البعد الاستراتيجي لإقامة الأقاليم في العراق
د. خالد عليوي العرداوي/في عام 2003 انهارت الجمهورية العراقية الأولى التي تأسست عام 1958، والتي على الرغم من تعدد رواياتها السياسية واختلاف رموزها ومسمياتها إلا أنها تميزت بكونها جمهورية الانقلابات والثورات الدموية المستمرة، والتآمر السياسي الفج، والاستبداد والتفرد في الحكم، والإقصاء القومي والطائفي المتعمد، وسحق الأطراف بواسطة المركزية الشديدة لحكومة بغداد، ومطاطية النصوص الدستورية وعدم احترامها، فضلا عن كثرة الحروب والأزمات الداخلية والخارجية، ولم ينجح قادة هذه الجمهورية في أن يكونوا آباء مؤسسين لنظام سياسي مستقر وآمن ومستمر في هذا البلد قادر على حماية حقوق وحريات أبنائه، ويشيد لبناء حضاري وثقافي يمكن الفخر به.
ان انهيار هذه الجمهورية في عام 2003 تحت مطرقة الغزو والاحتلال الخارجي، والنفور والإحباط الشعبي فسح المجال أمام القادة السياسيين الجدد للحديث عن خيارين: الأول إعادة النظام الملكي الذي انهار عام 1958، والآخر التأسيس لجمهورية جديدة تتلافى أخطاء ومشاكل الجمهورية الأولى، ونظرا لقلة أنصار الملكية فان أنصار الجمهورية انتصروا، فتأسست الجمهورية الثانية في تاريخ العراق الحاضر رسخها دستور عام 2005 الذي أيده غالبية الشعب العراقي باستفتاء عام.
لقد تميزت الجمهورية الجديدة بكونها جمهورية ذات نظام اتحادي فدرالي يتكون من إقليم واحد هو إقليم كردستان العراق، وخمسة عشر محافظة غير منتظمة بإقليم، وسمح المشرع الدستوري في نص المادة 119 من الدستور للمحافظات غير المنتظمة بإقليم بالتحول إلى إقليم ضمن الحدود الإدارية للمحافظة الواحدة أو بالاشتراك والاتفاق مع محافظات أخرى على أن تحظى هذه الرغبة بموافقة أغلبية شعب المحافظة من خلال استفتاء عام يجري لهذا الغرض، وحاول المشرعون من خلال هذه المادة وغيرها من المواد سواء المتعلقة بالمبادئ الأساسية أو الحقوق والحريات أو السلطات الاتحادية أو الختامية تحقيق الغايات الآتية:
- منع التفرد والاستبداد بالسلطة.
- ضمان الحقوق والحريات للأفراد والطوائف والقوميات والمكونات الاجتماعية العراقية المختلفة.
- التوزيع العادل لثروات البلد.
- تعزيز وحدة العراق من خلال ترسيخ روح المواطنة والانتماء الحضاري بين الشعب.
- تطوير كفاءة وديمقراطية الإدارة الحكومية.
- جعل الوثيقة الدستورية الأساس المتين لبناء نظام سياسي متزن ودائم وكفوء.
إن واقع الأحداث التي جرت منذ إقرار الدستور والى الوقت الحاضر لا تعطي المراقب الانطباع بأن هذه الغايات قد تحققت بفعل ما يحدث من أزمات سياسية مستمرة، وصراع قاس على السلطة، وتدهور متواصل لجسور الثقة بين الشعب وحكومته، واستمرار الإرهاب المنظم من خلال عمليات التفجير والاغتيالات وتهديم البنية التحتية الضعيفة أصلا، وعدم معالجة آفة الفساد المالي والإداري واستفحالها، فضلا عن تدخل الأجندات الخارجية: الإقليمية والدولية بقوة في الشؤون الداخلية للبلد.
لكن انشغال القادة السياسيين العراقيين بترتيب أولوياتهم ضمن هذه البيئة غير المستقرة يجب أن لا ينسيهم لحظة واحدة الغايات الأساس أعلاه، كون نجاحهم الفعلي كآباء مؤسسين لهذه الجمهورية يتوقف على مدى تمكنهم من الوصول إليها، وواحدة من الأمور التي تضمن هذا النجاح هو عدم سد الطريق أو وضع العقبات أمام تشكيل الأقاليم الجديدة في العراق، وذلك للأسباب الآتية:
1- دستورية المطلب: حيث أن من يطالب بتشكيل أقاليم جديدة ضمن محافظة واحدة أو أكثر لم يبتدع أمرا جديدا مخالفا للنص الدستوري، بل هو يطالب بحق كفله القانون، ومهما كانت النوايا والغايات التي تقف وراء مطالبته يجب احترامها والتعامل معها بإيجابية من اجل ترسيخ النص الدستوري في نفوس الجميع، وجعله ملاذا يحتكمون إليه بدلا من الاحتكام لوسائل أخرى لا تجلب للبلد إلا العواقب الوخيمة، ولكي لا يقتصر أصحاب القرار والنفوذ على النظر إلى ما تحت أقدامهم عليهم أن يتذكروا أن مطالب تشكيل الأقاليم أو الولايات.. في الدول الاتحادية لم يكن أبدا محددا بغايات ورغبات معينة تقررها حكومة المركز، بل غالبا ما كان لغايات ورغبات متعددة تحددها القيادات والقوى المطالبة بتشكيلها، وغالبا ما كان المركز يظهر الامتناع والمعارضة لكن في النهاية يرضخ لتلك المطالب.
2- الأقاليم ضمانة لقوة الحكومة الاتحادية وللوحدة الوطنية: تتميز الدول الفدرالية بأنها كلما زاد فيها عدد الأقاليم كلما كان ذلك اضمن للاستقرار فيها، والعكس صحيح فعندما تقل الأقاليم تكون احتمالية زعزعة الاستقرار كبيرة، لاسيما عندما تقتصر الدولة الاتحادية على إقليمين أو كيانين إداريين هما المركز والإقليم كالحالة العراقية اليوم، فمثل هذا الأمر خطير جدا بسبب ما يلي:
- تأزم مستمر للعلاقة بين حكومة المركز وحكومة الإقليم كون الأخيرة تشعر غالبا بكونها تتحاور مع حكومة المركز كحكومة مستقلة عنها نوعا ما لعدم وجود حكومات إقليمية أخرى تساعد حكومة المركز في مطالبها أحيانا وتضغط عليها أحيانا أخرى من جهة، ومن جهة أخرى تخفف من اندفاع حكومة الإقليم لكونها حكومة مناظرة لها، وهذا الأمر نجده كثيرا ما يتكرر ويبرز في العلاقة بين حكومة بغداد الاتحادية وحكومة إقليم كردستان المحليـة.
- كلما كانت الدولة الفدرالية تتكون من إقليمين كلما ساعد ذلك على حدوث استقطاب حاد في المواقف والآراء السياسية بين طرفين، قد يدفع العناد بأحدهما في مرحلة ما إلى إعلان استقلاله السياسي، وهذا الأمر نجد تطبيقه الفعلي قد حصل في جمهورية جيكوسلوفاكيا الاتحادية السابقة، فعلى الرغم من ظهورها كدولة اتحادية بعد الحرب العالمية الأولى إلا أن اقتصارها على إقليمين هما الجيك والسلوفاك دفع الأمور فيهما إلى استقطابات حادة أوصلت قياداتهم السياسية إلى إعلان الاستقلال عن بعضهما عام 1992 وتأسيس جمهوريتين جديدتين هما الجيك والسلوفاك، كما نجد مثل هذا الأمر قد حدث عندما تأسست دولة باكستان عام 1947 إذ دفعت الاستقطابات السياسية الحادة بين كتلتيها الرئيسيتين المتمحورتين حول اللغة الأردية في الغرب واللغة البنغالية في الشرق إلى إعلان انفصال الكتلة الشرقية عن الكتلة الغربية عام 1971 وتأسيس حكومة بنغلادش المستقلة، وقطعا لا يرغب القادة السياسيون في تكرار المشهد الجيكوسلوفاكي والباكستاني في العراق مستقبلا.
- الفوارق الكبيرة في مستوى التنمية والعمران بين المناطق التي تديرها الحكومة الاتحادية وتلك التي تديرها الحكومة الإقليمية، لأن الأخيرة غير مشغولة بالقضايا المتعلقة بالأمور السيادية كالأمن والدفاع والعلاقات الخارجية.. فضلا عن صغر مساحة الإقليم وتماس المسئولين فيه بالقضايا الحيوية التي تهم المواطن وسرعة استجابتهم في التعامل معها.
إن اختلافات مستويات الإدارة والجغرافية والديموغرافيا والاهتمام بين الحكومة الاتحادية والحكومة الإقليمية سيظهر الأخيرة بمستوى أعلى من الكفاءة والقدرة على إدارة ملفات التنمية والتطور والعمران، في حين تكون حكومة المركز مترهلة وعاجزة وضعيفة الأداء مما يقود إلى تزعزع ثقة المواطن فيها، وتململ إداراتها المحلية ورغبتها في التخلص من سطوتها، ومقارنة أوضاعها بأوضاع الإقليم، مما يخلق حالة من اللا استقرار والفوضى تجر لاحتمالات كثيرة غير محمودة العواقب، بينما عندما تكون هناك أقاليم متعددة، فان العبء سيخف عن الإدارة الاتحادية وستتفرغ إلى القيام بمهامها الموكولة لها بكفاءة وقدرة تعزز باستمرار الثقة فيها وفي القائمين عليها مع فسح المجال لإدارات الأقاليم بتحمل مسؤولياتها أمام مواطنيها.
3- الأقاليم حل لمشكلة الهويات الفرعية: يتميز التحديث المعاصر بأنماطه الحداثوية وما بعد الحداثوية بكونه يفسح المجال بقوة أمام انبثاق الهويات الفرعية للتعبير عن ذاتها والاعتزاز بها، فلم يعد المجال العالمي والوطني يسمح بممارسة القمع أو الكبح لهذه الهويات، وما نشاهده اليوم في العالم العربي من ثورات ما يسمى بالربيع العربي خير دليل على هذا، يترافق ذلك مع وجود تيار عالمي متنامي يحترم الثقافات الفرعية ويحرص على إبرازها إلى الوجود. إن مثل هذه البيئة العالمية والإقليمية تجعل الفدرالية أمرا ملحا من وجوه عدة لاسيما في الدول متعددة الهويات كالعراق، لأن إنشاء أقاليم جديدة يضمن للهويات الفرعية العراقية شعورا محمودا بذاتها وتناغما جيدا مع نظامها السياسي الذي لن تجد فيه فضاء ضيقا عليها، فتساعد الفدرالية على شد أواصر النسيج الاجتماعي الوطني ضمن هوية المواطنة الشاملة للدولة، مما يمنع حصول التكهنات بسيناريوهات التقسيم بإبعادها الخارجية والداخلية. لقد أصبحت السيطرة والتحكم بإرادة الهويات الفرعية من قبل حكومات المركز سببا في انفراط عقد الوحدة الوطنية لكثير من دول المنطقة التي ربما لو اختارت الحل الفدرالي لانفتحت أمامها أبواب الإبقاء على كياناتها السياسية موحدة ومستقرة وآمنة من القلاقل، لكن التكبر والإنكار والرفض لهذا الخيار قد يجعلنا نرى في المستقبل القريب فوضى سياسية وانقسامات وانهيارات كثيرة في المنطقة تجعل من سيناريو التقسيم حقيقة واقعة لا مفر منها لن تكون السودان أخرها، بل هي المفتاح لنماذج كثيرة مماثلة في سوريا، ومصر، وليبيا، والمغرب، والسعودية، واليمن.. لن يسلم منها العراق إلا بترسيخ وتعزيز منهجه الفدرالي الدستوري.
4- الأقاليم ضمانة لعدم عودة الاستبداد في الحكم: شهدت تجربة الجمهورية الأولى في العراق فظاعات كثيرة عانت منها جميع المكونات الاجتماعية من مظاهرها: الإقصاء، والتهميش، والمقابر الجماعية، والحروب والأزمات السياسية بسبب تفرعن وتفرد الحكومة المركزية، ولا يمكن بأي حال من الأحوال ضمان عدم عودة هذا النمط من الحكم مرة أخرى إلا بخلق نمط جديد كليا من الإدارة يجعل الباب مقفلا أمام كل مغامر سياسي يطمع بالاستيلاء على السلطة وإعلان البيان رقم واحد، لأنه حتى إذا فعل هذا لن تكون هناك استجابة له وسيكون مصيره الفشل، ومثل هذا النمط من الإدارة الضامنة لن توفره اللامركزية الإدارية مهما حرص على تشذيبها وتطويرها القائلون بها، فما تمنحه حكومة المركز اليوم من صلاحيات مهمة للمحافظات وفقا لمنطق اللامركزية لا يوجد ما يمنع من سحبه منها بواسطة حكومة أخرى ذات أهداف سياسية مغايرة، أما عندما يتحول النمط الإداري إلى النمط الفدرالي المنصوص عليه دستوريا، فهذا الأمر سيفرض نفسه على الواقع السياسي العراقي الذي لن تجد فيه الحكومة الاتحادية إلا مجالا محددا من المهام التي عليها القيام بها متى ما تجاوزته واجهت نطاقا واسعا من المقاومة والرفض والكبح الفعال الذي تمارسه حكومات الأقاليم.
إن الحقائق المذكورة أعلاه، تجعل تشكيل الأقاليم في العراق وترسيخ المنهج الفدرالي في الحكم ليس ترفا سياسيا أو فكريا تتصارع وتتجادل عليه – رفضا أو قبولا – القوى السياسية في البلد، بل هو خيار استراتيجي لا مفر من العمل وفقا لقواعده وحقائقه ومقتضياته لتلافي العواقب الكارثية التي سيحدثها عدم تبنيه أو جعله عرضة للأهواء والنزاعات السياسية ضيقة الأفق، فالوضع الدولي والإقليمي يمر بمفترق طرق خطير يجب إدراكه من الجميع، وهكذا وضع على حد وصف احد السياسيين في المنطقة (لا يحتمل المغفلين ولا يغفر للجهلة).
أخيرا لا بد من تذكير المعنيين بقول القائد البروسي بسمارك: إن الحمقى من يتعلمون من تجاربهم، أما أنا فأحب أن أتعلم من تجارب الآخرين.
* مدير مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية
www.fcdrs.com
khalidchyad@yahoo.com
Phone-iraq:07812515381