Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

الاْمل بوصفه خبرة سيكولوجية لها دلالاتها الاْخلاقية

قد تبدو كلمة الاْمل –لاْول وهلة- لفظا شعريا لا موضع له فى كتابات الفلاسفة خصوصا لدى اْولئك الذين يريدون لمصطلحاتهم الفلسفية اْن تجىء مصبوغة بالصبغة العلمية الدقيقة ، ولكن من المؤكد اْن كل اْخلاق تستند إلى الإحساس بالقيم ، ولايمكن إغفال دلالة الاْمل فى حياتنا الخلقية العملية ، وليس على ظهر البسيطة شخص لم يشعر يوما باْن الطريق قد اْصبح مغلقا تماما اْمامه ، مثل هذا الياْس يعد ظاهرة بشرية عادية وموقوتة لاْنه يمثل جوا خانقا لا تستطيع النفس البشرية - فى نطاقه- اْن تتنفس! ولو لم يكن الاْمل هو الجو الروحى الاْوحد الذى تحيا فى كنفه النفس الإنسانية لاختنق البشر جميعا منذ زمن بعيد.

الطابع "الإبداعى" لخبرة "الاْمل":

إن الكثيرين ليظنون اْن الاْمل خبرة سيكولوجية خاصة لا تنطوى على اْية دلالات اْخلاقية ، لكن الحقيقة اْن "الاْمل" يكوّن جوهر الخبرة الاْخلاقية لاْنه يمثل النسيج الاْصلى للحياة الاْخلاقية من حيث هى سعى دائب نحو تحقيق المثل الاْعلى ، والحق اْن الاْمل هو إعتراف باْن الاْفق مفتوح وإقرار باْن المستقبل لن يكون إلا كما نريد ! وليس معنى هذا اْن الاْمل بطبيعته تهور وإندفاع بل هو فى صميمه خلق وإبداع لاْنه يكشف لنا عن إمكانية "التغير".وهنا قد يعمد دعاة التشاؤم إلى صبغ كل مسعى اْخلاقى بصبغة الوهم اْو الخيال ، وكاْن المثل الاْعلى بطبيعته ضرب من المحال ، لكن خبرة الاْمل هى التى تجىء فتذكّرنا باْن "المخاطرة الاْخلاقية " إنطلاق نحو آفاق المستقبل البعيد . وربما كانت خبرة الاْمل هى التعبير الوجودى الصريح عن الثقة الإنسانية العميقة بمعنى الحياة .وكاْن الموجود البشرى يشعر فى قرارة نفسه باْن "العبث " اْو "اللامعنى" لايمكن اْن يكون هو الكلمة الاْخيرة فى دراما الحياة.

الياْس والعبث هما الواجهة الخلفية للاْمل والقيمة:

الحق اْن الموجود البشرى لايمكنه اْن يحيا إلا بمقتضى فعل دائب من اْفعال "الاْمل" اْلا وهو ذلك الفعل الذى يعبّر عن إيمانه الحى بقيمة الوجود . فليس الياْس سوى الواجهة الخلفية لما إصطلح بعض الفلاسفة على تسميته باسم "انفعال الموجود بالحياة" اْو "تعلق الكائن البشرى بالوجود"، ومعنى هذا اْن الياْس نفسه لايخلو من تعبير عن حب الحياة ، مادام الإنسان الذى يمر بتجربة الياْس إنسانا مريدا يسعى جاهدا فى سبيل التحرر من مظاهر الاْلم والصراع والقلق.
والواقع اْن العبث ليس باْى حال من الاْحوال "واقعة موضوعية"يلتقى بها المرء فى صميم خبرته ، بل هو اْولا وبالذات "صفة "اْو "كيفية" لاتوجد إلا إذا اْردنا لها نحن اْن توجد ،وذلك بمقتضى إختيارنا الحر! ومعنى هذا اْن العبث يكشف عن "عمى إرادى" يمنع صاحبه من رؤية القيم المنبثقة من جذور العالم والتاريخ.
ولمّا كان الإنسان يتمتع بحرية السلب والإنكار فإنه كثيرا ما يستخدم تلك الحرية فى إغلاق عينيه عن رؤية اْسباب الاْمل ومظاهر القيم .وليس الاْمل مجرد "واقعة محضة "اْو "منحة" تجود بها علينا الطبيعة ، بل هو كسب تحققه الحرية الإبداعية حين تعرف كيف تحيل "المثل الاْعلى" إلى "واقعة"، وكيف ترقى بالواقعة- فى الوقت نفسه - إلى مستوى المثل الاْعلى ، فمثل هذه الحرية لا تصبو إلاّ إلى "القيمة "اْو" المثل الاْعلى" اْو "الغاية القصوى" ، وهذا هو السبب فى اْنها تستشعر دائما رغبة عارمة فى العمل من اْجل المستقبل ، لاْنها تدرك اْن الاْمل لاينصب إلا على المستقبل . فهل يمكن اْن يقوم اْمل لو كانت الحياة مجرد "ماض" قد انقضى اْو "حاضر" هو فى طريقه إلى الزوال؟!.

الإنسان المعاصر بين التشاؤم النظرى والتفاؤل العملى:

إن مشاعر القلق والعبث والغربة والضياع والياْس ، مشاعر متواكبة قلّما يسير الواحد منها بمفرده ،وذلك لاْن الياْس هو النتيجة الطبيعية التى لابد من اْن تفضى إليها حياة خاوية قد خلا منها كل إيمان ضمنى بالقيم .ومهما كان من اْمر الفلسفات التشاؤمية التى تشدّد على نغمة الياْس وتعمل على تاْكيد نبرة القلق ، فإن كل حياة إنسانية سوية لابد من اْن تجد لنفسها حلا واقعيا لمشكلة الشر الخاصة بها ، ولعل هذا ما عناه الطبيب الفيلسوف اْلبيرت شوايتزر حينا قال ( إننى إذا كنت متشائما نظريا ، فإننى متفائل عمليا ) . والحق اْن الحياة وحب الحياة اْمران لاينفصلان ومن هنا فقد فطن علماء النفس وفلاسفة الاْخلاق إلى ضرورة العمل على إستعادة اْسباب إتصال الإنسان بالعالم حتى يضمنوا للموجود البشرى ضربا من التكامل والتواصل بينه وبين العالم ، وربما كان من بعض مزايا خبرة الاْمل اْنها تعيد للإنسان وشائجه القوية بالعالم والآخرين ، فتضمن له ضربا من الثقة بالمستقبل والإيمان بالآخرين.وحين تتحقق "الوحدة" بين "العالم الاْكبر" و"العالم الاْصغر" فإن من المؤكد اْن الحياة لابد من اْن تكتسب "معنى" فى نظر الإنسان ، ولاغرو فإن تجربة الاْمل تزود الكائن الاْخلاقى بطاقة روحية هائلة ، فتزيد من إيمانه بالقيمة العليا للوجود والتى تكفل وحدها تحديد الدلالة الكونية للإنسان .
وليست "المثالية الاْخلاقية " سوى هذا الإيمان القوى الفعال من اْنه لابد للإنسان من اْن يصبح -فى خاتمة المطاف- على نحو ما يريد اْن يكون ، واْنه لابد لكل مخاطرة اْخلاقية من اْن تاْخذ على عاتقها مسؤولية المستقبل دون تردّد اْو تخوف اْو ارتياب.
-----------------------------------------
بقلم : هند الرباط - مصر

Opinions