الأمل البديل بعد رحيل القافلة
في كلمة طلبها مني الاصدقاء الاعزاء في الجمعية العراقية ـ الكندية ان القيها لمناسبة حفل تأبين الاستاذ الراحل فؤاد التكرلي بتورنتو قبل ايام .. قلت والالم يعتصر القلب : مع كل عام ونحن نودّع مبدعا عراقيا او اكثر .. وبعد سنوات قلائل سيودع العراق اسرابا ممن تبقى من نخب المثقفين المبدعين اولئك الذين انجبهم العراق في اجيال متنوعة من القرن العشرين .. وهم رعيل كلمة عرف معنى الابداع .. واخصب الحياة العراقية بكل رائع وجميل .. رعيل تنوّع في ثقافته العراقية ، واستلهم كل معاني العراق واثرى الثقافة العربية اثراء لا حدود له ابدا .. من يعوضّنا عنه من الاجيال الجديدة التي ستعيش في القرن الواحد والعشرين ؟
اين هو البديل الحقيقي لكل هذا الرحيل بكل صوره المؤلمة ؟ من سيحّل محل ذاك الرعيل ؟ كيف يموت هذا المبدع العراقي وذاك الفنان وتلك التشكيلية .. ؟ لماذا ينتهون مثل هذه النهايات التراجيدية ؟ كيف تختتم نهاياتهم سواء على ترابهم العراقي وفي مناخات العراق الحزينة او هناك في الاصقاع البعيدة الغريبة ؟ لمن كتبوا ؟ لمن ابدعوا ؟ لمن رسموا ؟ لمن تفننوا ؟ لمن نظموا ونشروا .. ؟؟ لمن غنوا ؟ لمن ؟ لمن ؟
هل كان كل مبدع او مثقف عراقي حقيقي يحلم بنهاياته المؤلمة ، وهو ينتقل من كابوس لآخر عبر مراحل تاريخية متلظية وفي عهود سياسية متشظية .. وقد قفلت حياته بهذا الكابوس المرير الذي مزّق العراق اربا اربا ؟ هل كان أي عراقي يتأمل بالمصير الذي سيحيق بالعراق ، وهو يرى توابيت الموت تحمل اجساد المثقفين .. والاكاديميين والصحفيين افواجا افواجا .. ذهبوا وهم يودعّون العراق من دون رجعة ؟ هل كان العراقيون تتملكهم هواجس الزمن الصعب ليروا ذاكرتهم التاريخية تحرق .. ومؤسساتهم الثقافية تمحق .. ورموزهم الحضارية تسرق .. ومنحوتاتهم الجميلة تسحق .. ؟؟
من كان يتخّيل يوما ان بنية العراق الثقافية سيصيبها كل هذا الارق ؟ وستكتنفها كل هذه الفظاعات ؟ من كان يفّكر بكل هذا الوباء الذي يخترق قلب العراق .. ويشعل النار في جنباته ؟ من كان يدرك كل هذه المأساة قبل وقوعها ؟ من كان يفكّر بهذه النهايات البشعة ؟
العراق .. ينخر يوما بعد آخر لأسباب ندركها حق الادراك .. ولكن من دون مواجهات حقيقية بفعل هول الاحوال . ولكن من يقوم بكل هذه الاعمال الخسيسة ؟ من له مصلحة في سحق العراق وتصفية نخبه الفاعلة وتقويض حياته الثقافية واماتة كل المبدعين ؟ من يقتل الاكاديميين ؟ من يطلق الرصاص على كل المهرة الحاذقين ؟ من يريد كم افواه الصحفيين واسكات اصواتهم نهائيا ؟ انها قوى الظلام .. انها قوى شريرة عاتية ينبغي ان يدركها كل العراقيين وهي ناصبة لهم الافخاخ منذ مئات السنين .. ولقد جرت العادة ان تسجل الوقائع المريرة ضد مجهول !
السؤال : كيف باستطاعتنا القضاء على هذا الوباء المستطير ؟ والاهم : كيف يمكننا ان نبني اجيال العراقيين الجديدة ؟ من يقينا شرور القادم من الازمان ؟ من يحفظ لنا العراق وحدة تراب وروح تاريخ وحضارة دنيا وابداع ثقافات وعبقرية مكان ؟ من باستطاعته جمع ارادة العراقيين على كلمة العراق ولا شيئ غير العراق ؟ من يخْلص من العراقيين لهذا العراق الى الابد ؟ كيف باستطاعة العراقيين بناء مشروع ثقافي وطني وحضاري وانساني على غرار ما عاشه منذ الاف السنين ؟ مشروع تنتفي منه كل الانقسامات ؟ وتنفتح فيه كل المغاليق ؟ ويتمسك به كل المخلصين ؟
كيف يمكننا الحفاظ على ما تبقى من مثقفينا العراقيين القدماء ؟ كيف باستطاعة كل المثقفين العراقيين الحقيقيين ان يقفوا صفا واحدا ضد كل الاوبئة الطائفية والشوفينية والانقسامية وضد كل النزعات القاتلة التي تصيب كل يوم منّا مقتلا ؟ كيف يمكننا خلق البديل الحقيقي لكل الراحلين ؟ ان القافلة ستمرّ بكل اوصابها واعطابها .. ولكن لابد من مجابهة التحديات القاسية .. ولابد من معرفة الصواب والابتعاد ما امكن عن الخطأ .. ولابد من ايقاد شعلة في الظلام الدامس كي يهتدي بها كل التائهين .
ان الثقافة العراقية الممتدة لمئة سنة 1908 – 2008 ، وكانت قد زخرت بمئات الاسماء والرموز والعناوين والاعمال مقفلة لا تتحرك اليوم الا لمما .. فلقد كانت سلطوية مصادرة ، وغدت مشّتتة سادرة .. وفي المحصلة هناك خزين لا يقدر بثمن من المعاني والافكار ، ومعايشة مريرة لكل الاحداث . لابد ان يدرك الجيل الجديد المسؤولية ، والمسؤولية المضاعفة ؟ فهل سيكتب يوما ان ثقافة العراق كانت ركنا حقيقيا في بناء المستقبل ؟
ان العراق الخصب لن يكون عقيما في يوم من الايام .. وسيلد على امتداد الزمن القادم نخبا واجيالا من المبدعين . ولكن ما يرّوع حقّا في مستقبل العراق ، تلك المحاولات اليائسة لتقسيمه .. وهو تحّد من اصعب التحديات التاريخية التي تواجه كل عراقي يوما بعد يوم . ان انقسامه ـ لا سمح الله ـ سيشرذم كل العراقيين . فهل من مشروع للثقافة العراقية الحقيقية تعي ان العراق سيحمله تابوته على رأسه ، وسيدخل في نفق من الظلام وتتبلور فيه كل التطاحنات .. ان العراق لابد ان يعيش في وجدان اي مثقف عراقي ، وفي قلب اي مواطن عراقي ، وفي عقل اي سياسي عراقي .. فمتى يبتعد اهل العراق عن التمايزات والمصالح الخاصة ؟ ومتى يصبح ابن العراق عاشقا لكل العراق ؟ متى ؟
WWW.sayyaraljamil.Com