الاتفاق النووي الإيراني انتصار للعقل والاعتدال
وأخيراً، وبعد مفاوضات ماراثونية مضنية دامت عشر سنوات بين إيران والدول الكبرى الدائمة العضوية في مجلس الأمن زائداً المانيا، مجموعة(5+1)، انتهت بنجاح وذلك بالتوقيع على الاتفاق النووي الإيراني فجر يوم الأحد 24 نوفمبر/ تشرين الثاني 2013، الذي أرضى جميع الأطراف المتفاوضة.
ولاقى هذا الاتفاق ترحيباً عالمياً إلا من السعودية وإسرائيل واليمين الأمريكي المتشدد بقيادة جون ماكين، الذين اعتبروا الاتفاق هزيمة للغرب وانتصاراً لإيران. إذ جاء على لسان بنجامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، بأن الاتفاق "خطأ تاريخي"، وأن العالم صار في خطر أكبر بسببه!! وهذا متوقع من نتنياهو الذي تشاءم جداً من فوز الدكتور حسن روحاني المعتدل والذي وعد بالانفتاح على العالم وبالأخص على العالم الغربي، لأن نتنياهو كيميني متطرف يعتمد في استمراره في السلطة على التوتر ووجود متشدد مثله في إيران كالرئيس السابق محمود أحمدي نجاد، لذلك شن حملة إعلامية ضد روحاني مشككاً به وواصفاً له بأنه "الحمل في ثوب ذئب"! لأن نتياهو يرى أن التقليل من التوترات مع إيران يمكن أن يعيد الانتباه العالم إلى الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني. إضافة إلى كون استخدام البعبع النووي الإيراني يدفع الدول الخليجية لشراء المزيد من الأسلحة الفتاكة بمئات المليارات دولار خدمة لشركات الأسلحة في الغرب.
بينما دافع عن الاتفاق الرئيس الأمريكي باراك أوباما في رده على انتقادات الجمهوريين قائلاً: "إن التحديات الكبيرة باقية، إلا أنه لا يمكننا الوقوف ضد الخيار الدبلوماسي، ولا يمكننا استبعاد الحلول الدبلوماسية للمشاكل التي يواجهها العالم". مشيراً إلى أنه "في الاشهر المقبلة، سنواصل جهودنا الدبلوماسية بهدف التوصل الى حل يعالج نهائيا تهديد البرنامج النووي الايراني". وأوضح "اذا انتهزت ايران هذه الفرصة وقررت الانضمام الى المجتمع الدولي، اذن يمكننا البدء بوضع حد للريبة الموجودة منذ اعوام طويلة بين بلدينا".(1).
لقد حققت إيران ما تريده، أهمها رفع العزلة الدولية التي عانت منها كثيراً خلال العشر سنوات الأخيرة، واعتراف المجتمع الدولي بحقها في امتلاك التقنية النووية، وحق تخصيب اليورانيوم إلى 5%، وهذه النسبة كافية للأغراض السلمية التي أكدت عليها إيران دائماً، والاحتفاظ بكل ما لديها من تكنولوجيا في هذا الخصوص. إضافة إلى أنها حققت رفع الحصار جزئياً مما يسمح لها بتصدير النفط وتحسين اقتصادها، حيث تم "الافراج عن ثمانية مليارات دولار من الودائع الايرانية المجمدة في البنوك الاميركية منذ سقوط نظام الشاه بعد التوقيع على اتفاق جنيف...كما وأعلن وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس ان الاتحاد الاوربي سيرفع العقوبات الاقتصادية في شهر كانون الثاني المقبل." كل هذه المكاسب لإيران مقابل تجميدها التخصيب بنسبة 20%. والحقيقة إن إيران قبل عشر سنوات كانت تطالب بحقها في التخصيب بنسبة 5% فرفض الغرب ذلك وأصروا على وقف التخصيب كلياً، لذلك لعبت إيران ورقتها بذكاء، فراحت تخصب بنسبة 20% لكي يرضى الغرب بنسبة الـ 5% ، وهذا ما حصل، وهو انتصار لإيران وبدعم روسيا أيضاً.
كما ويرى المراقبون أن المفاوضات الأخيرة لم تكن من أجل منع إيران من صنع السلاح النووي فحسب، فالنووي كان مجرد عنوان لها، أما الأهم في هذه المفاوضات هو الدور السياسي الذي تلعبه إيران في المنطقة حيث تم الاعتراف بها من قبل المجتمع الدولي وخاصة الدول الكبرى كلاعب أساسي. وهذا هو سبب انزعاج وجنون إسرائيل والسعودية من الاتفاقية.
لقد فضحت الاتفاقية السعودية التي ما انفكت تدعي أنها حامية الحرمين، والإسلام والعروبة، والقضية الفلسطينية...الخ، إذ لم تسطع أن تخفِ نواياها الحقيقية في تحالفها مع إسرائيل. وفي هذا الخصوص (قال الأمير السعودي والملياردير العالمي، الوليد بن طلال، إن المسلمين السنة في العالم العربي يقفون وراء إسرائيل ويدعمون أي هجوم تقوم به على إيران لتدمير برنامجها النووي، ولو أنهم لا يصرحون بذلك علنا. وزعم بن طلال في حديث مع الصحفي الأميركي ـ الإسرائيلي الشهير "جيفري هيلدبرغ" لشبكة "بلومبيرغ" الاقتصادية من مقر إقامته في فندقه الخاص "فور سيزن" في شيكاغو بالولايات المتحدة، أن الرئيس الأميركي في ضائقة سياسية عشية الانتخابات البرلمانية التي ستبدأ حملتها في غضون شهرين، ولهذا اندفع إلى إبرام صفقة مع إيران!)(2).
لم يتجرأ الأمير السعودي بإطلاق هذه التصريحات الفجة ما لم يعرف أنها تمثل السياسة السعودية الرسمية. وليس من حقه أن يتحدث باسم أهل السنة العرب إذ لا أعتقد أن المسلمين السنة العرب سيقبلون بهذه التصريحات ليفضلوا الوقوف مع ألد عدو لهم نكاية بإيران التي برزت كأشد الداعمين للقضية الفلسطينية. وهذه فضيحة للسعودية ونصر لإيران.
أما الطاعنين بالموقف الإيراني في هذه الاتفاقية، والمقللين من أهميتها وما حققته من مكاسب لإيران، فحجتهم أن الاتفاق مؤقت، وأن إيران ربما لن تلتزم بتعهداتها..الخ. نعتقد أن هذه الطعون مجرد أفكار رغبوية وتمنيات من المشككين بجدوى الاتفاقية، إذ نعرف أن معظم الاجراءات المؤقتة تتحول إلى دائمة. فكلا الطرفين، الإيراني والأمريكي، يرغبان بصدق في التقارب وتطبيع العلاقات بعد أكثر من 30 سنة من القطيعة التي ألحقت الضرر بجميع الأطراف. واليوم على رأس أمريكا وإيران رئيسان مسالمان ومعتدلان، فالرئيس الإيراني حسن روحاني، وبعد عشرات السنين من معاناة الشعب الإيراني بسبب العزلة والحصار الاقتصادي، توصلا إلى قناعة بأن سياسة التطرف والتشدد ستلحق المزيد من الكوارث بالشعب الإيراني. ولا أعتقد هذا الاتفاق قد تم دون مباركة المرشد السيد علي خامنئي له.
أما الرئيس أوباما فهو لا يريد خلال ما تبقى من رئاسته الثانية والأخيرة، توريط أمريكا بالمزيد من الحروب في الشرق الأوسط، خاصة وقد عرف عنه أنه رجل سلام ويتمتع بالحكمة والصبر في مواجهة المشاكل. فمنذ فوزه الأول بعث برسائل ودية إلى الشعب الإيراني بغية التوصل إلى حل شامل بين بلديهما، ولكن تشدد الرئيس الإيراني السابق، محمود أحمدي نجاد، وتصريحاته الاستفزازية أحال دون ذلك.
كذلك هناك مقالات ودراسات من باحثين ومتنفذين في الإدارة الأمريكية من بينهم رايان كروكر(3)، تؤكد على مفاوضات سرية جرت بين إيران وأمريكا خلال الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي وحتى قبل سقوط حكم البعث العراقي عام 2003، بينت أن إيران ساعدت أمريكا في مواجهة الإرهاب وخاصة في عملية إسقاط حكم الطالبان في أفغانستان، وكانوا قبل الإطاحة بنظام صدام حسين قريبين من تحقيق تقارب كبير يبشر بعودة العلاقات بين الشعبين لولا إعلان الرئيس جورج دبليو بوش في خطاب له قبيل إسقاط حكم صدام وضع فيه إيران ضمن (محور الشر الثلاثي: كوريا الشمالية وسوريا وإيران). وأن هذه الجملة نسفت كل الجهود التي بذلوها لسنوات، الأمر الذي دفع إيران وسوريا لدعم الإرهاب ضد القوات الأمريكية في العراق. ومع ذلك توصل الأمريكيون إلى قناعة أن النظام الإيراني عدو عاقل يمكن التعامل معه والاستفادة من إمكانياته. ولذلك اتصفت مفاوضات جنيف النفس الطويل والصبر الجميل، مع تنازلات بالأقساط من الطرفين وصولاً إلى توقيع الاتفاق.
إن هذا الاتفاق هو نتاج مفاوضات طويلة استغرقت عشر سنوات، توصلت فيها أمريكا والدول الغربية إلى قناعة أن إيران ليست مصدر خطر، وإنما الخطر الأكبر الذي يهدد الغرب والعالم هو الإرهاب الإسلامي الوهابي الذي تدعمه وتموله السعودية وقطر وجهات خليجية أخرى. فالإدارة الأمريكية التي تتمتع بأكبر جهاز استخباراتي في العالم (CIA)، لا يمكن أنها لا تعرف هذه الحقائق. كذلك أصدر مرشد الجمهورية الإسلامية السيد على خامنئي فتوى حرم فيها صنع القنبلة النووية. كما وأكد وزير خارجية إيران السيد محمد جواد ظريف لممثلي مجموعة(5+1) في جنيف أن امتلاك إيران للقنبلة النووية يعرض إيران للخطر وذلك لأنه سيطلق العنان في المنطقة في سباق التسلح وامتلاك القنبلة النووية من قبل السعودية ودول خليجية أخرى، لذلك فهم لا ينوون امتلاك هذا السلاح.
والجدير بالذكر أن التوقيع على هذا الاتفاق لم يكن بمعزل عن أمور سياسية أخرى في المنطقة، أهمها تخلي أمريكا عن سياسة إسقاط نظام بشار الأسد بالضربة العسكرية، والتركيز على مؤتمر جنيف2 يشارك فيه جميع الأطراف بما فيها العراق وإيران، وكذلك الانسحاب الأمريكي من أفغانستان في نهاية عام 2014، وحاجة أمريكا للتعاون الإيراني في مواجهة الإرهاب واستقرار الوضع في العراق وأفغانستان.
كما وتزامن ذلك مع زيارة رئيس الوزراء العراقي السيد نوري المالكي إلى أمريكا والتي من ثمارها: محاولات الحكومة التركية لتحسين علاقتها مع العراق. وآخر الأنباء تفيد أن وزارة الخارجية الامريكية أعلنت اليوم الخميس (28/11/2013)، عن رفضها لتصدير النفط من أي مكان في العراق من دون موافقة وتصديق الحكومة الاتحادية في بغداد. وكذلك غيَّر رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان موقفه في التعامل المباشر مع حكومة اقليم كردستان في الصفقات النفطية، وانه سيتعامل في هذا الخصوص مع الحكومة الاتحادية.(4)
كل ذلك يجعلنا نعتقد أن المنطقة مقدمة على مرحلة جديدة يتم فيها حل المشاكل الكبرى العالقة، وأن سياسة التطرف التي تقودها إسرائيل والسعودية للتعامل مع البرنامج النووي الإيراني بالضربة العسكرية، ودور السعودية في إشعال الحروب الطائفية، تقود إلى المزيد من الكوارث وسفك الدماء وعدم الاستقرار، الأمر الذي يهدد مصالح الجميع بما فيها المصالح الأمريكية في المنطقة. لذلك هناك استجابة من الدول الكبرى وعلى رأسها أمريكا في حل هذه المشاكل بالوسائل السلمية. إضافة إلى أن الدور السعودي في مد أمريكا بالنفط بدأ يقل، إذ هناك مصادر اخرى لإشباع حاجة أمريكا للطاقة منها الاعتماد على الانتاج المحلي، ومصادر أخرى غير النفط، وكذلك النمو المضطرد في إنتاج وتصدير النفط العراقي. ولكل هذه الاسباب جن جنون إسرائيل والنظام السعودي من السياسات العقلانية الخيرة التي تبنتها إدارة أوباما ازاء القضية السورية والنووي الإيراني وحلهما بالطرق الدبلوماسية السلمية. وبذلك فقد أثبت الرئيس أوباما أنه يستحق بجدارة جائزة نوبل للسلام التي نالها في السنة الأولى من حكمه.
خلاصة القول: إن الاتفاق النووي الإيراني انتصار للعقل والاعتدال، وهزيمة للتطرف الإسرائيلي والسعودي واليمين الأمريكي.
Abdulkhaliq.Hussein@btinternet.com
http://www.abdulkhaliqhussein.nl/
ــــــــــــــــــــــــــــــ
روابط ذات علاقة بالمقال
1) أوباما يدافع عن الاتفاق النووي الإيراني
http://alakhbaar.org/home/2013/11/158221.html
2) ) الأمير السعودي الوليد بن طلال: نحن "المسلمين السنة" سنقف مع إسرائيل إذا ما هاجمت إيران "الشيعية"، فإيران هي عدوتنا وليس إسرائيل
http://alakhbaar.org/home/2013/11/158277.html
3) الحديث إلى إيران هو الحل - ريان كروكر - الشرق الأوسط
http://www.aawsat.com/leader.asp?section=3&issueno=12761&article=749043#.UpWvRNJdWgA
4) واشنطن "ترفض" تصدير النفط من أى مكان بالعراق دون موافقة الحكومة الاتحادية
http://akhbaar.org/home/2013/11/158346.html
روابط أخرى ذات علاقة
رسائل إيرانية للعالم (تقرير وفيديو)
www.slabnews.com/article/48066
إيران: التوصل إلى اتفاقية في محادثات جنيف
http://alakhbaar.org/home/2013/11/158101.html
اتفاق نووي إيران: مصر والإمارات ترحب والسعودية ترفض
http://alakhbaar.org/home/2013/11/158126.html
التقارب الإيراني الأمريكي يمثل تحديا لنتنياهو
http://www.bbc.co.uk/arabic/middleeast/2013/10/131001_israel_iran_us.shtml
رصد موجز لتاريخ العلاقات الأمريكية الإيرانية
http://www.bbc.co.uk/arabic/worldnews/2013/09/130929_iran_us_ties_timeline.shtml