الانتخابات المقبلة والمسؤولية التاريخية لقوى اليسار والديمقراطية والعلمانية
بعد أن تم مصادقة البرلمان العراقي على قانون الانتخابات ، وصدور قرار المفوضية العليا المستقلة للانتخابات بتحديد يوم 31 كانون الثاني موعداً لأجراء الانتخابات، بدأت الكتل السياسية نشاطها المكثف استعدادا لخوض الانتخابات التي تتسم بأهمية كبرى ليس فقط بالنسبة لمستقبل العملية السياسية في العراق فحسب، بل على مستقبل العراق كدولة موحدة.فكما هو معروف كانت الظروف التي جرت فيها الانتخابات السابقة غير طبيعية بالمرة، فالميليشيات الطائفية المختلفة بشقيها الشيعي والسني من جهة، وفلول نظام صدام وحلفائه عناصر منظمة القاعدة، وعناصر الجيش والقوى الأمنية التي أقدم بول بريمر على حلها والتي وجدت نفسها على حين غرة عناصر عاطلة عن العمل، ولا مورد ا تعيل بها عوائلها، وهي التي يقدر حجمها بمئات الألوف من الضباط والجنود وقوات الشرطة والأجهزة الأمنية، مضافاً إليها أفراد عوائلها حيث يصبح هذا الرقم يتجاوز الملايين، دفعتها إجراءات بريمر الطائشة إلى حمل السلاح ودخلت في صراع دامي مع القوات المحتلة في بادئ الأمر ، ثم سرعان ما تحولت إلى صراع طائفي بين ميليشيات الطائفتين الشيعية والسنية، وتحولت المعارك فيما بينهم إلى حرب أهلية دفع الشعب العراقي ثمناً باهظاً من حياة أبنائه الأبرياء بلغت أرقاما خيالية جاوزت 650 ألفا، ناهيكم عن الخراب والدمار الذي أصاب البنية التحية الاقتصادية والاجتماعية والصحية والخدماتية والممتلكات العامة والخاصة ، وحولت حياة المواطنين إلى جحيم لا يطاق، وفرضت على أبناء الشعب الاعتكاف في بيوتهم والحرمان من ممارسة حقهم في المشاركة بالانتخابات تلك بسبب التهديدات والاختطاف والقتل على الاسم والهوية.
وهكذا جاءت نتائج الانتخابات تلك باستحواذ الأحزاب الطائفية على أغلبية المقاعد سواء في الانتخابات البرلمانية أو الانتخابات المحلية، كما أن الانتخابات في منطقة كردستان العراقية كانت النتائج معروفة فيها سلفاً بالنسبة للحزبين الكبيرين الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني المهيمنين على السلطة في المنطقة منذُ انتفاضة عام 1991، وفرض الحماية الأمريكية البريطانية عليها.
أما قوى اليسار والديمقراطية والعلمانية فمن المؤسف جداً أنها لم تكن تشكل ثقلاً كبيراً في تلك الانتخابات لعوامل عديدة يأتي في مقدمتها طغيان الأحزاب الدينية الطائفية والقومية بما تمتلكه من ميليشيات مسلحة، واستغلال بشع للدين، واتخاذ اسم المرجعية كأحد أهم وسائل الدعاية والسيطرة على الجماهير البسيطة غير الواعية من جهة، وتحالفها العريض لاقتسام السلطة من جهة أخرى، وتشرذم القوى الديمقراطية والعلمانية واليسارية، وعدم استطاعتها خلق تحالف عريض يضم جماهير هذه القوى، جعلها تخرج بالفتات من تلك الانتخابات من دون أن يكون لها أي دور مؤثر في العملية السياسية.
واليوم ، وفي ظل ظروف أمنية لا بأس بها نسبيا، وفي ظل هذا التفتت الذي نشهد لأحزاب قوى الإسلام الطائفي من جهة ، وانكشاف الدور البائس الذي مارسته هذه الأحزاب خلال الفترة السابقة، والهبوط الشديد للدعم الذي تلقته في الانتخابات السابقة وعزوف المواطنين عن تجديد ثقتهم بهذه الأحزاب وقياداتها التي استأثرت بالسلطة والثروة دون أن تقدم أي شئ لشعبها، فإن أمام القوى العلمانية والديمقراطية واليسارية فرصة لا تعوض لقلب موازين القوى سواء في الانتخابات المحلية أو في الانتخابات البرلمانية القادمة بعد عام إذا ما اتخذت قرارها وبصورة عاجلة لإقامة جبهة عريضة لهذه القوى ولسائر المستقلين الذين ينشدون قيام نظام حكم ديمقراطي حقيقي في البلاد، وإعادة النظر الجذرية في الدستور، وفصل الدين عن الدولة، وتكريس سيادة القانون، وحل كافة الميليشيات دون استثناء، وإبعاد عناصر الميليشيات الحزبية عن الجيش والشرطة والأجهزة الأمنية لتكون في خدمة العراق وشعبه وليست في خدمة قيادات أحزابها السياسية.
أن المعطيات من الاستفتاءات الجارية في البلاد تعطي مؤشراً إيجابياً لصالح التوجه الديمقراطي العلماني في عموم البلاد، فقد أجرت أحدى منظمات المجتمع المدني على سبيل المثال استفتاءً شمل المناطق الفقيرة حول رأي المواطن في الانتخابات ولمن سيعطي صوته، وكانت النتيجة كما يلي:
1 ـ 26 % قالت أنها ستصوت للمستقلين.
2 ـ 23 % ستصوت للكتل الديمقراطية.
3 ـ 22 % ستصوت للأحزاب الدينية.
4 ـ 7 % ستصوت للعشائر.
5 ـ 22 % لم توضح رأيها.
وبالنظر لهذه النتائج، بصرف النظر عن دقتها، لكنها تشير إلى انخفاض التأييد للأحزاب الدينية التي أصابت المواطن العراقي بخيبة أمل كبيرة خلال السنوات الماضية المليئة بالدماء والدموع والآلام، وتنامي الدعم للتوجه العلماني والديمقراطي واليساري، مما يستوجب من هذه القوى أن تسارع إلى تكثيف جهودها لتشكيل الجبهة العريضة المنتظرة، والتي لا غنى عنها إذا ما أرادت هذه القوى أحداث انعطافة جدية حاسمة لمستقبل العملية السياسية، ومستقبل العراق ككيان حر ديمقراطي مستقل ، يتسع لكل القوميات والطوائف الدينية على قدم المساواة في الحقوق والواجبات، وبناء المجتمع المدني الحقيقي، وسيادة القانون على الجميع دون استثناء، وذلك من خلال تقديم مشروع برنامج وطني قابل للتحقيق والالتزام بتنفيذه ، وخدمة الجماهير لكسب ثقتها.
إن على القوى العلمانية الاستفادة من الانقسامات الحاصلة لقوى الإسلام السياسي التي فككت الائتلاف الذي خاض الانتخابات السابقة. فقد انقسمت أحزاب الائتلاف الشيعي الحاكم إلى تحالفين رئيسيين بسبب الخلافات بين حزب الدعوة والمجلس الأعلى فلم يعد موحدا كما كان، بل اصبح فريقين متنافسين حيث يتزعم الفريق الأول رئيس الوزراء السيد نوري المالكي زعيم [حزب الدعوة] الحاكم، ويضم تجمع المستقلين الذي يتزعمه وزير النفط حسين الشهرستاني المقرب من المرجع الشيعي آية الله علي السيستاني، وكتلة [التضامن] بزعامة النائب قاسم داوود، وكتلة [الانتفاضة الشعبانية]، وحركة [الإخاء الكردي الفيلي] و[الاتحاد الإسلامي لتركمان العراق] والذي أطلق عليه أسم [ائتلاف دولة القانون] .
أما الفريق الثاني فيتزعمه [المجلس الأعلى] بزعامة السيد عبد العزيز الحكيم، باسم [قائمة شهيد المحراب]. ويضم تجمع شهيد المحراب، و منظمة بدر، و التجمع المستقل الذي يتزعمه نائب رئيس الجمهورية عادل عبد المهدي، وحركة حزب الله بزعامة كريم المحمداوي.
هذا بالإضافة إلى خروج التيار الصدري من التحالف منذُ مدة
طويلة، وحدوث صراع بين الأطراف وصل إلى حد الصراع المسلح، واستخدام الجيش مدعوماً بالقوات الأمريكية لحسم ذلك الصراع لصالح الحكومة التي يرأسها السيد المالكي.
إن القوى العلمانية تتحمل مسؤولية كبرى في هذا الوقت بالذات لكي تحدث انعطافة حقيقية في هيكلية السلطة بالبلاد لصالح الجماهير التي أرهقها الوضع الشاذ المتردي، والأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية الخانقة، وتبذل أقصى جهودها لكي تلم صفوفها، وتعبئ جماهيرها، وتطرح برنامجها السياسي والاجتماعي والاقتصادية والصحي والخدمي الذي ينبغي أن تتفق عليه ويلتزم الجميع بتنفيذه، فالجماهير لا تكسب بالأقوال بل بالأفعال.
حامد الحمداني
11/11/2008