Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

الادارات العامة والتفسير الرجعي للقانون / الجزء الثاني

تحدثنا في الجزء الاول من هذا البحث عن انحراف اغلب الإدارات العامة، وهي بصدد تنفيذ القوانين، عن حكمة التشريع وغايته ، عبر التمسك بتفسيرات ضيقة تفرغ القوانين من محتواها الإنساني والإصلاحي وتؤدي في النهاية الى جمود القانون وعدم قدرته على مواكبة التطورات الاجتماعية المحتومة . وبينا ان المشرع العراقي قد تأثر بالاتجاهات الحديثة في تفسير القانون وتبنى التفسير الموسع المتطور للقانون في المواد(1،2،3) من قانون الاثبات رقم (107) لسنة 1979 ، حيث نصت المادة (3) منه على انه ( الزام القاضي باتباع التفسير المتطور للقانون ومراعاة الحكمة من التشريع عند تطبيقه )، ولاشك في ان ما قرره المشرع في هذا المقام هو قاعدة عامة تسري على كل فروع القانون العام والخاص ، ما لم يتعارض ذلك مع طبيعة القانون.
وكان يفترض بعد النقلة الدستورية الهائلة في حياة العراقيين وانتقالهم من مرحلة الانظمة الدكتاتورية الى مرحلة الحرية والديمقراطية والانعتاق من براثن الظلم والقهر والعدوان الحكومي . نقول كان يفترض بالادارات العامة ان تتدارك اوضاعها وتتخلى عن اساليبها القديمة التي اكتسبتها في ظل اوضاع شاذة كان كل هم الموظف هو ان يحمي نفسه من المساءلة وهو يطبق القانون ولو ادى ذلك الى هدر حقوق الناس وامالهم وتطلعاتهم .
كل ذلك يحدث في ظل نظام دستوري متطور يحق للعراقيين جميعاً ان يفخروا به بكل قوة بعد ان كتبوه وخطوا كلماته بدمائهم الزكية في يوم تاريخي قل نظيره بين تجارب الشعوب ، بعد ان خرجوا بالملايين رجالا ونساءا يقودون اطفالهم وهم بملابس العيد تحت ازيز رصاص وقذائف الارهابيين ليقولوا بكل شجاعة واعتزاز نعم للدستور رغم انف كل اعداء العراق ، فكانوا ، كما هم دائما شعباً حياً يقبل التحديات وينتصر فيها دائماً ، ولا عجب فهم ابناء اول حضارة عرفتها البشرية. الا ان الادارة بقت على حالها يقودها في مرافق متعددة ممن ينتظرون ويحسبون الايام لنفاذ قانون التقاعد الجديد ، ولا هم لهم سوى ذلك ومن ثم لا يفكرون باية ابداعات او تطويرات تحسباً من الوقوع في المشاكل والمسؤولية وهم على اعتاب مغادرة الوظيفة العامة .
ونتناول في الجزء الثاني استكمال طرق التفسير ثم بيان الأساس الفكري للدولة الحديثة والأسباب التاريخية للتخلف الإداري.



المطلب الثاني ـ تفسير النصوص القانونية
الفرع الاول ـ ماهية التفسير
التفسير لغة، البيان والتوضيح لكشف المراد ، اما تفسير النصوص القانونية اصطلاحا فيعني التعرف على المعنى الذي ينطوي عليه النص وما يقصده المشرع من عباراته ، فالوقوف على نية المشرع وارادته التي عبر عنها بالنص التشريعي هي الغرض الذي يسعى كل من الفقيه ورجل الادارة والقاضي الى الوصول اليه من وراء التفسير الا ان الخلاف يثار عندما يراد تحديد المقصود بارادة المشرع ونيته. وفي ضوء ذلك تعددت وتنوعت مدارس ومذاهب التفسير.
وذهب فقهاء القانون بشأن المقصود بتفسير القانون مذاهب شتى ، الا انه يمكن تمييز اتجاهين رئيسيين بهذا الصدد ، اولهما يضيق من مفهومه تبنته مدرسة التزام النصوص ، وثانيهما يوسع من معناه وتبنته اغلب المدارس القانونية الحديثة.
اما التفسير الضيق فيعني ازالة غموض النص وتوضيح ما ابهم من احكامه ، ووفقاً لهذا التصور فأن التفسير لا يقع الا في حالة غموض النص ولا شأن للتفسير بنقص النصوص او قصورها او تعارض اجزاء القانون ، لان هذه الامور ، حسب وجهة النظر هذه ، من اختصاص المشرع لا المفُسر.
بينما يعني التفسير الواسع توضيح ما غمض من الفاظ النصوص القانونية ، وتقويم عيوبها ، واستكمال ما نقص من احكام القانون والتوفيق بين اجزائه المتعارضة وتكييفه على نحو يجاري متطلبات تطور المجتمع وروح العصر. والتفسير بهذا المعنى يلازم تطبيق القانون ، سواء كان النص واضحاً او غامضاً ،لان التفسير ماهو الا عملية عقلية علمية يراد بها الكشف عن المصلحة التي تهدف اليها الارادة التشريعية وحكمة التشريع للحكم في الحالات الواقعية وتطبيق القانون على وقائع الحياة الفردية والاجتماعية بتطوراتها الراهنة والمستقبلية فلا يقف تفسير القانون جامدا عند حد معين لا يتجاوزه هو وقت صدور التشريع وانما يتطور مع تطور الحياة. وهذا هو التفسير المتطور في حقيقته ومعناه.
وفي ضوء ما تقدم ذهب الفقة القانوني الحديث الى ان تحقيق العدالة لا يقوم على مجرد تكرار الاحكام للحالات التي تبدو في الظاهر متشابهة ، او كانت متشابهة فعلا ، ولكن دونما نظر الى عوامل الزمان والمكان ، ذلك ان تطور القانون وملائمته للمستجدات والحاجات البشرية المتصاعدة والمتفرعة الى كل الاتجاهات ، لايحصل بالتفسير الضيق والتكرار، ولكن حسن ادارك القاضي وقناعته ويقينه القائم على اساس العقل والحدس يقود الى تلك النتيجة .
فتطور اتجاهات تفسير القانون تتطلبه الحياة الاجتماعية المعاصرة بتطوراتها المتسارعة التي لم يعد باستطاعة المشرع مجاراتها بحركته الثقيلة المعهودة (38) ، فيوما بعد يوم تظهر للوجود مخترعات جديدة وافكار خلاقة حديثة تتولد عنها حقوق وتثار بشأنها منازعات متنوعة ، مما يتطلب وجود عقلية قضائية وادارية فذة بمستوى الحدث قادرة على سد الفراغ التشريعي والقصور التشريعي.
وملائمة القانون تتطلبها العدالة الحقة في كل زمان ومكان وتلك الحاجات المستجدة، والملائمة هي عملية غائية ، وليست مجرد منطق صوري مكرر ، غايتها تحقيق مقاصد النظام القانوني والحكمة من التشريع وبعيدا عن الاراء الشخصية والهوى .(39)
الفرع الثاني ـ القائم بالتفسير
من الناحية النظرية ، تقع مهمة تفسير القانون ابتداءاُ على عاتق المخاطبين بحكمه ، لانهم المكلفين بالامتثال لاوامره ونواهيه وهم من يتحمل المسؤولية الجزائية او المدنية في حالة ان خرجوا عن مقتضى احكامه ، لان الجهل بالقانون ليس بحجة، الا انه من الناحية العملية وكما هو الحال في تفسير النصوص الشرعية، فان تفسير القانون ليس بالامر الهين في اغلب الاحوال، وهكذا وجد من يساعد الناس على القيام بهذه المهمة ، كالمحامي والفقيه.
وفي نطاق العمل الاداري فان مهمة تفسير القانون تقع على عاتق رجل الادارة من وهو ينظر في طلبات الناس واحتياجاتهم ، او من تلقاء نفسه حينما ينفذ المهام الرسمية التي تدخل ضمن اختصاصه ، كاصدار القرارات الادارية او ابرام العقود الادارية او المدنية.
واخيراً فان مهمة تفسير القانون تقع على عاتق القاضي بمناسبة نظره دعوى رفعت امامه، والقاضي في ممارسته لوظيفته القضائية لا يتدخل او لا يبادر لممارستها من تلقاء نفسه بل لابد ان يتقدم اليه احد اطراف النزاع عن طريق الدعوى حتى يمارس وظيفته في الرجوع الى القاعدة القانونية المناسبة واستخلاص النتائج القانونية منها ومن ثم انزال حكمها على النزاع المعروض عليه .(40)
الا ان حاجة الناس لمعرفة احكام القانون وتفسيره تكون قبل النزاع لا بعده،أي قبل رفع الدعوى، وبما ان الدعوى ليست امرا لازما او حتمياً في كل الاحوال ، حيث يقوم الناس يوميا بعدد غير محصور من العلاقات القانونية ، ولا يثار بشأنها نزاعاً يستدعي عرضه امام القضاء على الاغلب الا بنسبة محدودة ، فان حاجة الناس للتفسير القضائي تكون بعد تحقق الخلاف او وقوع الجريمة .في حين ان الحاجة الحقيقية لتفسير القانون وفهم احكامه ينبغي ان تكون قبل النزاع ورفع الدعوى حتى يتمكن الناس من تجنب الخطأ واللامشروعية والجريمة .
ومن هنا تبدو اهمية تنشيط الفقه القانوني لدعم نشاط الادارة العامة ومشروعيته ومساعدة الناس على تحقيق امانيهم وتطلعاتهم المشروعة دون ان يؤدي بهم ذلك ، ولو بحسن نية ، الى الوقوع في الخطأ واللامشروعية والجريمة. لان القانون لا يعتد بالنوايا الحسنة والبواعث الطيبة بقدر ما يهتم بالضرر الذي يوقعه العمل غير المشروع والجريمة بالمجتمع.
الفرع الثالث ـ انواع التفسير:
انواع التفسير من حيث دلالة النصوص على المعاني ثلاثة انواع ، هي التفسير الحرفي وهو التفسير الذي يقف عند المعنى الحرفي للنص ، وهو منتقد من قبل من رأى ان فكرة التفسير تتضمن بالضرورة ملاحظة امور خارجة عن الكلمات ، وليست هناك جملة من الالفاظ يمكن ان تحدد المعنى دون ملاحظة البيئة والسياق . لذلك ، وفقا لهذا الراي ، فان الوضوح ليس الا مظهراً خادعاً ، وان الخروج على حرفية النصوص امر لا مناص منه.
، والتفسير الضيق وهو التفسير الذي يتجاوز المعنى الحرفي ويمتد الى دلالة المنطوق ، والتفسير الواسع وهو التفسير الذي يتجاوز المعنى الحرفي ويمتد الى دلالة المفهوم او القياس.
وكلا التفسيرين الضيق والواسع يدخل في نطاق قاعدة ( العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للالفاظ والمباني ) وان امتد التفسير الواسع الى ابعد مما هو مقرر في هذه القاعدة ايضاً.
اما انواع التفسير من حيث مصدره فهو على اربعة انواع حيث يقوم بالتفسير عادة الفقه والقضاء والادارة والمشرع ، وسنتكلم بايجاز في هذه الانواع .
اولا ـ التفسير التشريعي : وهو التفسير الذي يصدر من المشرع لازالة غموض او سد نقص في قانون اختلفت المحاكم والادارات العامة في تطبيقه، ويصدر التفسير التشريعي بموجب قانون مفسِر وهو ملزم لجميع السلطات ويسري باثر رجعي على الوقائع القائمة في ظل القانون المفسَر والتي لم تصدر بشأنها الاحكام على ان لا يتضمن احكام جديدة لم يتضمنها القانون المفسَر. فان تضمن احكام جديدة فانها تسري للمستقبل فقط .
ثانيا ـ التفسير الاداري، وهو التفسير الذي تتولاه السلطة التنفيذية من تلقاء نفسها وهي بصدد تنفيذ القوانين على الحالات الواقعية وهو الاضخم في الحياة العملية ، والتفسير الاداري غير ملزم للقضاء وانما يعتبر بمثابة رأي شخصي ويقتصر الزامه على من وجه اليه التفسير من رجال الادارة. وتصدر التفسيرات الادارية على شكل تعليمات او لوائح او منشورات ، وهذه تعتبر قرارات ادارية تنظيمية يجوز الطعن بها امام القضاء الاداري.
ثالثاً ـ التفسير القضائي: يقوم القاضي بتفسير القانون بمناسبة نظره نزاع عرض عليه. ويواجه القاضي بحكم وظيفته غموض التشريع ونقصه وعيوبه ومن ثم يعمل على استنباط الاحكام للوقائع لسد النقص ورفع العيوب من النصوص. وبما ان القضاء يواجه وقائع الحياة المتجددة ويتميز تفسيره للقانون بالطابع العملي فانه وعبر التاريخ كان عاملا مهما من عوامل تطوير القانون ، بل انه اعتبر مصدرا رسميا للقانون حتى في الدول لا تأخذ بالسوابق القضائية كما هو الحال مع القانون الاداري كما سبق البيان.
وهو بخلاف التفسير الاداري لا يصدر من القاضي من تلقاء نفسه وانما بناءا على دعوى حسب الاصل . ويستثنى من ذلك القضاء الدستوري في قوانين بعض الدول.
والتفسير القضائي ملزم في حدود الدعوى وفقا لمبدأ حجية الشيء المقضي به ، الا انه غير ملزم للمحكمة التي اصدرته او للمحاكم الاخرى ولو في قضايا اخرى مشابهة. الا ان قرار الهيئة الموسعة في محكمة التمييز وفي حدود الدعوى واجب الاتباع وفقاً للمادة (263)من قانون اصول المحاكمات الجزائية. وكذلك الحال بالنسبة للحالات التي نصت عليها المادة(215) من قانون المرافعات.
رابعاـ التفسير الفقهي:
وهو التفسير الذي يقوم به فقهاء القانون وشراحه، ويتميز التفسير الفقهي عن انواع التفسير الاخرى بانه لا يتعرض لحالات خاصة وانما يجهد الفقيه على استخلاص قواعد ومباديء عامة عن طريق التحليل العلمي والمنطقي للنصوص للوصول الى حكم سليم بشأن حالات ووقائع عامة.
والتفسير الفقهي يبحث في الاصول والمصادر ، مثل وضع التعريفات القانونية وتحليل شروط تطبيق نص معين او وضعها في حالة خلو التشريع منها صراحة ، وكذلك البحث في اركان وعناصر الوقائع المادية مثل اركان العقد واركان الجريمة ، او انتقاد النصوص القائمة واقتراح البدائل الملائمة ، وهكذا كان الفقه عبر التاريخ خير مرشد للمشرع والقاضي والمفسر، فغالبا ما يتأثر المشرع بنظريات الفقهاء ويتبناها في تشريعاته ، وغالباً ما يتبنى القضاة اراء الفقهاء السديدة ويعلنوها من خلال احكامهم ايضاً .
ومن الاتجاهات الحديثة في العمل القضائي الاستفادة من الفقهاء واساتذة القانون من خلال تكليفهم بمهام رسمية وظيفية ضمن ملاك المحاكم للاستفادة من مشورتهم القانونية كما هو متبع في مجلس الدولة الفرنسي ومجلس الدولة المصري ، وما نصت عليه المادة (25) من قانون مجلس شورى الدولة العراقي رقم (65) لسنة 1979 المعدل بشأن الاستعانة بخبرة عضو الهيئة التدريسية في الجامعات العراقية او انتدابه ، ونصت الفقرة ثانيا من المادة (92) من دستور جمهورية العراق لسنة 2005 على انه ( تتكون المحكمة الاتحادية العليا من عدد من القضاة، وخبراء الفقه الاسلامي وفقهاء القانون يحدد عددهم ، وتنظم طريقة اختيارهم ، وعمل المحكمة، بقانون يسن باغلبية ثلثي اعضاء مجلس النواب).(41)
الفرع الرابع ـ قواعد التفسير
ان قواعد التفسير تبدو على نوعين اولهما: قواعد التفسير الخارجية وهي القواعد التي يستعين بها المفسر من خارج دائرة النصوص وثانيهما: قواعد التفسير الداخلية وهي القواعد التي يلتمسها المفسر داخل دائرة النصوص.
اولاًـ طرق التفسير الخارجية:
وهي طرق للتفسير يستند فيها المفسر الى عنصر خارج عن التشريع لاسيما في حالة غموض النص واهمها ما يأتي:
1ـ التفسير في ضوء حكمة التشريع : لكل نص تشريعي حكمة ابتغاها المشرع من وراء وضعه ، وتتجسد هذه الحكمة في الغرض الذي هدف اليه المشرع من وضع النص ، اوالعلة التي اقتضت الحكم ،
وعن طريق ادراك الغرض اوالعلة يمكن في احيان كثيرة الكشف عن دلالات النص وبيان المراد منه ، ذلك ان دلالات الالفاظ على المعاني قد تحتمل اكثر من وجه ، وخير مرجح لوجه منه على الاخر هو الوقوف على حكمة التشريع وفهم المقاصد العامة من التشريع، وقد اتفق اغلب فقهاء القانون على ان البحث عن حكمة التشريع هو ما ينبغي ان يكون الخطوة الاولى للمتصدي للتفسير.
ويمكن الوقوف على حمكة التشريع من خلال التعرف على المصالح الاجتماعية او الاقتصادية او السياسية التي يراد حمايتها من وراء وضع التشريع او النص ، ذلك ان اغلب القواعد القانونية لا تعدو ان تكون الا نتاج المفاضلة بين المصالح المتنازعة .
من ذلك ان القواعد القانونية التي تتيح للمالك مكنة استرداد ملكه من تحت يد المغتصب ،انما جاءت بناءاً على حكمة مفادها ان مصلحة المالك اولى بالرعاية من مصلحة المغتصب وعليه وفي اطار تفسير نصوص دعوى الرد اذا كان هناك غموض في تفسير النصوص فان حكمة التشريع تقتضي ان يفسر النص لمصلحة المالك ، الا انه وفي اطار دعوى كسب الملكية بالتقادم اذا توفرت في المغتصب شروط اكتساب الملكية بالتقادم فان حكمة التشريع تقتضي تفسير النص الغامض لمصلحة الحائز (المغتصب) وهذا ما تقتضية علة الحكم في نصوص كسب الملكية لمرور الزمان.
الا ان الحكمة التشريعية لا تبقى حبيسة وقت وضع النص فهي متجددة ومتحركة وان بقت الفاظ النص هي ذاتها، فالحكمة التشريعية هي القوة المتحركة التي تبعث في النص الحياة مادام قائما ، وبذلك يكتسب النص مع تطور الاوضاع الاجتماعية معناً جديداً ويتسع تطبيقه ليغطي حالات جديدة لم تكن معروفة وقت وضع النص ، والفكرة المتقدمة تعبر حقاً وصدقاً عن نظرية التفسير المتطور.(42) وبصورة عامة يمكن تلمس حكمة التشريع في الاسباب الموجبة للتشريع ايضا.
(43)
2ـ الاعمال التحضيرية: وهي مجموعة المذكرات التفسيرية ومناقشات المجالس التشريعية ومحاضر اعمال اللجان، التي تقترن عادة بالتشريعات عند تحضيرها.
وتبدو اهمية الاعمال التحضيرية في التعرف على نية المشرع وحكمة التشريع وتفسير الالفاظ المبهمة ، بيد انه مهما كانت أهمية الاعمال التحضيرية فانها لا تعتبر جزءاً من التشريع، بل هي شيء خارج عنه يحتمل فيه الخطأ. وهي غير ملزمة للقضاء او لرجال الادارة بطبيعة الحال ، خاصة وان بعض الجدل والافكار الواردة اثناء الاعداد للتشريع لم تجد طريقها اليه، وقد يعدل القانون تعديلاً جوهرياً دون ان تعدل المذكرة التفسيرية بما يتفق وتعديل النصوص .
واذا كانت المذكرة التفسيرية للقانون ذات اهمية خاصة في الكشف عن نية المشرع وفي توضيح ما غمض من الاحكام ، فانها لا ترقى الى مستوى النصوص التشريعية وليس لها قوة الزامية.(44)
وخلاصة القول انه يقتصر دور الاعمال التحضيرية والمذكرة التفسيرية على الاستئناس بهما دون ان تكون لهما قوة النصوص التشريعية. ويذهب الفقه القانوني الحديث الى ان قصارى ما يكون للاعمال التحضيرية من قيمة هو ان تكون مجرد وسيلة مساعدة للتعرف على ارادة تشريعية معينة لا تؤخذ في الاعتبار الا بحذر واحتياط. (45)
من ذلك ما نصت عليه المادة (214/1) من القانون المدني الاردني على ان ( العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للالفاظ والمباني ) وتتعارض هذه المادة ظاهرياً مع المادة (239/1) من نفس القانون التي تنص على انه ( اذا كانت عبارة العقد واضحة فلا يجوز الانحراف عنها ) الا انه بالرجوع الى المذكرة الايضاحية للقانون يتبين منها ما يلي ( ان العبرة في تفسير العقد في الفقه الاسلامي بالارادة الظاهرة لا بالارادة الباطنة . ولا يقدح في ذلك قاعدة الامور يمقاصدها او ان العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للالفاظ والمباني (م،2، 3 من المجلة) ونحو ذلك فان هذه القواعد لا تعني انه يعتد بالارادة الباطنة ، بل ان المقصود ان الذي يعتد به المقاصد والمعاني التي تستخلص من العبارات والصيغ المستعملة ، او من دلائل موضوعية وعلامات مادية قلا تجاوز هذا البحث الموضوعي الى بحث ذاتي نستشف به الضمير ونستكشف به خفايا النفوس).(46)
3ـ المصادر التاريخية:
يمكن للمُفسر ان يرجع الى المصادر التاريخية للتشريع لكشف المراد من النص ، ويقصد بالمصادر التاريخية المراجع التي يأخذ منها المشرع قواعد قانونه ويستمد منها احكامه.
ومن ذلك ان اغلب التشريعات العربية استمدت مصادرها اما من القواني الوضعية الغربية او من الفقه الاسلامي ، فان غمض نص وكان مستمدا من قانون وضعي اجنبي كان بامكانه الرجوع الى ذلك الفقه والقضاء الأجنبيين في تفسير هذا النص ، وان رأى المفسر انه مستمد من الفقه الاسلامي استعان بهذا الفقه في تفسير هذا النص.
ومن ذلك ان الفقه والقضاء المصري كان يستعين في تفسير القانون المدني القديم بمصدره التاريخي وهو القانون المدني الفرنسي، ومن ذلك تفسيره لنص المادة (555) مدني مصري مختلط التي قررت ان ( ان قسمة المال عيناً تعتبر بمنزلة بيع كل من الشركاء حصته الشائعة قبل القسمة لمن وقعت في نصيبه ويترتب عليها ما يترتب على البيع ).
والحال ان هذا الحكم يتعارض مع طبيعة القسمة المقررة في اغلب القوانين الحديثة ومنها القانون المدني الفرنسي ، لان القسمة غير البيع،فالقسمة كاشفة للملكية وليست ناقلة لها، فان تمت القسمة يعتبر كل متقاسم انه كان دائماً مالكاً للحصة التي اليه منذ وقت بدء الشيوع لا من وقت القسمة وانه لم يملك قط شيئاً من باقي الحصص. (47)
ومن ذلك ما جاء في قرار الهيئة العامة لمحكمة التمييز في العراق رقم 1746/حقوقية/968 في 3/5/1970 بانه ( وقد وجد ان المادة 931 من القانون المدني التي اجازت الوكالة العامة لم تعين التصرفات التي يحق للوكيل العام القيام بها والتصرفات التي تمتنع عليه فوجب الرجوع الى الشريعة الاسلامية وهي مصدر هذه المادة عملا بالفقرة الثانية من المادة الاولى من القانون المدني. ان القول المفتى به في الشريعة الاسلامية هو ان الوكالة العامة تقتصر على المعاوضات ولا تشمل التصرفات الضارة بالموكل كالطلاق والوقف والهبة والابراء والحط من الدين ما لم ينص الموكل عليها صراحة وذلك لان الغاية من الوكالة حفظ مصالح الموكل لا الاضرار به ....) (48).وعلى هذا النحو فان الرجوع الى المصدر التاريخي يعتبر اصلا مسلما به من اصول التفسير.(49)
الدستور: لم يتطرق الباحثين الى الدستور كمرجع للتفسير في حالة غموض النص ، ذلك ان الدستور يعبر عن السياسية التشريعية والاجتماعية والاقتصادية السائدة في الدولة ، ويمكن استجلاء غموض النص ورفع التعارض بين النصوص من خلال الرجوع الى احكامه كما يبدو لنا ، فالقاعدة القانونية انما تستمد شرعيتها اصلاً من مبدأ عام نص عليه الدستور ، وفهم مضمون هذا المبدأ يساهم بلا شك في الوصول الى حكمة النص ومراميه.
المباديء العامة للقانون
رغم اقرار جميع فقهاء القانون بالاهمية الكبرى لمباديء القانون العامة باعتبارها تعبر عن حيوية النظام القانوني وأداة من ادوات تنميته وتطويره ، فانه لايوجد اتفاق فقهي على تحديد المقصود منها .
ويذهب رأي الى ان المبدأ العام هو قاعدة القواعد القانونية ،بمعنى قابلته على الانطباق على قواعد قانونية اخرى بحيث تكون الاخيرة تطبيقاً للمبدأ العام ، واذا اخذنا المبدأ العام على هذا المعنى ، فانها يصبح فكرة فنية المقصود منها وضع بناء منطقي متماسك للقواعد القانونية .
وعرفها الفقيه بيسكاتوري بأنها، مجموعة من المباديء التي تستخدم في توجيه النظام القانوني ، من حيث تطبيقه وتنميته ، ولو لم يكن لها دقة القواعد القانونية الوضعية وانضباطها .
ونبه الفقيه ريبير الى ضرورة تحاشي تعريف المباديء العامة للقانون ، وهو يعتقد ان المباديء العامة يمكن التعرف عليها عندما تقع مخالفة لها ، فلئن كان من الصعب تعريف المبدأ الاساس في احترام الملكية الخاصة ، الا انه يمكن التعرف على المبدأ عند مصادرة الملكية دون مقابل وبطريقة تحكمية .
مضمون المباديء العامة للقانون :
المباديء القانونية ، اما ان تكون مكتوبة او غير مكتوبة .
والمباديء القانونية غير المكتوبة ، انما تستقر في ذهن وضمير الجماعة ، تمليها العدالة المثلى وهي تستند الى المنطق والعقل والحدس وطبيعة الاشياء وقواعد العدالة والاخلاق ولاتحتاج الى نص يقررها ويمكن ان تستمد منها قواعد قانونية ملزمة يتعين الخضوع لها ، يعمل القاضي على الكشف عنها وتقريرها مستلهماَ اياها من روح التشريع ، فيعلنها من خلال احكامه معطياً اياها القوة الالزامية . ومن ثم يتعين على الادارة احترامها والالتزام بها ، ويعد كل تصرف مخالف لها معيباً بعيب مخالفة القانون .
وكثيرا من مباديء القانون العامة تحولت الى قواعد قانونية مكتوبة عندما يتبناها المشرع وهو بصدد سن التشريعات المختلفة .
ويتنوع مضمون المباديء العامة بحسب طبيعة المجال القانوني الذي تعمل فيه ، الا انه يمكن ارجاعها من حيث اساسها وجوهرها الى مبدأين اساسيين هما مبدأ الحريــة ومبدأ المســـاواة .
ويمكن ان ترجع المبادىء الاتية الى مبدأ الحريـة :
ـ مبدأ لاجريمة ولا عقوبة الا بنص .
ـ مبدأ حرية العقيدة والارادة .
ـ مبدأ ان الاصل براءة الذمة ، ويتفرع عنه مبدأ ان المتهم بريء حتى تثبت ادانته في محاكمة
عادلة.
ـ مبدأ احترام الحقوق المكتسبة .
ـ مبدأ عدم رجعية القرارات الادارية .
ـ الملكية الخاصة والحرية الفردية مكفولتان في حدود القانون .
ـ مبدأ اتاحة دعوى قضائية لكل من تضررت مصالحه نتيجة قرار اداري معيب .
ـ مبدأ خضوع كل سلطة ادارية للرقابة ، ويتفرع عنه مسؤولية الوزير امام البرلمان .
ـ مبدأ ان لا تقييد للحريات العامة الا بقانون .
ـ مبدأ حق الدفاع في المحاكمات التأديبية .
ـ مبدأ ضرورة سير المرفق العام بانتظام .
ـ مبدأ بطلان التصرفات نتيجة الاكراه .
ـ مبدأ عدم جواز الالتزامات المؤبدة .
ـ مبدأ عدم التعسف في استعمال الحق .
ويمكن ان ترجع القواعد التالية الى مبدأ المساواة :
ـ مبدأ مساواة المواطنين امام القانون .
ـ مبدأ المساواة بين الجنسين في الوظائف العامة .
ـ مبدأ المساواة في تحمل التكاليف والاعباء العامة .ويترتب عليه تعويض كل مواطن تضررت امواله بسبب الاجراءات الحكومية كالاعمال الحربية واجراءات فرض القانون، لان تحمل جزء من المواطنين الاضرار دون غيرهم يخل بمبدأ المساواة.
ـ مبدأ مساواة المواطنين في الانتفاع من المرافق العامة .
ـ مبدأ المساواة في مباشرة الاعمال الاقتصادية .
ـ مبدأ المساواة في الضريبة .
ـ مبدأ المساواة في المعاملة .
ـ مبدأ حق الحياة لكل فرد .
ـ مبدأ تغير الاحكام بتغير الازمان .
ـ مبدأ عدم جواز الاعتذار بالجهل بالقانون .
ـ مبدأ تفوق المعاهدة الدولية على القانون الداخلي .
ـ مبدأ ان الغلط الشائع يقوم مقام القانون(50).
وما ذكر في اعلاه من مباديء قانونية عامة ،هو على سبيل المثال لا الحصر ، حيث لا يمكن حصر المباديء العامة في اطار حدود معينة ، لانها قابلة للخلق والتطور بمرور الزمن.
ويرجع الفضل في استنباط المبادئ العامة للقانون الى مجلس الدولة الفرنسي من خلال ما اصدره من احكام منذ انهيار الجمهورية الثالثة وهزيمة فرنسا عام 1948 وسقوط دستورها ، وما رافق ذلك من اعتداء وتجاوز على الحريات العامة ، فتدخل مجلس الدولة للذود عنها من خلال نظريته في مبادئ القانون العامة ليحلها محل الدستور ، تلك المباديء التي استقرت في ضمير الجماعة وتبقى قائمة فيه على الرغم من سقوط النظم او الوثائق الدستورية التي تقررها .(51)
الشريعة الإسلامية:
من عظمة فقه الشريعة الإسلامية ،ان فقهاء الشريعة وهم يفسرون القرآن الكريم وهو كلام الله المنزل بطريق الوحي لفظاً ومعناً على رسوله محمد بن عبد الله خاتم الانبياء صلى الله عليه وسلم لم يقفوا عند التفسير الحرفي للقرآن حصراً، باستثناء اهل الظاهر، ويكاد ان يجمع فقهاء الشريعة الاسلامية على ان النصوص تسري بلفظها وفحواها،بمعنى ان التفسير اما ان يقوم على استخلاص معاني النصوص من ظاهر عبارة النص ودلالة الفاظه ( دلالة اللفظ على المعنى ) ، او ان يقوم على أستخلاص معاني النص من دلالات مضمون عبارة النص( دلالة النص على مضمونه ) ولذلك قالوا ان العبرة في المقاصد والمعاني لا في الالفاظ والمباني . وتفسير علماء المسلمين تفسير علمي وعقلي يتميز بحرية فكرية محفوفة بالمشروعية .
وقد تبنى الفقه الاسلامي بكافة مذاهبه هذا الاسلوب في التفسير ، بأستثناء اهل الظاهر الذين تمسكوا بحرفية النصوص ويقابلهم في الفقه القانوني الغربي مدرسة الشرح على المتون كما سبق البيان، وكلا المدرستين مندثرتان في الحال الحاضر، باستثناء انه يوجد لهما تطبيق واسع لدى رجال الادارة والقضاء في بعض البلدان العربية، بالنظر لقعودهم عن مواكبة القفزات الهائلة في مختلف العلوم والنشاطات الاقتصادية والسياسية والحاجات الاجتماعية المتسارعة في كل يوم . وواضح، من التفسيرات الاجتهادية العميقة التي جاء بها فقهاء المسلمين وكذلك الفقه والقضاء المعاصر لمعالجة النقص في التشريع، ان ادراك الانسان لايقف عند حدود الالفاظ كما انه لايجمد عند المعنى الحرفي للنص وانما يغور في اعماق النصوص ويكتشف انواعا من المعاني والعلاقات المتلازمة بينها ، والغاية مسايرة تفسير القانون مع تطور المجتمع وبهدف الوصول الى حلول لمسائل لم تعالجها النصوص وفقا لحكمة التشريع وروح النصوص والاعراف المتواترة والمبادىء العامة وقواعد العدالة . ومن الامثلة الملفتة للنظر، تفسير فقهاء المسلمين قوله تعالى ( واتوا اليتامى أموالهم ) (52) فذهبوا الى ان المقصود هو، واتوا البالغين منهم، رغم ان البالغ لا يوصف باليتم ، وحكمة هذا التفسير منوطة بمصلحة الصغير الذي يموت ابواه ويتركان له ثروة ، فان سلمت له على هذا الحال من صغر السن واليتم لاضحى عرضة لسلب ثروته وللغش والخداع ممن لا يخافون يوما كان حسابه عظيماً . ومن ذلك ايضاً تفسيرهم لقوله تعالى (( وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف )) (53)
ومن الواضح ان هذه الاية الكريمة قد انزلت اصلا لبيان ان نفقة الوالدات والمرضعات وكسوتهن على الوالد وجوباً . ولكن المتأملين المتعمقين فيها ادركوا انها تشير الى مدلولات واحكام فقهية اخرى لم تكن ظاهرة في سياق النص ولكنها من لوازمه. وقالوا ، ان في هذه الاية اشارة الى ان النسب للأباء فقط استدلالا من اللام التي تفيد الاختصاص في قوله تعالى (وعلى المولود له) والى ان الأب ، مادام مختصا بالنسب ، لايشاركه احد في النفقة لولده عليه ،وفهم من هذا الاختصاص ايضا ان الاب له عند احتياجه ان يمتلك بغير عوض من مال ابنه مايسد به حاجته لأن اللام للملك والاختصاص وأذا كان تملك الولد غير ممكن فتملك ماله امر وارد وجائز . وفي ذلك قال الفقهاء المسلمين ، أن دلالات النصوص على الاحكام لاتقف عند حدود المعنى الحرفي والسطحي للنص وانما تتعداها الى جوهر النصوص ومعقولها .(54)
وفي ضوء ما تقدم يراعى مايأتي عند اعطاء رأي قانوني في مسألة معينة :
1ـ تحديد القانون الواجب التطبيق.
2ـ التأكد من نفاذه وعدم تعديله او الغائه.
3ـ قراءة جميع النصوص المتعلقة بالموضوع للتمييز بين الاحكام العامة والخاصة والاستثناءات.
4ـ الرجوع الى الانظمة والتعليمات التي صدرت لتسهيل تطبيق القانون في حالة وجودها.
5ـ اذا كان النص واضحاً فلا مجال للاجتهاد ويعطى الرأي معززاً بالمادة القانونية التي تحكمه.
6ـ اذا كانت الحالة غير محكومة بنص او كان النص غامضاً وقابلاً للتأويل ، فينبغي الرجوع لمصادر القانون الاخرى وللاحكام القضائية ورأي الفقه في هذا المجال .
7ـ اذا لم يتم الوصول الى حل فيمكن بناء الرأي على اساس الاجتهاد مع اخذ المشورة من ذوي الاختصاص الاخرين والاشارة بوضوح الى انه اجتهاد شخصي ،ولا خشية من الاجتهاد على حقوق الموظف او غيره لان بإمكانه الطعن بالقرار الإداري الصادر بموجبالتفسير امام القضاء الاداري ، واذا كانت الحالة ذات اهمية خاصة فيعرض الموضوع على مجلس شورى الدولة حصراً، حيث لا نفضل عرض الموضوع على وزارات اخرى، لانها ليست داراً للافتاء، ولان القانون حصر الفتوى بمجلس شورى الدولة لضمان وحدة الرأي القانوني داخل الدولة.
وسنكمل مطالب لبحث ثم نحاول في مطلب اخير ان نحلل الاسباب التاريخية للتخاف الاداري في العراق خاصة والوطن العربي ثانياًُ،وفهم الاسباب قد يعود الى الحل.
الاسباب التاريخية للتخلف الاداري
تميزت مرحلة ما بعد الحرب العالمية الاولى (1914 ـ 1917) بمحاولة الدول الغربية تطبيق نماذج من واقعها الدستوري والقانوني والاداري في الدول العربية الخاضعة لنظام الانتداب . فقام لهذه الدول برلمان و دستور وقوانين وقوات مسلحة واقيمت المؤسسات الادارية ( الوزارات ) ، وكانت تلك الدساتير الموضوعة لا تقل او ربما تتفوق على دساتير الدول التي وضعتها ، حيث نصت على طبيعة تلك الانظمة السياسية الوليدة بانها ديمقراطية وان الشعب هو مصدر السلطات كما نص على احترام الحريات العامة وفي طليعتها حرية الرأي والمعتقد، وعلى العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين ...
والحال ان ذلك كان مجرد حبراً على ورق ، حيث بقي الحاكم ، ملكاً او رئيساً هو مصدر السلطات على مر الزمن ، وكما يبدو فان نقل هذه تجربة التي استوفت كل مقومات نضوجها والوعي بها في بيئتها الغربية الى الشرق على يد الدول المنتدبة وفي اجواء الشك ونظرية المؤامرة ، فضلا عن الجهل بها ، قد ادى الى مسخ هذه التجربة الانسانية الفذة وافرغها من مضمونها المعرفي بل ان دلالتها المصطلحية قد تعرضت للتشويه والتحريف على يد الانظمة الشمولية التي انتجتها ثورات مزعومة مدبرة والتي افرزت مفهوم الثقافات الخاصة والديمقراطية الخاصة ، والزعم ان الديمقراطية هي من طبيعة الغرب نفسه وبالتالي يتعذر على الثقافة العربية اعادة إنتاجها، وهو زعم يفتقد الرؤية التاريخية لتطور المجتمع البشري وتعمد اغفال الاشارة الى التجارب الديمقراطية الحديثة في مختلف انحاء العالم من الشرق والغرب.
والحال ان نظام الدولة القانونية الديمقراطية ومؤسساتها الدستورية، نظام انساني بكل معنى الكلمة ،ولايمكن احالة مجمل تأسيسه الى مجموعة بشرية معينة بالذات بل هو وليد تطور لصراع استمر ، ولايزال ، عبر فترات متعاقبة من التاريخ بين الحكام والشعوب ، فكان خلاصة التجارب الأنسانية التي عانت من مآسي الحكم الاستبداي عبر التاريخ.( إلا أنه يرجع لليونانيين الفضل في نشأة بعض الأفكار والمبادئ القانونية الراسخة في عالم اليوم مثل الديمقراطية والحرية والمساواة وغير ذلك وإن لم تصل إلى المفهوم العصري لها ومدلولها الشامل ) .
ان الديمقراطية وسيلة لاهدف بحد ذاته ، فهي وسيلة انسانية متطورة لاحتواء الثقافات المتنوعة وطموحات القوميات المختلفة لغرض تحويل الصراعات المحتمل نشوؤها ، على اثر هذا التنوع والاختلاف ، الى صراعات سلمية وفقا لقواعد محددة تسمى احيانا بـ ( قواعد اللعبة الديمقراطية ) ويلاحظ الناظر ان انجح الديموقراطيات كانت في الدول الاشد تنوعا واختلافا ، وكانت سببا مباشرا في نهضة هذه الشعوب ، بما اتاحته من تنظيم قانوني يقوم على الارادة الحرة للشعب وترسيخ قيم وأخلاقيات وتقاليد علمية ، تقوم على احترام الرأي الأخر واتاحة الفرصة للابـداع الفكري ليـأخذ دوره في الحياة العامة ، وخلق نظم ادارية مؤسساتية فعالة تدعم الابتكار وأنتاج المعرفة ،ولعل ذلك ينطبق على مفهوم الدولة الحديثة التي بلغها الكثير من مناطق العالم الثالث، بغض النظر عن السياق التاريخي، بمختلف متغيراته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، الذي أسفر عن ولادة هذا النموذج من الدولة في تلك المناطق. وهو سياق يحمل بعض الاختلاف عن ذلك الذي حدث في الغرب الا انه انتج نموذج الدولة الحديثة الديمقراطية كما في التجربة اليابانية والكورية والهندية ....
فقد نشأت الدولة الحديثة والتجربة الديمقراطية المستندة الى الارادة العامة على اساس فلسفي وفكري ابتدعه مفكري عصر التنوير وبدعم من الطبقة البرجوازية الناشئة التي تتعارض طبيعتها مع الجمود الاداري والحكم المطلق مما هيأ التربة الخصبة لتقبل فكرة النظام الديمقراطي ومؤسساته ، فكان عصر التنوير وما أنتجه من أفكار وضعية وعقلانية ملهماً لعدد من الثورات الاجتماعية والسياسية شهدتها أوروبا في القرنين الثامن عشر والتاسع
لقد تبنى فلاسفة عصر التنوير جملة من المبادئ إلانسانية مثلت الاساس النظري لقيام الدولة القانونية الديمقراطية ، ومن اهم هذه المبادئ، نظام الحكم الديمقراطي ومبدأ سيادة القانون والحرية الفردية ومبدأ سلطان الارادة والعدالة والمساواة. وقد كرست هذه المبادئ في جملة تشريعات كانت بمثابة الاساس القانون للتقدم والسلام الاجتماعي .
ان اعظم التغييرات القانونية والادارية الكبرى انما حدثت بعد الثورات الكبرى في العصور الحديثة ، فانجبت حرب التحرير الامريكية ( 1775 – 1785 ) الدستور الامريكي (1787)بينما انجبت الثورة الفرنسية الدستور الفرنسي( 1789) وهكذا تم الانتقال الى عصر حرية الراي والتعبير السياسي والفني والعلمي، الا ان هذه الثورات لم تأت من فراغ انما مهد لها كتاب مبدعين كما قدموا لها الدعم عندما قامت مما اتاح للعقول النيرة ابداع اعظم الافكار القانونية والادارية التي غيرت وجهة التاريخ .
لقد اسس جون لوك ( 1632- ـ1704) نظرية ليبرالية ديمقراطية كاملة من خلال طروحاته التي تتوزع بين ( الكتابات حول التسامح ) و ( معالجة الحكومة المدنية ) .فكان المنظر الأساسي للنظام الديمقراطي ولمبدأ سيادة القانون أو لما يسمى " الثورة المجيدة " في إنجلترا عام 1688. هذه الثورة التي أسست الملكية الدستورية فعرفتها أولا الثورة الإنكليزية 1688 ، ومن ثم الأمريكية والفرنسية ، وهكذا مهد جون لوك للثورات الحديثة.
بينما ابدع مونتسكيو مبدأ الفصل بين السلطات في كتابه (روح القوانين ) وابدع جان جاك روسو النظم الانتخابية الحديثة في كتابه (العقد الاجتماعي).
ولو رجعنا الى خلفيات هذه الثورات ، بل الثورات الني سبقتها حتى في عصور الاغريق والرومان، لوجدنا ان سببها الرئيس هو القوانين الظالمة وجمودها وعدم مواكبتها للتطور الانساني، ذلك ان التفسير الحرفي والضيق للقانون انما يعود بنا الى عهد المسلات الحجرية، فما هو السبيل الى اخراج الادارات العامة من محنتها ومن ترددها ؟
لاحظنا إن المفكرين في العصور الحديثة أسسوا نموذجا جديدا للنظام الاجتماعي ، يقوم على مبدأ تكافؤ الفرص والحرية الفردية وحقوق الإنسان ، واقتصاد السوق الحر، ومؤسسات البحث الأكاديمية المستقلة ، واطلاق عمل منظمات المجتمع المدني والصحافة الحرة .. فانتج نموذجاً راقيا وساميا لتنظيم العلاقات بين البشر . هذه الأسس الفكرية للنظام الاجتماعي هي التي سمحت بقيام الدولة الحديثة وديمومتها.
يقول المفكر مكسيم رودنسون في كتابه بين الاسلام والغرب ان اول شيء ينبغي تغييره هو الفكر ، هو عقلية الناس ، وبعدئذ يجيء التغيير الاخر من تلقاء ذاته ، ولولا فلسفة التنوير الاوربية لما كانت الثورات السياسية الحديثة ، ولا غرو فالفكر هو اعلى وانبل شيء في الوجود.(55)
ان مشكلة الادارات العامة المتعاقبة منذ تاسيس الدولة العراقية انها لم تقم على مبدأ مساواة المواطنين امام الوظيفة العامة اومبدأ تكافؤ الفرص، بل ان التوظيف كان وما برح يقوم على اعتبارات عشائرية وطائفية وسياسية ، اما الكفاءة والعبقرية فلا يلتفت اليها بل انها تهدر وتسحق في اغلب الاحيان بالنظر لاحساس الجهلة الطبيعي بخطورة اصحاب الكفاءات على مراكزهم الوظيفية بما يشكلونه من منافسة حقيقية لوجودهم ، وكان ذلك سبباً مباشراً في هجرة العقول العراقية الغالية التي لا تقدر بثمن الى مختلف بقاع الدنيا ، فقدموا اعظم الانجازات والخدمات العلمية والفنية لشعوب لا تمت اليهم باية صلة.
كما اني دائم الاسف حينما اسأل عن زملاء ، اعتبرهم شخصياً من العباقرة في القانون والادارة ، فاجد انهم قد غادروا العراق الى شتى بقاع الدنيا. وهذا امر مؤسف حقاً فالزمان لا يجود بعبقري كل يوم ، فالعبقرية شيء نادر للغاية ، حقاً.
مبدأ تكافؤ الفرص : تكافؤ الفرص احد اهم الاسس التي تقوم عليها العدالة الاجتماعية ، ونصت على هذا المبدأ معظم الدساتير المعاصرة ، ومضمون المبدأ ان تعمل التشريعات على محو الامتيازات الخاصة والفوارق المصطنعة بين افراد المجتمع ، بعد ان كانت المجتمعات الانسانية بصفة عامة تقسم ابناء الشعب الى طبقات متدرجة في القيمة ومقدار الحقوق التي تنالها كطبقة الاشراف وطبقة المحاربين وطبقة العامة وطبقة العبيد، وكانت اغلب هذه الامتيازات تنتقل بالوراثة ، الا ان فكرة التمييز الطبقي بين ابناء المجتمع الواحد لم تلق قبولا في الفكـر الحر المعاصر فتم التخلي عنها تدريجيأً .
ويتيح هذا المبدأ ، مبدأ تكافؤ الفرص ، لكل فرد من افراد المجتمع التمتع بخيرات المجتمع بالقدر الذي تؤهله له كفائته وقدراته الذاتية .
وفي ظل هذا المبدأ اصبح للنخبة او الصفوة الاجتماعية معنى ومضمون اخر .
فالنخبة الاجتماعية في عالم اليوم هم من يتمتعون بالكفاءات المعرفية ، سواء كانت علمية او ادبية او فنية او مهنية او غيرها ، التي اكتسبها افراد المجتمع من خلال الجد والمثابرة ومن ثم سخروا معارفهم لخدمة مجتمعهم وعموم المجتمعات الانسانية.
والنظام الاجتماعي العادل هو الذي يتيح للنخبة الاجتماعية من ابنائه، بالمعنى الذي اشرنا اليه ، بان تتولى مناصب الصدارة في قيادة المجتمع . وكل نظام اجتماعي لا يضع النخبة في مكانها الذي تستحقه وكان معياره الولاء العشائري او الحزبي لا الكفاءة ، ولا يكون للافراد فيه مجال للخلق والابداع ، لابد ان ينحدر نحو هاوية التخلف والصراع ،ذلك ان تمكين الجهلة والمتملقين والانتهازيين من الوصول الى المناصب القيادية في الدولة يقود حتماً الى الاستبداد والطغيان والفوضى والفساد وعدم الشعور بالمسؤولية فى المجتمع ، والشعور بالغبن والاجحاف ، وتردي الاخلاق العامة وأزدواجيتها ومَدعاةً لنمو ثقافة القسوة والنفاق والدكتاتورية ، وتأليه الذات البشرية التي تفضلت على اولئك الجهلة وسلمتهم مقاليد الامور في البلاد، ومن ثم تكرس كل مصالح الدولة وقوانينها لخدمة اغراضهم غير المشروعة .
ويعبر احد اساتذة القانون عن ذلك تعبيراً دقيقاً بقوله ( ... وكل تشريع يرفع غير الصفوة القادرة ويقيس بغير مقياس الكفاءة ويصد العبقريات عن مصاعدها ويعيق النخبة عن القيام برسالتها ويلهب بالحرمان والخيبة نفوسها ، لا يمكن اعتباره تشريعاً ظالماً فحسب وانما هو تشريع ينسف قواعد سـلامة المجتمع من اساسها وتغدو اجهزة الحكم في ظلـه فمـاً يلتقـم ويـداً تنتـقـم )
ان الادارات العامة لا تتطور في العراق وفي الوطن العربي عموماً الا اذا قادها اصحاب الكفاءات من ذوي القدرة على التخطيط الستراتيجي والقدرة على تنفيذ تلك الخطط..(56)
ان غاية عمل الادارات العامة ينبغي ان يقوم على اساس تحقيق العدالة الاجتماعية والحكمة والتبصر ، حيث يميز الفلاسفة بين اربعة فضائل اساسية ينبغي ان تحكم سلوك الانسان هي التبصر ، العدل ، ضبط السلوك الاجتماعي ، والجلد والشجاعة . ومن بين هذه الفضائل الاربعة يرتبط التبصر والعـدل بعلم القانون ، والتبصر وهو فضيلة عليا تتمثل في القدرة على اعمال العقل والتفكير السليم الموجه للتصرفات والاعمال للوصول الى الغاية المنشودة ، وينبغي ان يقوم العمل التشريعي والقضائي والاداري ومعيارالسلوك المطلوب من الافراد على اساس التبصر.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
الهوامش ( الجزء الثاني):
38ـ من المعلوم ان السلطة التشريعية تسمو مركزا على باقي السلطات داخل الدولة من الناحية الدستورية ، الا ان كثرة عدد اعضائها وضمها لاتجاهات فكرية وعرقية متنوعة وتميز اعمالها بالمنازعات الفكرية ، جعل من اعمالها متسمة بالبطء والتأخير ، بينما تتسم اعمال السلطة التنفيذية بالسرعة في مواجهة الحدث ووحدة مصدر القرار فضلا عن سيطرتها على اجهزة القمع والردع ، مما جعل لها ، من الناحية الواقعية الهيمنة والنفوذ والسيادة داخل الدولة .
39ـ انظر بصدد المدارس المختلفة في التفسير وكذلك النظرية التقليدية في التفسير: د. محمد شريف احمد ، نظرية تفسير النصوص المدنية ، دراسة مقارنة بين الفقهين المدني والاسلامي ، بغداد ، 1981، ص 170 وما بعدها، وانظر: اصول القانون او المدخل لدراسة القانون ، د. عبد الرزاق احمد السنهوري و د. احمد حشمت ابو ستيت ، دار الفكر العربي ، 1952 ، ص 238 ومابعدها وانظر بصدد التفسير الضيق والتفسير الواسع ، عبد الباقي البكري وزهير البشير ، المدخل لدراسة القانون ، شركة العاتك لصناعة الكتاب ـ القاهرة ، ص 117 وما بعدها.وانظر: أ.د علي حسين الخلف و أد. سلطان عبد القادر الشاوي ، المباديء العامة في قانون العقوبات، المكتبة القانونية ، بغداد ، 2006، ص40 وما بعدها.
40ـ انظر بصدد التمييز بين الوظيفة الادارية والوظيفة القضائية ، د. محمد علي بدير و د. عصام عبد الوهاب البرزنجي و د. مهدي ياسين السلامي ، مباديء واحكام القانون الاداري، الناشر العاتك لصناعة الكتاب ـ القاهرة ،ص16.
41ـ انظر بصدد انواع التفسير ،عبد الباقي البكري وزهير البشير ، المدخل لدراسة القانون ، مصدر سابق،ص120 ومابعدها. ، د. عبد الرزاق احمد السنهوري و د. احمد حشمت ابو ستيت، اصول القانون او المدخل لدراسة القانون،مصدر سابق، ص237 ومابعدها.
42ـ انظر بهذا المعنى د. عبد الحي حجازي ، المدخل لدراسة العلوم القانونية، ج1 ،1972.ص523) وكذلك محمد شريف احمد ص266)
43ـ انظر عبد الباقي البكري ص125 ود.محمد شريف احمد ص263
44ـ السنهوري وابوستيت ، مصدر سابق ص249ـ250 ، عبد الباقي ص 125ـ126، شريف 285ـ286
45ـ جني ، عن د. محمد شريف، مصدر سابق ، ص 286.
46ـ انظر د. محمد شريف، مصدر سابق ،ص 287.
47ـ انظر المادة ( 1075 ) مدني عراقي.
48ـ ذكره د.محمد شريف 295ـ296
49ـ عبد الباقي البكري، مصدر سابق، ص126،السنهوري وابو ستيت ،مصدر سابق ص 250ـ251 ، شريف، مصدر سابق،ص294ـ300.
50ـ الغلط الشائع يقوم مقام القانون ، مبدأ قانوني مهم وراسخ تاريخياً ، متفرع من نظرية الاوضاع الظاهرة ،التي تستند الى مبدأ امن واستقرار المعاملات في المجتمع ، فاذا شاعت فكرة مغلوطة بين الناس وترتب عليها نشوء قواعد سار عليها افراد المجتمع ونظموا شؤونهم ومصالحهم على اساسها فانها تصبح كالقاعدة القانونية ، فان جاء احدهم وخرج على تلك القاعدة ، استحق الجزاء المترتب على مخالفة القانون ولايقبل منه احتجاجه بانها قاعدة مغلوطة. ومن تطبيقات ذلك ما نصت عليه المادة (384) مدني عراقي ، من اعتبار الوفاء للدائن الظاهر مبرئاً لذمة المدين ، واعتبار تصرفات الوارث الظاهر صحيحة ونافذ Opinions