الاستثمارات ودورها في رسم مستقبل السياسة العراقية
جاء انفتاح الاقتصاد العراقي نحو السوق الحرة كنتيجة للتحولات الكبيرة التي طرأت على المشهد العراقي بعد تاريخ 9/نيسان/2003م، والتي شملت بدورها الواقع السياسي من خلال العمل التعددي وحرية تشكيل الأحزاب وحرية الصحافة والإعلام والتعبير عن الرأي والمشاركة في العملية السياسية بعد أن كانت الدكتاتورية والفردية تخيم على جميع مفاصل الحياة السياسية وحكم البلد وفق منطق النار والحديد.كما دفعت الحاجة في حل العديد من المشاكل التي يعاني منها الواقع المتردي للبنى التحتية والسعي إلى تطوير مصادر الثروة واستغلال الموارد الطبيعية الكبيرة في العراق إلى التفكير في الاستثمارات الأجنبية داخل العراق وتشجيعها عن طريق توفير المناخات الملائمة لها.
ومن أجل التقدم خطوة نحو الأمام تم عقد العديد من المؤتمرات داخل العراق وخارجه لغرض تقديم إغراءات للمستثمرين الأجانب - أفراد أو شركات- ودفعهم للاستثمار داخل العراق، بحيث أصبح جذب المزيد من الاستثمار الأجنبي المباشر ضرورة لا يمكن الاستغناء عنها، الأمر الذي يتطلب وجود مؤسسات وطنية ذات هيكل متكامل ومناسب للتغيرات التي من شأنها أن تحث من جراء أو من خلال عمليات الاستثمار، إلى جانب بيئة عمل تدعمه، مع وجود مجتمع من الخبراء وذوى المؤهلات والمهارات العالية، بالإضافة إلى معرفة كافية بمجريات الأمور كي تكون تلك المؤسسات قادرة على جذب الاستثمارات في بيئة دولية تنافسية ومتغيرة.
وحيث إن رأس المال "جبان" كما يصفه العرف الاقتصادي، فهو بذلك يتطلب بيئة آمنة كي يستطيع الدخول لها والعمل في أجوائها، وبما إن العراق غير مستقر أمنياً بنظر (رأس المال) فإنه يستدعي من الحكومة العمل وبجدية على توفير المناخات الآمنة الملائمة له من أجل المضي بخططها التنموية والنهضوية في قبال التحديات الكبيرة التي تشهدها الساحة العراقية سواء كانت على الصعيد السياسي أو الاقتصادي.
فالعراق الذي أنهكت اقتصادياته الحروب الكثير وكثرة الديون المترتبة على تعويضات الحروب وشراء الأسلحة، يتخلف اليوم بمسافات كبيرة، الأمر الذي يستوجب العمل وبجدية على تجفيف منابع الخطر التي يخشاها المستثمر الأجنبي فيما لو أراد الاستثمار في العراق، وبذلك تكون السياسة حاضرة في جميع الخطوات التي تتخذها الحكومة في الوصول إلى غاياتها.
وبذلك لا بد لمؤسسات الدولة التي تعنى بالحفاظ على المال العام والثروة الوطنية وبالتنسيق مع الحكومة أن تعمل على:
1- حل جميع المشاكل المتعلقة بين الكتل السياسية سواء من كانت داخل الحكومة أو خارجها، لأن أكثر الأزمات والتوترات الأمنية يكون منشأها سياسياً بالدرجة الأولى.
2- وضع القوانين الخاصة بالاستثمار من قبل جهات قانونية وفنية مهنية في أدائها ومتخصصة في عملها للعمل على عدم استباحة المال العام ووضع ضمانات تقف أمام من يريد استغلال تلك الاستثمارات لتحقيق منافع شخصية أو حزبية.
3- يجب أن يكون الهدف من قانون الاستثمار هو تنظيم البيئة الاستثمارية في الدولة وتنصب قواعده على إنشاء الجهة المناط بها الإشراف على تسهيل النشاط الاستثماري وتشجيعه.
4- أن تعالج أحكام الاستثمار القواعد المنظمة لاستثمارات الأجانب والجهات الخارجية والقواعد المتعلقة بتشجيع الاستثمارات في قطاعات معينة تبعا لأهميتها ولخطط التنمية ومناطقها.
5- أن تنصب التشريعات على آليات ترويج الاستثمار وعلى استحداث أو تطوير النوافذ المتعلقة بتبسيط إجراءات الاستثمار وإنشاء المشاريع الصناعية والزراعية والخدمية والتجارية بأنواعها.
وبنظر العديد من السياسيين والاقتصاديين فقد حان الوقت للنظر إلى العراق بعين أخرى غير التي كانت في السابق، والتعرف على ما يمكن أن يطلع به من نهضة تنموية شاملة وكبيرة تجعله على الأقل في مصاف الدول الخليجية، من خلال ما يشتمل علية من مقومات كبيرة في حال استثمارها بصورة جدية وجيدة.
فالاستثمارات التي يحتاجها العراق في الوضع الراهن يجب أن تتركز على المشروعات الجديدة في قطاعات المرافق العامة والبنى التحتية، مثل مشروعات شق الطرق الرئيسية والفرعية ومشروعات إنشاء محطات المياه والصرف الصحي وتهيئة المخططات العمرانية ومشروعات البناء والإسكان وتحسين شبكات الكهرباء وتوليد الطاقة وتطوير النقل الجوي والبحري وتوسيع أرصفة الموانئ التي تعد بمثابة الشريان والمتنفس البحري الوحيد للعراق، علاوة على تحسين أهم قطاع وهو القطاع النفطي بالعمل على زيادة كمية إنتاج النفط والغاز المستخرج وصولاً إلى ما يعادل حصة العراق التي تتناسب وخزينه الاستراتيجي ووضعه الطبيعي في منظمة "أوبك"، إضافة إلى مشروعات التنمية الاجتماعية في مجالات التعليم والصحة والاتصالات، ومن المؤمل أن يصبح العراق البلد الأول في محيطه لاستقطاب العديد من الشركات متعددة الجنسيات والاستثمار في قطاعات التشييد والبناء والزراعة والتمويل والصناعات الثقيلة والسياحة بأنواعها وبخاصة الدينية منها.
ومع كل هذا التفاؤل في جلب المنافع من خلال الاستثمار تبقى هناك مسألة مهمة تستدعي النظر والحذر، وهي مسألة الدور الذي يمكن أن تلعبه الاستثمارات في مستقبل سياسة البلد، فقد يلعب المستثمر ورأس المال بالاتفاق مع السياسي دوراً مميزاً في رسم ملامح السياسة، طبقاً للمبدأ القائل "من يملك المال يملك السلطة".
فالمال هو القوة التي تحرك كل شيء، الولايات المتحدة الأمريكية -على سبيل المثال- لا يمكن للسياسيين فيها تجاوز أصحاب الشركات الكبيرة والمصارف الاستثمارية وبخاصة ممن يريد الدخول لخوض عملية انتخابية ابتداءً من أقل منصب سياسي وصولاً إلى من يشغل منصب الرئاسة في البيت الأبيض.
قد يكون الأمر غير مألوف للاستيلاء على السلطة في العراق عن طريق أصحاب الشركات الكبيرة ورؤوس الأموال الضخمة من رجال السياسة، ولكنه الآن قد يكون في طور التكوين والتحضير وقد يجري التخطيط له من قبل البعض وذلك للتغير الذي حصل في المفاهيم السياسية والتي تمنع حصول انقلابات عسكرية أو الاستيلاء على السلطة بصورة غير مشروعة كما كان يحدث في السابق، الأمر الذي قد يجعل البعض يهيأ إلى استثمارات ترتبط بشخصه أو بحزبه وهذا كله يتزامن مع الدفع بالاقتصاد نحو الخصخصة وإلغاء دور القطاع العام.
ففي الوقت الذي تسعى فيه الجهات ذات العلاقة بإحداث تقدم اقتصادي، هناك خشية من خطر رفع الدولة يدها ودعمها للسلع والخدمات الأساسية التي تهم المواطن مقابل إطلاق يد المستثمر وصاحب رأس المال(نقداً أوعيناً) للتحكم بسياسة الدولة الاقتصادية وصولاً إلى تقرير من له حق الوصول إلى السلطة.
* مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث
http://shrsc.com