الاسم الذي وحَّدَ روَّادَنا القوميين، وفرَّقَنَا
نتصارع مع أنفسنا لنتجنب أحكام التراجيديا الشكسبيرية فينا. ذلك القدَر الذي رسم مسيرة تاريخ عمره عشرة آلاف عام وأكثر، لننزوي كلٌّ مع حفنة من المتوهمين بعظمة الذات المتضخمة، ونتخفى وراء متاريس سياسية وعُقَديَّة أقمناها بين ظهرانينا لنوهم أنفسنا بأننا قد بلغنا سن الرشد، ولم نَعُدْ بحاجة إلى أية مشاركة من أحد، حتى لو كان هذا الأحد أخاً لنا، ارتبط مصيرنا بمصيره منذ فجر التاريخ وحتى يومنا هذا. نتجاهل تجارب الماضي القريب والبعيد، ونتناسى دروسه البليغة في الحياة التي لم توفِّر مِنَّا سوى هذه الأقلية المتبعثرة في كل مكان بتسميات وشعارات وتكتلات متباينة. بعد أن كنَّا نحن، وبكل هذه التسميات المتداولة اليوم (الكلدان، السريان، الآشوريون، الآراميون، الموارنة، السريان الملكيين أو الروم. متبعة بصفة الأورثوذكس أو الكاثوليك أو النساطرة، أو البروتستانت أو الإنجيليين)، أبرز وأهم عنصر في منطقة مابين النهرين وسوريا ولبنان وفلسطين التاريخية. نجد أنفسنا اليوم وقد بتنا أقلية انحدرتأثيرها في الحياة العامة لهذه البلدان إلى الحد الأدنى، إن لم نقل انعدم تماماً. في الوقت ذاته تتنامى القوى الأخرى ويتزايد تأثيرها وتتحكم في مجريات الأمور، بما فيها مجريات حياتنا ومصيرنا. ونحن مازلنا غارقين بشدة في صراع وجدال بيزنطي لا طائل من ورائه سوى المزيد من الانقسام والتشرذم. الصراع الذي تمحور حول أي من تلك التسميات أصح. وأيها أكثر ملاءمة. والمصيبة الأكبر ذهاب البعض أبعد من ذلك بكثير باعتبار كل طائفة كنسية هي قومية مستقلة بذاتها. وهم بذلك لم يكلفوا أنفسهم عناء قراءة التاريخ ولا الماضي القريب قراءة متأنية لاستخلاص الدروس والعبر، عوضاً عن إطلاق أحكام التمزيق والتفريق لشعب لطالما عانى من هذه الأحكام لأكثر من ألف وخمسمائة عام وما زال. ولقد حصد جراء ذلك هذا الحصاد المرّ الذي نعاينه اليوم كأقلية لم يعد يلتفت إليها أحد. وكرقم لم يعد يؤثر في موازين الصراع القائم للحصول على أكبر نصيب من أسهم الحياة الضامنة للمستقبل، التي تناهبتها الشعوب الأخرى على مدى السنوات المائة الأخيرة، ونحن مانزال نتصارع على هياكل ميتة وقشور لاقيمة لها في أبجدية الحياة، إن لم نحقنها بروح العصر ومضامين مصلحة المجموع في حياة تتطلع للأمام وليس للحظة العابرة.لقد تورَّمت فينا الأنا لدرجة أن كل فرد منا بات يرى في ذاته الأمة بأجمعها. فترأس ما سماه حزباً أو جمعية أو نادياً ليطل من شرفته ملوحاً للملايين الهادرة التي لاوجود لها. وقد تم اختصارها هي الأخرى ببضع عشرات من المريدين والمتنفعين باسم الأمة والقضية التي لم يرف لهم جفن وهم ينحرونها كل يوم وكل لحظة قرباناً لأنانيتهم القاتلة.
أتصفح أوراقاً تركها روَّادنا القوميون الأوائل من عامي 1919-1920 من أمثال نعوم فائق وسنحاريب بالي والمطران (البطريرك فيما بعد) أفرام برصوم والبطريرك الياس شاكر والراهب (المطران فيما بعد) يوحنا دولباني والبطريرك مار شمعون والدكتور يوسف رئيس الوفد السرياني إلى مؤتمر الصلح في باريس والمطران توما قصير النائب البطريركي في الموصل والأب الخوري حنا السرياني. وجمعيات مثل "أسيريان ناشيونال" في أميركا و"الجمعية الآشورية الماردينية" في كندا، والجمعية القومية "صدى الآثوريين في باريس" وأسماء أخرى كثيرة من إدارات وأعضاء تلك الجمعيات من مختلف طوائف شعبنا، وأنا أتصفح مراسلاتهم وأوراقهم وأخبار نشاطاتهم في تلك الفترة العصيبة من تاريخ شعبنا، يتملكني العجب من قدرتهم العظيمة تلك على التوافق والتآلف والتناغم باستعمالاتهم لأسماء شعبنا المختلفة والعديدة في الوقت ذاته وبالمعنى ذاته من قبل الجميع دون استثناء. لدرجة أنك تجد الفرد منهم يتنقل بين تلك التسميات في الرسالة الواحدة بين سطر وآخر دون أن يثير حساسية أحد من رفاقه الأخرين، وكأنه يتنقل في حديقة غناء جمعت شتى أنواع وألوان الورود والأزهار. وكذلك كان تجاوب الآخرين معه عبر ردود أفعالهم المسطرة بصورة أساسية في مجلة "بيث نهرين" التي كان يديرها آنذاك الملفان نعوم فائق. وسأدون هنا بعضاً من تلك الأمثلة:
• فلتثقنَّ الآثورية، ولتتأكدنَّ الآرامية أننا نستفرغ جهدنا في سبيل تأمين حياتها. (المطران أفرام برصوم من رسالة له إلى نعوم فائق بتارريخ 28 تشرين الثاني 1919.)
• تعليق المجلة (ܒܝܬ ܢܗܪܝܢ) على الرسالة السابقة :
(لابد أن القراء الكرام يطالعون بإمعان تحرير سيادة مطراننا الجليل أفرام برصوم المثبت أعلاه، ويقومون بواجباتهم نحوه ونحو الوطنية. فإن المشار إليه قد يبذل حياته ويفدي أوقاته في إعلاء شأن الأمة الآرامية وإعادة مجدها القديم. بفم نعوم فائق)
• كنا أشرنا في العدد الماضي عن إن إخواننا السريان الماردينيين قد ألفوا جمعية تحت عنوان (الجمعية الآشورية الماردينية).
(مجلة بيث نهرين – نعوم فائق – العدد الثاني – السنة الرابعة – ܫܒܛ 1920 )
• فعليه نثني على همة الجالية الآشورية في كندا ونود أن يقوم جميع السريان في أميركا الشمالية والجنوبية بواجبهم الوطني ويجمعوا مساعدات كبيرة ومهمة لهذه المشاريع الحيوية، وخصوصاً لمساعدة سيادة المطران أفرام برصوم الذي لا يقضي ساعة إلا ويجتهد فيها لإعلاء شأن الأمة الآثورية، حسبما يطالعون في رسائله................ وعار على جميع الآثوريين في المهجر أن يتركوا ممثلهم الأكبر ومطرانهم المحبوب من الشرقيين والغربيين. (المصدر السابق)
• إن الأمة الآرامية المؤلفة من الكلدان والنساطرة والآثوريين............
(مجلة بيث نهرين – نعوم فائق – أغسطس 1920 – العدد الثامن)
• وقد نمي إلينا بهذه الأيام أن الجمعية الوطنية (أسيريان ناشيونال) أيضاً قد بعثت تلغرافاً بواسطة القنصل الأميركي في بغداد إلى مار شمعون بطريرك النساطرة وبطريرك الكلدان والسريان وقالت فيه بأن الآثوريين ألفوا جمعية وأقاموا عليها المستر يوئيل وردا رئيساً. وإن جميع الآثوريين قد انضموا إلى هذه الجمعية وطلبت حضور البطاركة المشار إليهم إلى باريس وتعهدت بنفقتهم. وقد ورد الجواب بأن مار شمعون حبذ فكرة الجمعية وراغب في اتحاد الآثوريين.
• أما بخصوص الاسم، متى نلنا الاستقلال سيكون باسم (آثوريا) بإرداف اسم كلدو معه. (رسالة من الدكتور يوسف المندوب إلى مؤتمر السلام إلى إدارة الجمعية القومية "صدى الآثوريين في باريس").
مما سبق ولاحظنا، وهناك الكثير الكثير من هذه الأمثلة، نجد أن تلك التسميات لم يكن لها أي دور سلبي أو مانع للتلاقي على وحدة الهدف. بل وحدتهم ووحدت مصيرهم على الرغم من تعددها. ذلك لأنهم فهموها وفهموا مضامينها الموحِّدة. وعملوا بوحي تلك المضامين لصالح المجموع. أما اليوم وبعد تسعة عقود تماماً من تلك المرحلة التأسيسية للفكر القومي الجامع، نجد أنفسنا وقد عدنا إلى تناحرات القرنين الرابع والخامس الميلاديين وفترة الانقسامات الكنسية الكبرى. لا بل زدنا على تلك الانقسامات بأن جعل البعض منا من كل تسمية أو طائفة، أمة أو قومية بحد ذاتها. في حين أن الشعب حينذاك كان يدرك تماماً ويؤمن بقوة بوحدته رغم التشرذم المذهبي الذي ابتلي به. ورغم تعدد التسميات التي حظي بها وهي في الحقيقة عامل غنى وتوحيد في ظل تاريخ بهذه العراقة، لمن يدرك ما معنى هكذا تاريخ غني بالحضارة والمنجزات للإنسانية، عوضاً عن أن تكون عامل تفريق.
إن شعبنا بكل طوائفه الذي خرج في عام 1919 لتوه من مآسي المذابح ونيران ولواعج الحرب العالمية الأولى، أدرك هذه الحقيقة وعرف ما لوحدة الكلمة من دور هام للوصول إلى الهدف. وهكذا عمل روَّاده القوميون في تلك السنوات العصيبة للوصول إلى مؤتمر السلام بكلمة موحدة. وإن لم يكن قد تحقق من سعيهم ذاك نتيجة مرضية، فإن لذلك أسبابه الأخرى الخارجة عن إرادته ولا مجال لتحليلها هنا. إلاَّ أن المهم في الأمر أنهم جاهدوا وعملوا بأكثر مما يستطيعون وتتحمل طاقاتهم الضعيفة حينها. ونحن اليوم وفي ظل الظروف التي يعيشها شعبنا في العراق بصورة خاصة، نرى أننا، وبخاصة بعض قياديينا الكنسيين والحزبيين، يبرعون في إضاعة الفرصة تلو الفرصة. ويجاهدون في التصارع الهدام الذي لن يبقي لنا بعد قليل ما نتقاتل عليه سوى الخراب ومزيد من الشتات والتشرذم. فتارة يضعون الاسم عائقاً وأخرى يكون شكل الإدارة المنوي إقامتها، وأخرى صراعات لمصالح حزبية أو طائفية لاتبقي خلفها سوى المزيد والمزيد من التمزق، في الوقت الذي نشهد القضية أمام أعيننا وبين أيدينا تلفظ أنفاسها الأخيرة. ولن يبقى بعد حين أثر لما ندعي الدفاع عنه أو الصراع من أجله. إنه لمن الغريب واللامنطق أن نجد الاسم الذي وحَّد روَادنا الأوائل أن يصبح بعد تسعين عاماً من التنوير سبباً لفرقتنا.
فهلا وعينا هذه الحقيقة المرة، وتلافينا الخذلان، خذلان الجميع على حد سواء، قبل فوات الأوان. والشواهد والتجارب التي عشناها في عراق السنوات القليلة الأخيرة أكثر من كافية لمن يعتبر.
25 تشرين أول 2009