التاريخ يتكلم الحلقة 68 الاجتياح التركي 1983
زنبقة الوادي البرية, افترشت السهوب والوديان, ورائحتها الزكية تمتزج مع عبير شقائق النعمان وبيبون نيسان. تتأرجح على وريقاتها البضة قطرات الندى والعشب الاخضر يعانقها, تناجي البشر الى التنعم بالطبيعة الخلابة وتستنكر الاقدام الهمجية التي تكتم انفاسها غير آبهة بها. خرير المياه الرقراقة , وهدير الشلالات المتدفقة ورذاذها الثلجي وزقزقة العصافير وحفيف الأشجار , كلها تنبض بالحياة وترسم لوحة قل نظيرها , انه مطلع الربيع الباذخ في الرونق والبهاء , وكأنه لايمت الى اولئك القوم بصلة لان أيامهم امطرتهم الشر والبلاء , والمنية اليهم اقرب من التنعم بالبشر والرخاء , فلم يحصدوا من الحياة غير مآسيها , ولم يألفوا من الطبيعة الا قساوتها, وبشائر الربيع, ان هلت, فانها نذير ترقب وتوجس لتحركات الجيوش واجتياح الدروع التي اعاقتها الثلوج, الكماشة تطبق عليهم من الشمال والجنوب, كأنه لم يكن يكفيها تدمير قوات النظام ليؤازرها اجتياح تركي للمنطقة, وكل تلك القوى الغاشمة يقابلها تفكك وانحلال المقاومة التي كان يتطلع اليها الشعب بأمل الانفلات والتحرر من النظام الاستبدادي العشائري.افول وانحطاط في المعنويات لكننا كنا , رغم ذلك, نحاول التشبث بصخور كردستان وقممه ونتفادى التخاذل اذ لابد لاكمال المسيرة من المثابرة والصمود. هكذا تعلمنا, انه مصيرنا وقدرنا.
_الاجتياح التركي 1983
ربيع 1983 . الطائرات التركية تحلق فوق رؤوسنا والانباء تشير الى غزو قريب لشمال العراق من قبل القوات التركية . اذ حسب الاتفاقية مع العراق , فلتركيا حق التوغل مسافة 15 كم في عمق الاراضي العراقية , كنا على مقربة من نهر الزاب تشغلنا مسألة الانسحاب من المناطق الحدودية والتسلل الى العمق , ولكن ذلك معناه مواجهة الخطر الكامن من الجانب العراقي . تبلورت فكرة ايجاد مقر في ( كلي زيوا ) في الصيف المقبل , فتحشد القوات التركية استقر ولابد لهم من الانسحاب لاحقا.
قام ابو نضال الشايب اثوري من كاني ماص بمعاونة ابو كريم من مدينة الثورة بمسح المنطقة لايجاد منطقة آمنة لانسحاب يبدأ باجلاء المستشفى والمرضى والاطفال والنساء , نفذنا ذلك, تدريجيا, والقلق والترقب يخيمان على الجميع وعلامات التهيؤ, من الجانبين العراقي والتركي, للهجوم واضحة . في ذلك الجو الملبد ذهبت الى فصيل الادارة , لأجد هناك الرفيقة ليلى وزوجها . وحثيتهم على مغادرة المكان فورا خاصة وان ليلى حامل ولاتستطيع التحرك بالسرعة المطلوبة عندما يقع مكروه , استجابوا لنصيحتي والتحقوا بالمقر الجديد وولدت هناك بعد يومين وشكرتني كثيرا, فماذا كان سيحدث لو مكثوا هناك ؟
في اليوم التالي بادرنا بنقل قسم من الامتعة الى مقرنا الجديد, انا وماريا بنت ابو جوزيف وابو نضال الشايب اثوري من كاني ماصي والشهيد ابوكريم, وفي الطريق كان علينا ان نستقل عبارة ( وهي عبارة عن صندوق خشبي معلق بحبال فوق نهر الزاب يتسع لعبور شخص واحد يسحبه من الطرف الآخر زميل له تطوع الشهيد ابوكريم فعبر الى الضفة المقابلة بعد ان سحب هو الآخر من قبل شخص كردي , شرع بسحبنا الواحد تلو الآخر . في هذه اللحظة الحرجة بدأ قصف مدفعي مكثف كنا نحن هدفه, سقطت القذيفة الاولى على مقربة منا وغطت وجوهنا سحابة دخان وزكمت انوفنا رائحة البارود, اعتقد ابوكريم ان القذيفة اصابتني فاستعجل في السحب وواصل بكل قوته, وباقصى ما يمكن من السرعة, وبرباطة جأش, غير آبه بما يتعرض له, انه مثال للاخلاق والشجاعة في مثل تلك اللحظة الحاسمة, ابو نضال وماريا احتميا بكهف ( شكفتة ) تفاديا للقذائف وهما يناديانني سائلين ان كنت مصابة. طمأنتهما بانه فقط الدخان الذي قلب وجهي وثيابي الى سواد فاحم وانني سقطت اثر عصف الانفجار في النهر . ورغم انها المرة الاولى التي كنت اتعرض فيها الى خطر بهذا الحجم , بقيت متماسكة هادئة اكتم الهلع في صدري, مما جعل الشهيد ابوكريم يشيد بشجاعتي, من يومها ربطتنا صداقة حميمة, بعد ان صمتت المدافع واصل الرفاق العبور وهرعنا لنجدة الرفيقة ليلى, فهي مرهقة جدا. قضينا النهار كله هناك . في اليوم التالي اكتملت عملية الانسحاب اذ كانت القوات التركية قد باشرت بالانتشار.
في هذه الفترة البالغة الخطورة وصلت مفرزة قادمة من سوريا للتوجه الى كردستان لمؤازرة البيشمركة, المقاتلون البيشمركة تمكنوا من الاستيلاء على قمم الجبال المواجهة للعدو التركي, ولكن الانباء كانت تشير الى ان الاقتتال على اوجه بين اطراف الجبهة الكردستانية في لولان. الشهداء كثيرون, الانسحابات والتراجعات كثيرة, احباطات عنيفة ومخيفة والوضع يرثى له, لا طعام, لا مأوى متكامل, لا أفرشة, مقرنا الجديد عبارة عن كبرات ( الكبرة عبارة عن مسقف من اغصان البلوط يرتكز على اعمدة خشبية اربعة من جذوع السنديان ) .
استقرينا في ذلك الموقع لمدة شهر واحد كنا خلاله ننسحب يوميا, وببطء .
بدأ الاشتباك بين الاتراك وقوات البيشمركة, جرح على اثره الرفيق طاهر كردي من زاخو وملازم نعمان العبلي من بغداد , ورفاق آخرون لاأتذكرهم, اخلوا الى الخطوط الخلفية. ثم تم انسحابنا الى ( كلى حصبة ). وصلنا هناك بعد مسيرة عشرة ايام بين وديان وجبال مختلفة لا يأوي اليها غير الدببة والحيوانات الوحشية ومعنا الجرحى ونحن على حافة الانهيار من الانهاك والجوع, المعنويات متدنية جدا, الموقع هيّئ على عجل تنقصه المؤن (كان مسؤوله ابو سربست اليزيدي) واللاجئون اليه جمع غفير, تكفلت النساء باعداد العجين وبدأ السجناء * بالخبز لنا. قررت التطوع لاعداد الطعام للمرضى والجرحى واحضاره الى المستشفى, ساعتها احسست بسعادة غامرة لخدمة اناس في امس الحاجة الى كلمة ترفع معنوياتهم قبل تزويدهم بالطعام, وما احوجهم اليه.
في غمار تلك الفوضى والارتباك اعتبر الرفيق سمير في عداد المفقودين . كان راقدا في المستشفى يشكو من صدمة افقدته النطق واصابه الشلل حين رافقه الشهيد ابوكريم الذي وضعه على ظهر احد البغال وثبته بطريقة فنية وكان برفقته خمسة حيوانات اخرى محملة بمستلزمات المستشفى, في نقطة العبور في الليل فقد الحيوان الذي يحمل سمير. جاءنا ابو كريم والالم يعصر فؤاده لفقدانه سمير, فهو لا يتكلم وسوف يقع في قبضة القوات العراقية المرابطة فوق الربايا القريبة. كان قرار ابوكريم عدم متابعة التفتيش عن سمير, ففقدان كادر واحد افضل من ابادة مفرزة بكاملها. انه قرار عسكري واعتبر يومئذ سمير شهيدا, فانه سيلاقي امرين لا ثالث لهما, اما ان يقع بايدي القوات العراقية التي ستحاول استجوابه ولكنه لا يستطيع النطق فيعتقدون انه يمتنع عن الادلاء باعتراف وسيعذبونه حتى الموت, أو يقوده الحيوان الى منطقة غير مأهولة لا يلقى فيها ما يسد رمقه فيموت جوعا . ولكن المفاجأة كانت حين عودته, بعد
* السجناء : عند قوات البيشمركة يسجن العملاء للسلطة. في كل مقر يوجد سجن عليه حراسات مستمرة, والسجناء يقومون بعملية الخبز في التنور.
مضي (17) يوما من فقدانه, مصحوبا بالبيشمركة الذين رووا كيف عثروا عليه. فلدى مخاطبته اكتشفوا انه لايجيد اللغة الكردية, ولكن لسانه انطلق من عقاله! وناشدهم العون معرفا نفسه انه, ايضا, بيشمركة ويريد منهم ارجاعه الى ابو جوزيف توما توماس امر قاطع بهدينان.
من اين استمد كل تلك الشجاعة وماهي المعجزة التي ابقته على قيد الحياة (17) يوما دون طعام أو شراب ؟ لقد أنقذ نفسه ذاتيا فاعتمد على الحشائش لسد رمقه, بقي في المقر عدة أشهر وأرسل للعلاج في الخارج. كان قد فقد الكثير من وزنه.
أصبح سمير حكاية الموسم. سمع بها أهل القرى والبيشمركة على السواء, وأيقنوا أن بامكان الانسان الاعتماد على الطبيعة فقط في الاستمرار على الحياة, ولأيام طويلة.
في كلي حصبة كانت الحياة قاسية مع شحة الطعام ومستلزمات النوم, الطعام المتوفر هو الخبز والجبن المعلب, اذا كنا محظوظين في الحصول عليه, الأولية للمرضى في هذا المجال, ولوجود بعض الاعشاب الممكن تناولها في هذا الفصل (الربيع) كنا لا نألوا جهدا في البحث عنها في الكلي لنقتات عليها مع الخبز. الطيران لا يهدأ من كلا الجانبين, التركي والعراقي, كلاهما عدونا. شغلنا الشاغل هو القتال في لولان المؤسف له كان الهجوم من قبل قوات بيشمركة ايكتي على مقارتنا وذهب ضحيتها العشرات من الرفاق وضمنهم الشهيدة البطلة المندائية احلام , ظروف غاية في الدقة والصعوبة تمر بها كلتا الجبهتان, سوران وبهدينان, مع تعذر الاتصال بينها بسبب الظرف العسكري آنف الذكر.
أطراف الجبهة الكردستانية ** في تناحر وقتال, مئات القتلى والجرحى, من ناحية اخرى التواجد التركي والقتال المتفرق, تقهقر للبيشمركة على النطاق العسكري في مواجهة الحكم في العراق , وهو العدو الرئيسي . التذمر يسود أوساط الجماهير العراقية مطالبة بايقاف حرب
** الجبهة الكردستانية : جبهة سياسية وعسكرية تضم اكثر من ستة احزاب معارضة هدفها اسقاط النظام الحاكم في العراق واقامة نظام حكم ديمقراطي وحكم ذاتي لكردستان العراق.
النزيف والدمار بين العراق وايران على قدم وساق . بدأت علامات الانهاك على الطرفين المتحاربين وكل يحاول كسب الوقت لاستعادة الانفاس.
آلاف الهاربين من ساحات الوغى, فالحرب طاحنة وماكنتها حصدت مئات الآلاف ولا أمل لاولئك الجنود غير الفرار من موت ينتظرهم في كل لحظة وفي كل مكان, فالحرب مستمرة ومع ذلك كان الرئيس العراقي, يتبجح بمرور الشهر الأربعين عليها وكأن ذلك مؤشر للغلبة والانتصار! اذار 2007
michkatrin@yahoo.com