن الخاصية الثابتة للمادة بنظر الفلسفة المادية الديالكتيكية، هي كونها حقيقة موضوعية خارج وعينا ومستقلة عنه، بيد أنه لا يوجد إثبات علمي في مجال الفيزياء على هذه المسلمة الماركسية وإن الأخذ بها يقودنا إلى مفهوم فلسفي معروف في الفلسفة الميتافيزيقية الإلهية، فالفيلسوف الإلهي الذي يؤمن بالغيب وبما وراء الطبيعة، يردد نفس المسلمة عن العالم الذي يعتبره هو كذلك واقعاً موضوعياً مستقلاً عن وعينا، وهذا ينطبق على المبدأ الإلهي أيضاً ويصح وصفه به باعتباره واقعاً موضوعياً خارج وعينا ومستقلاً عنه. ومن ثم يطرح السؤال التالي نفسه بهذا الصدد: هل إن هذه الخاصية الفريدة للمادة، من وجهة نظر الماركسية، هي خاصية مطلقة وثابتة لا تتطور ولا تخضع لقانون الجدل أو الديالكتيك اللينيني وتناقضاته؟ إذا كان الجواب بالإيجاب فإن ذلك يناقض المفهوم الماركسي اللينيني الذي يرفض مبدأ الحقيقة المطلقة، باعتباره مبدأ ميتافيزيقي، أما إذا كانت تلك الخاصية للمادة خاصية جدلية ـ ديالكتيكية تحتوي على التناقضات الدافعة لها للتطور والتغيير، كباقي حقائق العالم المادي، فذلك سيعني بأن المادة تشكو هي كذلك من التناقض الديالكتيكي وتضطر إلى التغيير والتبدل ونزع الصفة الأساسية للمادة ألا وهي حقيقتها الموضوعية المستقلة عن وعينا كما يناقض ذلك مسلمات فيزياء الكم أو الكوانتا physique quantique التي تقول أن الوعي المراقب يؤثر بشكل جوهري على ماهية المادة الخاضعة للمراقبة.
ويلاحظ أن النظرية الماركسية تتفادى صياغة موقف واضح من نظرية الوجود القائلة بأن كل موجود بحاجة إلى علة لوجوده، وهي حاجة ذاتية للوجود الذي لا يمكنه أن يتحرر من هذه الخاصة. وهذا يعني أن كل موجود معلول ، والحال أن بعض الماركسيين المنفتحين غير الدوغمائيين تبنى هذه النظرية وطورها استناداً إلى تجارب علمية لتبريرها علمياً وقد دلت، في مختلف ميادين علم الكونيات، على أن الوجود، بشتى ألوانه وأشكاله، التي كشفت عنها التجارب، لا يتجرد عن سببه ولا يستغني عن العلة، فالعلية ناموس عالم الوجود بحكم التجارب العلمية ولا يمكن افتراض وجود خالي من العلة لأن ذلك يناقض هذا القانون مما يمنع العلماء من الاعتقاد بالصدفة العبثية التي لا مكان لها في النظام الكوني العام المحكم التنظيم والتناسق والدقيق في تناظره وتماثله symétrie .
إن مبدأ السبب والمسبب والعلة والمعلول يرتبط بنظرية عرفت في عالم الفلسفة بنظرية "الحدوث" التي تقول بأن حاجة الأشياء إلى أسبابها يستند إلى حدوثها، فالانفجار أو الحركة أو الحرارة إنما تتطلب لها أسباباً لأنها أمور حدثت بسبب معطيات مادية وجدت لاحقاً بعد العدم. فإذا كان الشيء موجوداً بصورة مستمرة ودائمة أو أبدية وليس حادثاً بعد العدم، فلا توجد حاجة إلى السبب لوجوده، وإن انتفاء الحاجة إلى السبب يعني أنه لا يدخل في النطاق الخاص لمبدأ العلية. فهل الشيء موجود بذاته ولذاته، أم خاضع لموجد له سبقه ويعتمد عليه في وجوده؟ وهنا يدخل مبدأ " الإمكان" حلبة التفسير الفلسفي وفق مقولة أن الباعث على حاجة الأشياء إلى أسبابها هو " الإمكان" وهناك نوعين من الإمكان، الذاتي والوجودي، ولكل منهما مفهومه الخاص الذي هو انعكاس لاختلاف فلسفي بينهما حول ماهية الوجود، وخاصة مفهوم أصالة الوجود. ومن أشهر من قال بنظرية الإمكان الوجودي هو الفيلسوف الإسلامي الكبير صدر الدين الشيرازي. وتأتي الماركسية لتدلي بدلوها وترفع شعار تناقضات الديالكتيك في بحوثها التحليلية لكل ما هو موجود في الكون والحياة والتاريخ لكنها لم تنجح في الإفلات من التأرجح بين تناقضات الديالكتيك ومبدأ العلية. فالديالكتيك يؤكد أن النمو والتطور ينجمان عن التناقضات الداخلية إذ أنها هي المعنية بتفسير كل ظواهر الكون دون الحاجة إلى سبب أعلى خفي، مع الاعتراف في نفس الوقت بنسبية العلاقة بين العلة والمعلول لتفسير بعض الظواهر التي لا تحدث بسبب تناقضاتها الداخلية المخزونة في أعماقها.
كتب فردريك أنجلز Engels في كتابه الشهير " لودفيغ فيورباخ ونهاية الفلسفة الألمانية الكلاسيكية" " إن المادة مقولة فلسفية أو صنف فلسفي لرسم الدافع الموضوعي المعطى للإنسان في أحاسيسه" وأردف قائلاً :" إن المادة، ومن خلال تأثيرها على أعضاء الحواس البشرية، تولد الشعور، فالمادة هي الواقع الموضوعي المقدم لنا عبر حواسنا، والمادية تختلف عن المثالية في الجواب الذي تقدمانه على سؤال بشأن مصدر معرفتنا، وأيضاً الجواب عن السؤال بشأن العلاقة بين المعرفة والعالم الفيزيائي". كما أدلى ستالين Staline دلوه أيضاً في هذا المعترك الفكري والفلسفي وقال في كتاب " مسائل حول اللينينية questions du Léninisme :" على النقيض من المثالية التي تؤكد أن وعينا هو الوحيد الموجود فعلاً، فإن العالم المادي والكائن والطبيعة لا يوجدون إلا في وعينا،وفي أحاسيسنا وتصوراتنا ومفاهيمنا". تنطلق المادية الفلسفية الماركسية من حقيقة أن المادة والطبيعة والكائن يمثلون الواقع الموضوعي الموجود خارج الوعي ومستقلاً عنه". وهذا الطرح واضح جداً لا يقبل اللبس حيث اتخذت المادية نفس المعنى الذي اصطفاه مذهب الواقعية réalisme، أي العقيدة التي تقول أن الواقع الموضوعي والعالم المادي والفيزيائي موجود على نحو مستقل عن الوعي الذي يتعرف عليه. فالماركسية تطلق صفة المادة على الشيء الذي سماه أرسطو بالكائن L’Etre الموجود، أو الواقع الملموس réalité concrète وبالتالي يحق لنا وصف أرسطو بالفيلسوف المادي matérialiste وكذلك القديس ألبرت الكبير saint Albert le Grand والقديس توما الأكويني Thomas d’Aquin والقديس بونآفونتورsaint Bonaventure وكل الفلاسفة السكولائيين philosophes scolastiques فيمكننا اعتبارهم جميعاً ماديين وفق هذا المنظور لأنهم ينادون جميعهم بالأطروحة التي عرضها أنجلز ولينين وستالين ومختصرها : إن الكائن L’Etre موجود مستقلاً عن وعينا"، والحال أن الفلاسفة من أتباع ومريدي القديس توما الأكويني بذلوا الكثير من الجهد والطاقة والحدة والصرامة في كتاباتهم وتحليلاتهم ضد الفلسفة المثالية المتمخضة عن أفكار ديكارت وكانط ، أكثر مما فعله الماركسيون في هذا المجال.
هناك معنى آخر للمادية عبر عنه أنجلز في كتابه عن فيورباخ ونهاية الفلسفة الألمانية الكلاسيكية ، والمتعلق بمعضلة الأصل : مسألة العلاقة بين الكائن والفكر، ومعرفة ما هو العنصر الجوهري الأساس الروح L’Esprit أم الطبيعة La Nature فهذه المسألة، فيما يخص الكنيسة، تقود إلى التساؤل التالي: هل العالم مخلوق من قبل الله أم هو موجود منذ الأزل وباقي إلى الأبد؟ والحال أنه يتوجب علينا أن نشير إلى أن الكون " ألأزلي" لا يعني بالضرورة أنه غير مخلوق . فمسألة البداية ومسألة الخلق مختلفتان ومتميزتان كلياً عن بعضهما البعض، وبالتالي فإنه: إذا كان، كون ما، يبدأ في لحظة ما، فإنه ليس بالضرورة كوناً مخلوقاً، أي أنه انبثق وحده للوجود دون حاجة ليد خالقة. فيمكننا أن نتصور تجريدياً كون أزلي ومخلوق وهذا أسهل من إدراك وتصور كون يبدأ ومع ذلك فهو غير مخلوق وهذا أقرب للمستحيل منه للممكن، وكذلك فيما يتعلق بكون ابدي ونفترض أنه غير مخلوق لذلك فإن مشكلة الخلق هي من اختصاص التحليل الفلسفي فقط ويتعذر على العلم البت فيها.
ينقسم الفلاسفة إلى فريقين حسب الإجابة التي يعطونها على هذا التساؤل الوجودي حول العالم وهل هو مخلوق من قبل خالق إسمه الله أم هو موجود منذ الأزل؟" . الفريق الذي يؤكد أسبقية الروح على الطبيعة المادية ، ويتقبلون فكرة غيبية عن إمكانية خلق العالم يكونون المعسكر المثالي ويسمون بالفلاسفة المثاليين. أما الفريق الآخر فهم الذين يعتبرون الطبيعة هي العنصر الأول والجوهري primordial الأصلي، وهم الذين ينتمون إلى مختلف المدارس المادية في الفلسفة، وبذلك نقول أن المثالية والمادية لا تعنيان شيئاً آخر أكثر مما ذكرناه أعلاه. فالمادية تشخص الطبيعة باعتبارها الواقع الوحيد الممكن الوجود ولا شيء يوجد خارج الطبيعة والإنسان الذي هو جزء أساسي منها حسب اعتقاد أنجلز، وبعبارة أخرى إنها العقيدة التي تبشر بأن العالم موجود وحده وغير مخلوق.
هل بالمستطاع التفكير بالعالم لوحده باعتباره الكينونة الوحيدة في الوجود؟ هذه هي المشكلة الحقيقة . والملاحظ أن هناك مفارقة وهي لو أننا تمعنا بمثالية فيلسوف مثل فخته Fichte أو مادية ماركس Marx أو أنجلز Engels على سبيل المثال، لوجدنا أنهم بالرغم من تعارض مواقفهم فإنهم يقفون معاً في صف واحد ضد العقيدة اليهودية ـ المسيحية ـ الإسلامية ، أي العقيدة السماوية المنزلة والتوحيدية عن الخلق La Création حيث إنهم يعارضون بقوة أطروحة الخلق الإلهي المباشر والفوري من اللاشيء بحكم إرادة إلهية تقول للشيء كن فيكون. وبالتالي لا يقتصر طرح المادية على نظرية المعرفة فحسب بل يتعداها إلى رسم نظرية أو عقيدة دقيقة عن ماهية الكائن théorie ontologique تقول أن العالم موجود كما هو منذ الأزل وهو لم يخلق وسيوجد إلى الأبد ولن يفنى، وهو الواقع الوحيد في الوجود، بل هو الكائن الأول الذي لم يسبقه شيء، والأخير الذي لن يعقبه شيء، أي ليس قبله ولا بعد كائن غيره، وهذا بالضبط ما كان يقول به الفيلسوف الإغريقي بارمنيد parménid ، مع الفارق المهم التالي وهو أن القدماء لم يعرفوا ما نعرفه نحن اليوم من حقائق عن الكون وإنه في حالة تطور دائم وله قصة تكوين Genèse cosmique وتاريخ وصيرورة processus . من هنا يبدو أن اكتشاف وإثبات التطور الكوني الفيزيائي والبيولوجي أو الحياتي، علمياً سيعقد الأمور. فالماركسيين ، على عكس بارمنيد، لا يشعرون بأنه يتعين عليهم إنكار هذه الحقيقة المتعلقة بوضع الصيرورة الكونية والتطور الفيزيائي من حال إلى حال آخر، والتحول من الطاقة إلى المادة وبالعكس، وبالتالي بات عليهم تفهمها وإدماجها في سياق فلسفة صحيحة علمياً عن الطبيعة. يقول ماركس في كتاب Natonal ökanomie und philosophie ملخصاً تفكيره حول مشكلة الخلق:" لا يدين العالم والإنسان لأحد بوجودهما ، فهما يكفيان نفسيهما، ولا يوجدان بفضل كائن آخر غيرهما، موجود خارجهما، ولا يعتمد وجودهما عليه. ويضيف قائلاً : إن عملية الخلق عبارة عن تصور يصعب استئصاله من الذهن والتفكير أو الوعي الشعبي. لأن الوجود المادي للعالم والطبيعة بذاتهما وبدون تدخل أحد، يتعذر على الفهم والإدراك والتصور لدى هذا العقل والوعي الشعبي لأن ذلك يتعارض مع العادات اليدوية للحياة العملية ، إذ أن العامل والمهني البسيط اعتاد على عمل الأشياء بيده وقاده ذلك للتفكير بأن للعالم أيضاً صانع على غرار ما يقوم هو به في صنع الأشياء والأدوات. وهو الأمر الذي نهى عنه الفيلسوف بيرجسون Bergson حينما قال : لا يتعين قياس أوتغيير ونقل ما هو في نطاق الميتافيزيقيا métaphysique أو ماوراء الطبيعة إلى ما هو في نطاق عادات وتفكير مستقى من الحياة العملية" . ويعتقد ماركس إن فكرة الخلق الإلهي المباشر والفوري تلقت ضربة قاصمة بسبب اكتشاف عملية تطور الأرض وعمرها وتطور الكون وعمره التقديري، أي العلم الذي أخبرنا بأن تشكل الأرض وتحولاتها إن هو إلا صيرورة تاريخية وإعادة تكوين ذاتية auto génération. وهنا تبدو السفسطة والمغالطة المنطقية والقياس الفاسد أمراً بديهياً، فاكتشاف حقيقة التطور الكوني شيء آخر لا علاقة له، ولا يقود إلى، التأكيد على أن التطور الكوني ذاتي الآلية auto évolution . فماركس ينزلق من تشخيص التطور إلى التأكيد على كون هذا التطور مكتفياً بذاته من وجهة نظر ماهية الكينونة ontologiquement وإنه يحدث بفضل ديناميكيات ذاتية وبفضل مصادره الذاتية ses propres ressources ، ويؤكد ماركس أن هذا التطور الذاتي للكون والطبيعة والإنسان كاف بحد ذاته لدحض أطروحة أو فكرة الخلق الإلهي thèse ou théorie de la création . إن التساؤل حول هذا الموضوع ناجم عن حالة تجريد ذهني abstraction بعبارة أخرى إن الأمر الذي يعزيه التوحيديون، أي الفلاسفة من أتباع الأديان السماوية الثلاثة، إلى الله يعزيه ماركس إلى الذات Soi ويقصد بها ذات الطبيعة وذات الإنسان ، وهي ذات قادرة على إيجاد نفسها بنفسها دون تدخل أحد من خارجها وهي أطروحة لا تقل ميتافيزيقية عن نظيرتها الدينية من وجهة نظر انتولوجية حيث أن الأمر يتعلق بماهية الكائن والوجود وهذه ليست تأكيدات علمية بحتة قابلة للفحص وخاضعة للتجربة إذ لا وجود لدليل علمي قاطع لا يقبل الدحض عن الوجود الذاتي للطبيعة والإنسان بالرغم من ترديد ماركس وأتباعه بأن لا شيء سوى الواقع ولا شيء سوى العالم الواقعي.
ويبدو أن ماركس خلط بين فكرة الخلق création وفكرة الصنع fabrication، فالخلق الإلهي من وجهة نظر الأديان السماوية المنزلة لا يشبه، ولا علاقة له بأي حال من الأحوال، بعملية صنع الأشياء على الطريقة البشرية، فالله، حسب ما يعتقدون، لم يصنع العالم والإنسان والنجوم والكواكب من مواد سابقة لوجودها رغم ترديد النصوص والكتب المقدسة لعبارات تشير إلى أن الله خلق الإنسان من طين وتراب وخلق الملائكة والجن من النار والنور كما يعتقد الثيولوجيون . وللخروج من هذا المأزق ينبغي التذكير أن الكون المرئي الذي تدور حوله كل هذه النقاشات الفلسفية، بشساعته التي تحسب بمليارات المليارات من السنين الضوئية، ومحتوياته المذهلة، ليس سو جسيم لامتناهي في الصغر في خلية أو فقاعة كونية هي واحدة من عدد لا متناهي من مليارات المليارات المليارات من الأكوان الشبيهة أو المتنوعة والمختلفة عن كوننا المرئي، والتي تشكل بمجموعها جسد الكون المطلق اللامتناهي الأبعاد والذي لابداية له ولا نهاية، لم يخلقه أحد من عدم ولا يفنى ويتعذر التفكير به بعقولنا البشرية المحدودة في الوقت الحاضر ، وهو في حالة صيرورة وتطور دائمين ومستمرين، يخلق نفسه ويرمم ذاته، لأنه الكائن العاقل الوحيد الممكن، وكل ماهو موجود مادياً يعتبر جزء منه ومن مكوناته، وكل ما تضفيه الفلسفات الدينية على الله من صفات، والفلسفات الوضعية عن المادة وخصائصها، تنطبق عليه، أي على هذا الكون المطلق المتكون من عدد لامتناهي من الأكوان المرئية والخفية والذي يمكننا يمكننا تسميته الله أو العقل الأول أو الأصل الموجد للوجود كله أياً كانت أبعادة ومكوناته وهو أسمى وأعلى وأرقى من الله الذي تتحدث عنه النصوص المقدسة، وسنتحدث بتفصيل أكبر في مقالات لاحقه عن هذا الموضوع.