التأويل المُضاعَف والعكسيّ للنص الأدبي ..2/3
هذه المادة بثلاثة أجزاء تحت سقف العنوان أعلاه وسترد تباعا، وهي:1. حول النقد ومظلته السايكلوجية.
2. حول الشعر والتأويل، وثنائية الشكل والمضمون.
3. توطئة حول نقد النقد، ومثالين عن مادتين نقديتين.
حول الشعر والتأويل، وثنائية الشكل والمضمون:
1. تعريف الشعر: قديما وحديثا، لم نحظ بتعريف مستقر للشعر، ولو سألنا شعراء اليوم عن تعريفهم له، سنحظى بإجابات تعبيرية ممتعة قد تتقارب مضامينها أو تبتعد حسب فلسفة الشاعر وفهمه. قديما قالوا، الشعر غلب على منظوم القول. أو القريض المحدود بعلامات لا يجاوزها، والجمع أَشعار، وقائله شاعر لأَنه يشعر(أي يعلم) ما لا يشعر غيره. والقول ورد عن الأزهري في لسان العرب. وعرّف قدامة بن جعفر الشعر في كتابه " نقد الشعر" بالكلام الموزون والمقفى الدال على معنى.
مثل هذه التعاريف ضيقة الأفق ومقيدة بنمط حقبة، كما أن النظم أو الكلام الموزون والمقفى ليس بالضرورة أن يكون شعراً، وهذا ما أكده قدامة في كتابه متداركا تعريفه بإبعاد سخف القول وغثاءه عن المعنى. وفي هذا الشأن قال أيليا أبو ماض : لستَ منـِّي إنْ حسبتَ الـ / ـشعرَ ألفاظاً ووزنـا.. خالفـتْ دربـُكَ دربـي/ وانقضى ما كانَ منـَّا.
لذا يطيب لنا إقتراح أفق مفتوح لتعريف الشعر يستوعب حركة الزمن والعصور ومنها عصر الحداثة. وهو (إي الشعر): لغة فنية أو فن لغوي، بسيط أو مركب، للتصوير والتعبير عن الوجود الإنساني. ( ومفردة "التصوير" حسب موقعها تعني تمثيل المؤثرات الفكرية والحسية والحدسية والروحية وتشكيل إسقاطاتها لغويا).
فالشعر بصفته لغة أولا، سيلقي عن كاهله "أتوماتيكيا" أعباء خصخصة اللغة الشعرية بإقصاء بعض مفردات اللغة، كمفردات الجسد والجنس والنصوص المقدسة وغيرها ومن منطلقات أيديولوجية. وفي هذا المقام ورد عن القاضي الجرجاني في كتاب "الوساطة بين المتنبي وخصومه" بأنه قال: أتعجب ممن ينقص أبا الطيب ويغضّ من شعره لأبيات تدل على ضعف العقيدة وفساد المذهب في الديانة كقوله: يترشفن من فمي رشفاتٍ/ هنّ فيه أحلى من التوحيد. ويكمل، فلو كانت الديانة عاراً على الشعر لوجب أن يمحى أسم أبي نواس من الدواوين ويحذف ذكره إذا عدت الطبقات، ولكن الأمرين متباينان والدين بمعزل عن الشعر.
وبصفة الشعر لغة فنية، سيتخذ مكانته الطبيعية بين الفنون التعبيرية كالرسم والنحت مثالا لا حصرا. ومثلما لكل فن مدارس تتفرد وتتباين في النهج والأسلوب، كالمدرسة الكلاسيكية والرمزية والإنطباعية والسوريالية والتكعيبية والرومانسية والتجريدية وغيرها كما في فن الرسم، فالشعر بتوصيفه فنا لغويا، سيتخـذ ذات الإمتداد مع إختلاف الأدوات الموظفة لإنتاجه.
بفهم مثل هذا، سنتجاوز الكثير من الطروحات التنظيرية المنبثقة عن فهم المنظر ومدرسة ذائقته الشعرية الخاصة، فالشعر ينهل من كل المدارس، وتمتد مضامينه بين البساطة والتعقيد، فقد يكون أنشوطة فلسفية أو جدلية، أو قطعة موسيقية تتغنى بجمالية شيء، بيانا عن حدث أو إنفعالا وجدانيا، فكرة علمية أو حالة أو حكمة مضببة بحدوس الذات..وهلم جرا، ولكل متلق ذائقته الخاصة ينتقي بها ويقرأ دونما إقصاء لما يخرج عنها. والشاعر ليس مضطرا لتلبية ما يطلبه الشارع أو المستويات المتدنية في المجتمع. فالشعر، ولأنه منتج ثقافيّ إبداعيّ، لا يخضع لمعادلة العرض والطلب، فخضوعه يعني تسليع الإبداع الشعري وسقوطه في بؤرة الصناعة والتسويق.
للخليل بن أحمد الفراهيدي قولٌ جميل قرأته في كتاب سراج الأدباء للقرطاجني ومن المثمر أن نعيه، وهو : " الشعراء أمراء الكلام يصرفونه أنى شاءوا. ويجوز لهم ما لا يجوز لغيرهم من إطلاق المعنى وتقييده، ومن تصريف اللفظ وتعقيده، ومد المقصور وقصر الممدود، والجمع بين لغاته والتفريق بين صفاته، واستخراج ما كلّت الألسن عن وصفه ونعته، والأذهان عن فهمه وإيضاحه، فيقربون البعيد ويبعّدون القريب، ويُحتَجّ بهم ولا يُحتج عليهم". ولأبن الجني قول مماثل في هذا الشأن.
2. أغراض الشعر ووظائفه: تباينت الأفكار والرؤى واستُنزِف الكثير من الجهد للتعريف بأغراض الشعر ووظائفه والتنظير فيهما منذ القدم وحتى يومنا الحاضر، وهذا الإنغماس الدؤوب في البحث والتنظير عن الغرض والوظيفة يعود سببه- بتصوري- الى القفز على فهم الشعر بصفته لغة أولا، أو إهمالها. ولو سألنا عن أغراض "اللغة/ أية لغة" وعن وظيفتها، وتوصلنا الى إجابة مقنعة، ربما سنفهم أغراض الشعر ووظيفته بصفته لغة أولا وأخيرا. فما هي أغراض "اللغة" ووظيفتها؟.
بتجاوز التفاصيل واللجوء الى التكثيف ستكون الإجابة: "التبليغ التفاعلي عن الإنسان ووجوده الكونيّ، والتدوين".
وممكن أن نسرد ونفصل تحت هذا المفهوم، على سبيل المثال، مفردة "الإنسان" وحسب موقعها ستجرنا الى التبليغ عما له علاقة بالإنسان كــ التاريخ والجغرافية / السياسة / الثقافة والمعرفة والعلوم والفلسفة / التراث/ العاطفة / الحزن والفرح، الفضيلة والرذيلة ..وهلم جرا وحتى دقائق الأمور وصغائرها، ظواهرها وبواطنها وكل ما يمس الإنسان بشكل مباشر أو غير. وتدوين ما يُبلِغ به عن ذاتيته ووجوده للحفظ والتداول والتفاعل الآني والمستقبلي.
والشعر بصفته لغة، ولا يمكن فكه أو عتقه عن هذه الصفة التكوينية، فهو يحتمل وبجدارة أغراض "اللغة" ووظيفتها، أي "التبليغ والتدوين" مع الفارق، فالتبليغ الشعريّ قرين بـ "التصوير" بفنيّة وبالمعنى الوارد في الفقرة الأولى. بهذا الفهم سنتفوق على الخوض المكرر والممل في مسألة الغرض والوظيفة، ونوفر الجهد المبذول ونحيله الى جهد مثمر ومنتج، كأن نسأل أو نبحث عن مستوى التبليغ الشعريّ. أو، هل تمكن الشعر من التبليغ عن ذاتية الإنسان بمصداقية، عن الخير والشر،هل أخفق في ممارسة تصورات الكون والخلق، هل مارس الشعراء مفارق الحياة وآفاقها شعرا، أم تكثفت الممارسة في حقل بعينه ولماذا..وما إليه من تساؤلات ممكن أن توظف لها الجهود لدراستها عالميا أو محليا أو بحدود رقعة جغرافية بعينها، وبحثها من خلال المنتج الشعري وبتجاوز مسألة الغرض والوظيفة لأنها معلومة الإجابة وبكفالة غرض اللغة ووظيفتها.
3. حتمية التجديد الشعريّ: يعد الشعر معادلا طبيعيا لحياة الإنسان ووجوده حسب التعريف السالف أو بدونه، ولا يجوز إقصاء صوب من الوجود عن ممارسته شعراً، أو فرض وصاية مقنِنة أو حصار. وبصفته لغة فهو كيان حي يتطور بتطور الحياة وتغير ملامحها وحاجاتها،غاياتها ووسائلها وطبيعة ممارسة روتينها اليومي. وهذا يعلل تطور البواكير من نتف الرجز الى القريض الى الشعر قديما. ومن الشعر التقليدي وما خرج عنه، الى شعر التفعيلة الى الشعر الطليق أو ما يسمى بقصيدة النثر حديثا.. ويبقى الباب مواربا.
ثمة إشكالية في فهم التطور الشعري، فالإنسان العربي وإن فهم حركة الحياة وتقلباتها أو ما يصيبها من تغيرات إجتماعية وثقافية وسياسية، يبدو لي عصيا على فهم تطور اللغة والآداب والفنون تباعا، أو يخشى تطورها حرصا على ماضيه وحفظا لتراثه وأصوله الإبداعية وأساليبها أو أنماطها. وهذا حرص غير مبرر لأن الأصول الإبداعية والثقافية عموما، ما لم تكن قابلة للتحول وخازنة لطاقة التحول ستبلى أو يصيبها التصخر والركود.
بدافع الحرص العقيم، حوربت قصيدة التفعيلة وعدّت خرقا لمفهوم الشعر وإنقلابا على التراث وقت إنطلاقتها، لكنها استقرت ورسخت على يد نخبة ريادية مجددة مثل السياب ونازك والبياتي. والجدير بالذكر، بعض المجددين والمنادين بالتجديد، رفض قصيدة النثر غالقا المسار التجديدي وكأنه قد بلغ ذروته بشعر التفعيلة، ومنهم نازك الملائكة رائدة التجديد، والعقاد من دعاته. وكان هذا الأخير قد حارب شعراء عصره ومنهم أحمد شوقي مناديا بالتجديد، لكنه أنقلب على نفسه فانتقص من شعر التفعيلة الذي تطور على يد صلاح عبد الصبور وأحمد حجازي في مصر، وعده نثراً دون الشعر بمفهومه التراثي السائد.
ثمة تناشز حضاري حكى عنه الباحث الإجتماعي الدكتور علي الوردي بشكل ممتع ووقور للغاية في كتابه "طبيعة الإنسان" موضحا وبتصرف، بأن الإنسان العربي بات يركب الطائرة ويجوب الأرض بمعية الحاسوب والهاتف النقال، لكنه يركب الصحراء بمعية الجمل عندما يفكر. والساحة الأدبية لا تخلو من ثيمات هذا التناشز الذي يصل حد" التدنيس والتحقير" لقصيدة الشعر الحر الطليق وقصيدة التفعيلة أحيانا. إشكالية التقليد والتجديد وبشكلها العام، أمست نمطا من صراع الحضارات لا أرى له من مبرر غير تخوف دعاة التقليد من إحداث قطيعة بين الماضي والحاضر، مع أن العلاقة بينهما لا يمكن أن تصهر أو تنقطع بإنتاج معرفة أو إقتناء، ووفق ما يمليه الحاضر والمستقبل. وما يصهر العلاقة فعلا، هو نسخ الحاضر بقيمة الماضي المعرفية والركون إليها، وهذا يريح دعاة التقليد إذ لا قطيعة ممكنة بتصورهم عندما نمارس الحاضر بعقلية الماضي، إلاّ أن القطيعة ستكون مع الحاضر بتصفيته الى مظهر حضاري زائف لا ينتج حضارة.
4. ثنائية الشكل والمضمون: اللغة كيانٌ غير مستقل بذاته، فالمعنى يسبق اللفظ، والدلالة تسبق التعبير عنها لغويا، والتعبير ينتجه الوعي المُدرك للدلالة. وفي الشعر بصفته لغة فنية، المضمون الشعري يولد أولا، بكله أو بعضه أو بملامح منه أو تشظيات، ليفرض شكلا معينا يتخذه الشاعر لهيكلة مضمونه الشعري. وهذه الثنائية في الحقيقة هي "توأم متصل" أو وحدة متكافلة ومتكاملة لا يجوز فصلها بشطر المنجز الأدبي الى عالمين مستقلين،عالم الشكل وعالم المضمون، إلا إذا كان من باب التوصيف الشكلي أو التعريف بماهية الشكل وماهية المضمون وفعلهما التكافلي في عالم المنجز. والمقصود بـ "الفعل التكافلي" هو أن يسعف الشكل الشعري مضمونه أو يسنده، أو يسعف المضمون الشعري شكله أو يسنده، للحفاظ على إنسياب مقنع للقيمة السارية في ثنايا النص الشعريّ وأفضيته.
والفعل التكافلي بهذا المعنى، يشبة لحد ما حركة البندول المستمرة دون توقف تلقائي، والمعللة علميا بقانون حفظ الطاقة، فرغم تغير قيمة الطاقتين الحركية والكامنة يبقى حاصل جمعهما ثابتا على طول قوس حركة البندول وحتى توقفه بمؤثر خارجي. ومن هذا ممكن القول تشبيها، لا جدلية ممكنة بين الطاقة الكامنة والمتحركة في حركة البندول بل قانون حفظهما. ومثلها بالمقابل، لا جدلية ممكنة بين الشكل والمضمون في فضاء النص الشعري بل قانون حفظ تكافلهما. قد يبدو هذا الربط غريبا للقارئ، إلا أنه سيكون ممتعا بتصوري لمن تعرف على قوانين الفيزياء وأحبها، وتمكن من تصور الشكل كطاقة حركية، والمضمون كطاقة كامنة في عالم الشعر.
من أجل توضيح عمل الشكل والمضمون بصفتهما وحدة تكامل وتكافل، لنفترض قصيدة جلّية بينة، مضمونها على سبيل المثال، النيل من العلم والسخرية من التطور العلمي وتسويق أفكار رجعية بهذا الإتجاه، أما شكلها فمتقن الوزن والقافية وبمستوى ما كتبه فحول الشعراء وبروعته وجماليته الشكلية.. ثم نسأل،هل تعد هذه القصيدة شعراً؟ الجواب: نعم ودون جدال، تعدّ شعراً طالما تحققت اللغة الفنية في التعبير والتصوير عن موضوع ما. ولكن، كيف سنقيم هذه القصيدة؟. لو رغبنا الفصل بين الشكل والمضمون جدلا، فعلى مستوى المضمون ستكون القصيدة رديئة بامتياز، أما على مستوى الشكل، فالقصيدة متقنة الجمالية بامتياز. ولأن الفصل من ترف التوضيح فلابد من تقييمها وعلى أساس وحدة تكافل وتكامل الشكل والمضمون، ففي هذه القصيدة المفترضة، سيسعف الشكل المضمون لأنه حقق درجة المهارة بامتياز، وسينهض بها من قاع مضمونها الرديء الى مستوى الشعر المقبول.
بالمقابل ولو قلبنا الصورة، جودة المضمون ورقيه قد تسعف الشكل، ولكنها لا تسعف الشكل الرديء جدا لكون الشعر أساسا لغة فنية في التعبير والتصوير.
ورد عن الأصمعي في كتاب الأغاني لأبي فرج الأصفهاني، بأنه قال عن شعر لبيد بن ربيعة مؤيدا معلمه عمرو بن العلاء: " شعره كأنه طيلسان طبري" بمعنى أنه جيد الصنعة وليس له حلاوة. وكان عمرو بن العلاء وحسب نفس المصدر، من محبي شعر لبيد لأنه مفعم بذكر الله والدين والخير. وإذا كان المضمون جيدا، والصنعة جيدة، فأين يكمن سر الحلاوة التي إفتقدها الأصمعي ومعلمه؟ وهذا يضعنا أمام سؤال هام ينتمي لموضوعنا هذا: ما المقصود تماما بـ "الشكل"، أو ما هو "الشكل الشعري" الذي يحدد حلاوة الشعر وجماليته؟ سأحاول الإجابة عن هذا السؤال في الجزء الثالث لعلاقته به.
5. معنى التأويل: عن لسان العرب، أَوَّلَ الكلامَ وتَأَوَّله: دَبَّره وقدَّره، وأَوَّله وتَأَوَّله: فَسَّره. ولَمَّا يأْتهم تأْويلُه؛ أَي لم يكن معهم علم تأْويله، وهذا دليل على أَن علم التأْويل ينبغي أَن ينظر فيه، قال ابن الأَثير: هو من آلَ الشيءُ يَؤُول إِلى كذا أَي رَجَع وصار إِليه، والمراد بالتأْويل نقل ظاهر اللفظ عن وضعه الأَصلي إِلى ما يَحتاج إِلى دليل لولاه ما تُرِك ظاهرُ اللفظ. وقيل: التأْويل والمعنى والتفسير واحد، قال أَبو منصور: يقال أُلْتُ الشيءَ أَؤُوله إِذا جمعته وأَصلحته فكان التأْويل جمع معاني أَلفاظ أَشكَلَت بلفظ واضح لا إشكال فيه. والتأْويل عبارة الرؤيا. وفي التنزيل العزيز: هذا تأْويل رؤياي من قبل..إنتهى.
مما ورد اعلاه نجد أن التأويل في اللغة يقابل التفسير، أو عتق اللفظ عن معناه الظاهر بما يحتاج الى دليل أو سند تفرضه الجملة المعنية، وفقد الدليل يعني خطل التأويل. وقد أرتبط "التأويل" بالنص القرآني أي تفسيره بما يخدم القاعدة النحوية والصرفية ويرعى مناهجها وأحكامها وما تفرضه من معان، وليس بتحميله ما لا يحتمل.
أما التأويل كـ "مفهوم أو إصطلاح" فتعددت أوجهه وتباينت بين النحاة والبلاغيين وعلماء الكلام والمفسرين،إلاّ ان ثمة قاسم مشترك إجتمعت عليه كل المفاهيم وهو " صرف اللفظ عن ظاهره بدليل".
6. تأويل النص الشعري: تأويل النصوص الشعرية كان قديما لا يخرج عن الشروح اللغوية التي تعتني بـ "نحو الجملة " وتفسير دلالاته وتأثيره في المعنى، فالمضامين الشعرية كانت بغالبها بينة وجلية الوضوح لتحقيق غاياتها الإعلامية وتيسير فهم المتلقي النافر من الغموض والإستغلاق، مثالنا عن النفور هو ما تناقلته الكتب التي تناولت شعراء العصر العباسي وما ورد عن أبي تمام الطائي الذي رد من أتهم شعره بالغموض، وكان شعره جزيلا ومعمقا بالمفردات الفلسفية أو المرتبطة بالفلسفة والمنطق (مثل الشيء واللاشيء، الخصوص والعموم، الجوهر والظاهر..الخ)، رده بمقولة شهيرة، فحين قيل له: لماذا لا تقول ما يُفهَم، أجاب بثقة الشاعر المحترف الفطن : ولماذا لا يُفهم ما يقال.
دخل " التأويل كمصطلح" عالم الشعر لفهم نصوصه ودراستها وعلى مستوىً عالمي، وقد تناوله العلماء والفلاسفة كل من منطلقاته المعرفية ونظريته لأهمية النص الشعريّ كمنجز أنساني يستوجب الدراسة، ولا مجال للخوض في المناهج والنظريات المطروقة في هذا الشأن فهي كثيرة ومتشعبة وأفرزت في أواسط القرن المنصرم ما يسمى بـ "نحو النص" بديلا عن نحو الجملة، ولكن يمكننا تلخيص بعص النقاط المهمة - بتصوري- عما يعنيه تأويل النص وبما لا يخرج أو يشذ عن فلسفاته ومناهجه المختلفة والموصولة غالبا بعلم اللسانيات :
- التأويل دراسة بحثية تحليلية للنص الشعري، وتوغل في نظامه الداخلي وعلاقاته المعنوية، وبحث النصية والإتساق والإشارات الدلائلية فيما وراء الجملة بعيدا عن ظاهر اللفظ أو زائفه.
- لا يرتبط التأويل بنظرية فلسفية بعينها أو معرفة بعينها، فكل متلقٍ ناقدا كان أم قارئا عاديا، له تـأويل ما يقرأ بأدوات فهمه ومن منطلقاته الفكرية، فلا رقيب على المستوى الفردي أو الخاص. أما على المستوى العام، وحين تقديم "النص المؤوّل" بفهم المتلقي وأيديولجيته كـ "مادة نقدية "، فلابد أن يكون موضوعيا ومقنعا للمتلقي الآخر، ومبررا بدواخل النص الدلائلية ومشبعا بما تفرضه من معان وآفاق.
- للتأويل نهجان لفهم قصديات النص، نهج البحث عن قصديات الكاتب أو التقرب منها بما يمليه النص، ونهج إحياء قصديات يفرضها النص بعيدا عن شخص الكاتب وقصدياته، والنهج الثاني يتبع ما يسمى بـ " نظرية التلقي" أي إرجاء البحث عن القصديات الضائعة أو الغائبة. وهذان النهجان يتعاملان مع النص كعالم مستقل بذاته. أما التأويل العكسيّ، فهو نهج يرتكز على إقصاء إستقلالية النص، وعالق بشخصية كاتبه لدراسة نصه وفهمه أو تـأويله، فهو نهج مختنق لا سيما إذا لم تواكبه سيرة مدونة للكاتب وموثوقة لاستلهام التفسير والتأويل.
- التأويل المضاعف يعني دراسة مضاعفة أو قراءات بحثية متتالية تستنطق النص زمنكانيا، وتمحص فيما يفرضه من فهم مغاير مع تقلبات الظرف والزمن. فهو عملية إبداعية منتجة لأنها تعتق النص من عصره أو حقبته الزمنية أولا، فلا تجرده من كينونته كنص مستقل قد يختزن دلالات كامنة فيه قابلة للتحرك مع الزمن تستوجب تحريرها بفهم آخر أو دراسة، وبأدوات زمنها. وثانيا، التأويل المضاعف قد يحيل الكم التراكمي منه الى "كيف" ، أي إنتاج مادة أدبية فرضها ثراء النص ومضاعفات تأويله ومستمدة قيمتها من قيمته ومتصلة بشواهدها وبواطنها.
تلخيصا، التأويل المضاعف لا يعني قراءة واحدة للنص في زمنه، تُخضِعه الى كم ٍ من" التأويلات الكيفية" لا يبررها النص من جهة، ولا يبررها الإمتداد الزمني وما يمليه من فروض تأويلية تهتدي بمعايير ومفاهيم زمن مختلف يفرض فهما آخرا للنص من جهة آخرى. و"التأويل المضاعف الكيفي" لا ينتمي للإبداع أو ينتجه، ولا ينتمي للنقد أو التأويل بصفتهما دراسة قيمومتها النص أولا وأخيرا. وأغراضه إضفاء قيمة أو سحب، فهو دعاية ترويجية لصالح النص أو ضده.
- النقد والتأويل كمفهومين يستنطقان النص حاضرا ومستقبلا، قابلان للتعشيق، فقد يتضمن النقد تأويلا أو التأويل نقدا، وبريئان من صناعة القيمة أو إفتعالها فليس كل ما تجاوز القراءة الظاهرة للنص يعد تأويلاً أو نقداً، وليس كل من كتب نقداً يعدّ ناقداً، مثلما ليس كل من كتب شعراً يعدّ شاعراً. القيمة الفعلية للنص يفرضها النص أما ذاتيا بما يظهره من قيمة، أو بمعونة الشروح والتآويل الموصولة موضوعيا بقيمته الباطنة. غياب "الوصل الموضوعي أو الصلة" بين النص وتـأويلاته أو نقده يـُفقدهما القيمة الأدبية المرجوة.
لا يقوى الإنسان على التجرد المطلق إذ لابد أن ينطلق في تقييمه لشيء ما من ثقافة ما، ولكنه يقوى على التجرد النسبي المعقول الذي لا يُسقِط تقييمه في مهب القيمة الفارغة أو البائسة إن لم يكن بسوءة معرفية تعيقه. وفي الحقل الأدبي، للمؤلف والناقد والمتلقي، طموح أدبي ضمنيّ مشترك، يُفعل بالعمل الحثيث لتطوير أدوات الإنتاج الأدبي وأدوات نقده وفهمه بما يحقق أو يكشف القيمة الفعلية للمنجز الأدبي بعيدا عن قصدية التشويه أو التجميل القاتلة للطموح. قد لا يضير "المؤلف أو الشاعر" التجميل الفائض لمنجزه، ولكن فائض التجميل سيقعده عن تقويم وتطوير نفسه ويصيبه بالغرور والخمول، ويزعزع ثقة المتلقي بمثيله الناقد المتلقي، وهذا لا يخدم المشهد الثقافي بل يدفع به الى تقهقر وأفلاس قيميّ. النقد لا يصنع الشاعر. فالشعر، وهذا ما ينتجه الشاعر، ليس منتجا صناعيا يتوسل الصنّاع ومحترفي التسويق.
في حقل الأدب اليوم، ثمة (طيور) محلقة في سابع عنان (أو تريد التحليق) لم ينبت ريشها ذاتيا وتشتد أجنحتها تدريجيا، لكنها حلقت بريش النقد ومثالب تجاوزاته على القيمة والأمانة الأدبية، وبطغيان نوازع الذات واستحبابتها الخاصة. وإذا كان المتنبي وهو العارف الداري بشعره وخفاياه، قد قال في زمانه لمن سأل تفسير شعره: اسألوا ابن جني فهو أدرى بشعري مني. فاليوم لدينا طوابير من الشعراء وضعوا أنفسهم بمكانة المتنبي وأستنجدوا بالنقاد لأنهم أدرى بما كتبوا، مع الفارق المهوول، فركة الأسلوب يحيلها (أبن جنيهم) الى بلاغة، وضعف التصوير الى أصالة وألق، والمضمون الغائب أو الرديء الى فلسفة وحكمة تشي بذكاء الشاعر ومقدرته. ولابد من إستثناء نفر من النقاد حافظوا على أقلامهم من الإنزلاق في مطبات القيمة المنزوعة والأمانة المخلوعة.
سؤال عام أختم به هذا الجزء: هل بلّغ الشاعر العربي المعاصر نفسه، بما تحتاجه أناته الشاعرة للطيران ذاتيا، متجنبا الطيران السريع بريش الآخر تاركا أناته الشاعرة على رصيف الهاوية؟
يتبع..
فاتن نور
June, 04, 2011