التاريخ يتكلم الحلقة 25 الانفال في بهدينان
ذهب عبدالله ليبحث عن كمية من الطحين, وبقينا يوما كاملا بدون طعام, صوت الاطفال الجوعى يطلبون الخبز مازال يدوي حتى الآن في اذني, لكن من اين نأتي به؟ ونحن كذلك جاء عبدالله حاملا كيس طحين يزن بحدود خمسة وعشرين كيلوغرام كان قد اشتراه من رجل تركي. باشرنا فورا انا وبسمة زوجة عبدالله وكانت الساعة حوالي الثامنة, باشرنا باعداد الخبز, والاطفال حوالينا منتظرين بلهفة الخبز الحار, وعندما جهزت اول قرصة نهبها الاطفال واكلوها باسرع من البرق, واسرع من الطائرة المراوحة فوق رؤوسنا. وهكذا استمرينا نخبز ونطعم الاطفال, كانت ايادي الاطفال تحترق من حرارة الخبز لكن الجوع كان اقوى من حرارة الخبز. اليوم شبعت بطوننا ولكن ماذا نعمل غدا؟اليوم التالي. الساعة التاسعة صباحا, مرة ثانية نشد الرحال لنقترب من الحدود التركية علنا نجد طعاما من ارز او دهن او شاي او سكر. كنا نفتقد الى كل شيء ونحن نواصل السير سبعة ساعات دون طعام. الاطفال يصرخون ثانية مطالبين بالخبز, عندما تقدم منا شخص تركي يقود دابة تحمل ارزا وسمنا وملحا. اشترينا ما عنده باسعار غالية جدا ومباشرة لنحل القدور والصحون والملاعق من على ظهر البغل ونباشر باعداد الطبخ, كانت وجبة اليوم جيدة لانها تحتوي ارزا مطبوخا من دون خبز, بقينا نأكل من الرز اكثر من ثلاثة ايام حتى توجهنا الى الحدود التركية لانقاذ ارواحنا من نيران السلاح العراقي, اولا, ومن الجوع ثانيا, ومن المصير المجهول ثالثا.
انه مطلع ايلول ونحن نحاول, ونستنجد, للنفاذ الى الاراضي التركية لننقذ ما يمكن انقاذه من ذلك السيل البشري, وغير البشري, المتدفق, الذي يشبه اعصارا يقتلع كل ما يصادفه واودعنا سلاحنا الى المتبقي من البيشمركة المرابطين على قمم الجبال. استبدلت ملابسي العسكرية بالكردية وحملت بيدي الطفل رىدير وضعت في ملالته جواز سفر مع صور تذكارية تمثل مساحة واسعة من تاريخ حياتي.
الساعة الثانية ظهرا. كنا نسير فوق طريق ترابي يمثل الحد الفاصل بين العراق وتركيا حين اصبحنا, وجها لوجه, مع جندرمة وقفوا على شكل جدار متراص لايسمح لاحد باختراقه. كانوا مسلحين ببنادق الناتو المصوبة الينا واصابعهم على الزناد متأهبة للاطلاق. منظر مروع جعل الاطفال يصرخون متضرعين: لا تقتلونا ! كنا كلنا عزل, دون سلاح, لا تتبين لنا وجهة ولم نخطط للوصول الى أي هدف يلفنا الحزن والكآبة والخذلان. الجوع والعطش والمرض والاعياء, كلها اجتمعت دفعة واحدة, لتعمل قتلا في الآمال والاهداف والمعنويات. لقد صدق القول المأثور المتوارث للاكراد (كرد بيخوداني) ( أي الاكراد رعية بدون راع) وفي ذلك الزحف الى المجهول شديد الحلكة كانت تسمع حوارت وتأوهات وسباب وشتائم. كان هناك من يشتم البيشمركة, قيادة وقاعدة, والتي فقدت ارضيتها واسباب ديمومتها, ومنهم من لا ينسى, في غمرة انفعاله, ان يذكر السيء الصيت صدام, في سيل القذف, وتحميله كامل المسؤولية عن الوضع السائد. لم يكن يدور في مخيلتنا تلك اللحظات غير ايجاد وسيلة لانقاذ ما يمكن انقاذه من خلال التقهقر واللجوء الى الاراضي التركية. وقد اخذت المسألة طابع الصراع والاقناع مع الجندرمة التركية. فمنا من يصرخ ويستنجد, ومن يكتم دموع الحسرة, ومهما اوتي الفرد من القساوة وقساوة القلب فانه لابد من ان يلين امام اوضاع قاهرة كالتي نحن فيها.
تقدم الينا شاب من الجندرمة, وبهدوء اخبرنا, واشار بان نؤجل اجتيازنا الحدود الى حين حلول الظلام, لكن الصعوبة كانت في السيطرة على عويل الاطفال وصراخهم في طلب الطعام والحليب, ناهيك عن الذين يبحثون عن والديهم, او الذين يرثون من قضى نحبه منهم اثناء المسيرة, او قتل بنيران المدفعية والطائرات العراقية, اما البهائم من الابقار والاغنام والبغال التي كانت ترافقنا, بالرغم من حاجتنا الملحة الآنية لها, فقد بدت عبئا ثقيلا علينا, فمنها من يحتاج الى تفريغ ما في اثدائها من حليب متصلب, ومنها ما يحتاج الى العلف والراحة بسبب الاحمال والسير لمسافات طويلة.
من خلال كل ذلك التلاطم لا زالت كلمات (جيكرخين) ذلك الرفيق القيادي المقدام الذي لم يتخاذل طوال المسيرة النضالية يوما, مازالت كلماته تدوي في اذني. لم يكن في مفردات حياته شيئا اسمه التردد او الخوف او التراجع, كان شابا في الثلاثين من عمره, يتدفق حيوية ويتقد ذكاء, له حس عسكري مرهف لا يتهاون في اقتحام أي موقع عسكري او تنفيذ اية مهمة تناط به. مؤمن بان الكفاح المسلح هو الطريق الوحيد لانتزاع الحرية للشعب الكردي. كلماته التي تنم عن الاحباط والحزن العميق والانكسار النفسي وهو لا يصدق انه, وبهذه السهولة, يرمي سلاحه دون مقاومة, ويلغي في لحظة خاطفة كل تاريخه العسكري وسجل المعارك وساحات القتال التي ابلى فيها كل البلاء, ناداني: ايتها الرفيقة! تعالي نتحدث قليلا عن هذه المأساة التي المت بنا. ماذا؟ هل ندخل تركيا صاغرين اذلاء ونحن الذين لم تكن الدنيا يوما تحملنا؟ ولم نرضخ لبطش ندر ان واجهه بشر منذ الخليقة؟ لمن ولماذا ضحينا بدماء آلاف الشهداء؟ لماذا تحملنا الحرمان والجوع والعطش وسهر الليالي وامضينا حياتنا في قر الشتاء وثلوجه وخلفنا وراءنا الشهداء في قبورهم المزروعة في جبال كردستان على امل ان نحقق لهم ما ضحوا من اجله ونكمل طريقهم؟ كثيرات هن الارامل, واكثر منهم اليتامى الذين سيحملوننا وزر هذا الخذلان ولن يسمحوا لنا بان نختلق الاعذار. اليس الموت اخف وطأة من وضع كالذي نحن فيه؟ طأطأ جيكرخين رأسه خجلا من نفسه. لا أصدق انه يبكي! انه يبكي بكاءا مرا, وشتان بين بكاء فرد عادي وآخر يعتقد حتى اعمق نقطة في كيانه, ان الاستسلام آخر ما كان يمكن ان يفكر فيه. دموعه تختلط مع التراب الذي يدفن فيه سلاحه. انه يدفن فيه تاريخه, انها ساعة التخلي عن اعز ما يملك. اجهشت بكاء معه, لكنه شعر بان ذلك لا يشفي غليله, وبعد قليل انتفض ومسح دموعه وتوسل الي ان انسى انني رأيته يبكي وهدأ قليلا. قلت له: مايزال لدينا ما نفعله وهو لايقل أهمية وبسالة عن القتال, اعني ان ننقذ هؤلاء الاطفال واولئك النسوة والشيوخ. انها مهمة انسانية تنفيذها لا يقل نبلا عن الالتزام بالمبادىء, نحن لسنا متخاذلين او خونة! امامنا هذا التحدي وهو ان ننقذ هؤلاء الابرياء. وسيأتي يوم يستطيع فيه هؤلاء الاطفال اشعال جذوة النضال من جديد حينما يسمعون ان تاريخهم كتب بدم الشهداء لكن غدر الغادرين والمزاودين بشعائر حقوق الانسان والمجتمع الدولي ومنظماته, والمحافل الدولية ومنظماتها ومنابرها, وتخلي اصدقائنا الكبار كالاتحاد السوفيتي " الصديق الامين للشعوب المضطهدة" عنا وقد كرسنا اعمارنا في الدفاع عنه وعن سياسته, كل ذلك كان من اسباب محنتنا, اخبرت جيكرخين ان البقاء هكذا على الحدود التركية, موت اكيد لنا, فلا ارزاق ولا مؤن, ووراءنا مدفعية وطائرات النظام والظروف الجوية القاسية المقبلة. لنحاول ونبذل كل ما نستطيعه من اجل الدخول الى الاراضي التركية مع هذا الجمع الغفير من الضحايا.
الى اللقاء في الحلقة القادمة