التاريخ يتكلم الحلقة 53 التسمم بالثاليوم
انصرمت الايام العشرة وخلالها انهيت قراءة ثلاثة روايات واحدة منها للكاتب العالمي اميل زولا، وآخر للكاتب العربي التقدمي السوري حنا مينه، الذي اكن له كل المحبة والاحترام، وكنت كلما اقرأ له اكثر يزداد اعجابي به لانه يطرح الامور بشكلها الطبيعي وله ملكة ادبية رائعة وقوة تعبيرية لغوية تجعل القارىء يشعر بانه يقرأ لكاتب متمكن من اللغة العربية. كم كان بودي ان التقيه، حتى لو على شاشات التلفزيون او وسائل الاعلام الاخرى، لكن ذلك لم يحصل.كنت خلال تلك الفترة التقي بالرفيق ملازم خضر واسأله عن البيروسترويكا لانها كانت حديث الساعة وكنت استشف انها ثورة ستقلب الامور نحو الافضل باستئصال كثيرا من الجمود الفكري وستغير النمط القديم لنظام بريجينيف ولكن لم يكن لدينا صورة واضحة عن مدى تفاعلها مع النظام العالمي لاحقا.
عاد الرفيق ابو عامل بعد عشرة ايام وبدأنا نتحدث بصورة مسهبة عن السياسة ومزالقها. وعندما لمس عندي التشاؤم، بذل جهوده في اقناعي بأن الامور ستتحسن مستقبلا محاولا اعادة الثقة والتفاؤل الى نفسي، لكن كما يقال، لا يمكن حجب الشمس بغربال. خلال ذلك تطرق الى جوهر المهمة التي سأكلف بها وهي فتح الطريق للحزب عبر اذربيجان ايران ومنها الى اذربيجان السوفييتية. درسنا الموضوع بتفاصيله، كان علي عند الحدود السوفييتية ان اسلم نفسي لحرس الحدود، فانا اجيد اللغة الروسية ولي خبرة بالتركيبة النفسية وشخصية المواطن السوفييتي الاذربيجاني. كما لي، قليل من الالمام باللغة التركية. تجاهلت مخاطر الطريق ومفاجئاته. انها مغامرة في غاية الخطورة والصعوبة لكني قبلت التحدي، كعادتي دائما في قبول مثل تلك المهمات، لا يثنيني عنها شيئا حتى لو كان في ذلك منيتي. كنت بذلك امينة لمبدأي وشعاري: (الموت من اجل الوطن شرف عظيم).
بعد يومين اتخذت قرار الموافقة على تنفيذ العملية التي احيطت بسور من الكتمان لا يعلم بها غيري والرفيق ابو عامل والرفيق سالم الذي سيرافقني الى الحدود، ساعة الصفر ستكون في منتصف ليلة مظلمة لا ضوء للقمر فيها، عندها اسلم نفسي للسلطات الحدودية السوفييتية، بينما ينتظرني الرفيق سالم حتى الخامسة صباحا فاذا لم ارجع فهذا معناه انني وصلت الحرس الحدود الاذربيجاني في امان،او ذهبت شهيدة لمهمة صعبة . بعد ان اسلم نفسي الى السوفييت ستبرق السلطات الاذربيجانية الى موسكو تعلمهم بان الرفيقة سعاد( كاترين ) سلمت نفسها للسلطات السوفييتية فتطالب موسكو باطلاق سراحي. كانت وجهتنا انا والرفيق سالم ان نغادر كردستان العراق الى اورمية- فرضائية. الطريق يستغرق يوما واحدا سيرا على الاقدام لساعات طويلة ثم نقلع بسيارة الى مدينة رضائية واورمية. كانت الحدود بين العراق وايران مفتوحة في منطقة كردستان. وبعد ان نمكث في اورمية ليلة واحدة نأخذ سيارة تاكسي الى قرية حدودية في شمال اذربيجان نهبط من السيارة بعيدا عن القرية فيأتي شخص اذربيجاني ايراني يوصلني الى منطقة قريبة من الحدود بعد ان يشتد الظلام، عندها ابدأ بالنزول الى خندق يفصل اذربيجان-ايران عن اذربيجان السوفييتية. في الخندق ستتوجه الي الكلاب البوليسية فاصرخ باعلى صوتي منادية باللغة الروسية: انقذوني ايها الجنود السوفييت انا امرأة سوفييتية قادمة الى وطني. انا هاربة من النظام الدكتاتوري واطلب من الجنود السوفييت عدم اطلاق النار مؤكدة لهم بانني عزلاء من السلاح وانني مخلصة لدولتي واطلب ان يلتقوا بي فاذا لم يثقوا بكلامي اقسم لهم انا لست عدوة، وارجوهم ان ينقذوني من الكلاب لاروي لهم قصتي. الرفيق سالم مع رفيقه سينتظرونني حتى الساعة الثانية عشر ليلا فاذا لم ارجع، يكون مصيري اما فريسة الكلاب او ضحية طلقة من جندي سوفييتي او اصل بامان الى الجندي السوفييتي الذي سيأخذني الى موسكو.
أخبرت ,لدى مباشرة العملية سازود بمعلومات وعن الوجهة التي سنقصدها. قدم الرفيق الذي سيأخذني من ايران وتحدثنا نحن الثلاثة عن ضرورة العمل بسرية تامة. ابرقوا الى بهدينان بان الرفيقة سعاد سوف تكلف بمهمة هنا، كنا نرقب حلول الظلام يرافقه انخفاض شديد في درجات الحرارة وتساقط الثلوج، عندما وصل الرفيق سالم ليخبرنا بان الثلوج المبكرة في ذلك الموسم قد سدت المنافذ الحدودية ولا يمكن اختراقها في الوقت الحاضر ويجب الانتظار لحين تحسن الظروف الجوية. فالمسير على الاقدام في اذربيجان سيستغرق ساعات طوالا ولا يمكن تحقيق ذلك في موسم الثلوج.
اصعب ما يواجه الانسان هو الترقب، والتهيؤ لعمل هو مقبل على تنفيذه ولكن لا يستطيع التحكم بموعده. كذلك فان الطابع السري للعملية جعلني اتساءل عن مدة بقائي كل ذلك الوقت هناك، وطبيعة المهمة المكلفة بها. كان الرفيقان خابور وابو عوف وهما خريجا الاتحاد السوفييتي موجودين معنا، فاخذت اتحدث اليهم باللغة الروسية في محاولة مني لاختبار المخزون منها. كنت خائفة ان اكون قد نسيتها بسبب عدم الممارسة. استغرب الرفيقان لتكلمي معهما بالروسية فكنت ابرر ذلك بانني لا ارغب ان انسى هذه اللغة التي الفتها واعجبت بها. ولكن كما يقال (المعنى في قلب الشاعر) اذ لا استطيع ان اصرح باكثر من ذلك. كان ينتابني، احيانا، شرود ذهني فاتخيل تلك اللحظات التي ساسلم نفسي فيها لحرس الحدود السوفييت وكيف ساتكلم معهم لغتهم، لكن قد اواجه كلابهم البوليسية الشرسة؟ سينتزعني منها ذلك البوليس الروسي. واحيانا اخرى يتراءى لي اني اسير في الظلام فينقض علي حيوان ضخم مفترس. كانت هذه كلها محض تهيؤات وتوقعات لم اكن اتحرر منها الا اثناء القراءة او انجاز الاعمال اليومية والليلية المناطة بي، او في الحراسات الليلية. في النهار كنت الجأ الى الحياكة اليدوية بسنارات خشبية نصنعها من اغصان الاشجار واما الخيوط فتجلب من ايران.
في شهر كانون الثاني من عام 1985 . الساعة تقارب الرابعة مساءا والثلوج تتساقط بغزارة ليصل ارتفاعها بحدود المتر. كنت واقفة للحراسة عندما شاهدت الرفيق دارا يهرع الينا من بعيد وامارات القلق والخوف مسيطرة عليه، سألت: ما الذي وراءك؟" قال هناك رفاق قادمون على ظهور الحيوانات. ذهب فورا الى الرفيق مكسيم واخذ يهيأ المدفأة والمنامات. وصل الحيوان الاول، وراكبه شخص ملثم (باليشماغ) الاسود وقد اضناه التعب وتصلبت اوصاله من البرد. امعنت النظر اليه وتمكنت من تشخيصه؛ انه الرفيق ابو نضال من كاني ماص (أنوني بالاثوري )، سألته: ما الذي حصل؟" اشار بانه سيخبرني لاحقا. هرع الرفاق لنجدة القادمين الينا، ابو نضال ,ابوتحسين ودشت. ابو تحسين كان في حالة يرثى لها اذ وصل به الاعياء حداً فقد فيه احساسه وذاكرته ولم يستطع التعرف على ما يدور حوله. دشت لا يقوى على الحركة والكلام، هيئنا لهم الشاي ولكن ابو تحسين ودشت لم يتمكنا من شربه. ابو نضال بدأ يرتشف منه قليلا، جلست الى جانبه متسائلة عما حدث لهم، قال نحن مسمومين بالثاليوم، قلت كيف حصل ذلك؟ قال ارسل احد معارفي قنينة ويسكي. وكما تعلمين ان تعاطي الكحول ممنوع في الاعراف العسكرية، اخذت القنينة ووضعتها في مكان خفي، بعد يومين، وفي عتمة الليل، ناديت دشت وابو تحسين، وضعت لكل منهما القليل منه في قدح زجاجي، بعد يوم من تناوله شعرت بمغص في معدتي وتقيأت كل ما في امعائي، نادوا لي الدكتورة ام هندرين التي سألتني عما اكلته. فاخبرتها بانني لم اتناول غير ما هو موجود لدينا وتناول منه بقية الرفاق. بعد ساعات ظهرت نفس الاعراض عند ابو تحسين ودشت، ادركت حينها انه بسبب ذلك المشروب الذي تناولناه، واخبرت الطبيبة بذلك. ابرقوا حالا الى لولان، اذ بدأت حالتنا تتدهور نحو الاسوأ، قال: لاحظي يا سعاد، لقد تساقط شعر رأسي جميعه، كنت املك شعرا ابيض كثيفا". كانت معنوياته في الحضيض اذ كان يعتقد انه اقرب للموت منه الى الحياة.
بعد ان نالوا قسطا من الراحة والدفء اعتلوا حيواناتهم في الثانية بعد الظهر وسط تلك الزوبعة الثلجية، متوجهين الى ايران للعلاج. سألت ابو نضال ان كان باستطاعتي ان اسعفه بأي شيء؟ طلب مني قلنسوة الصوف التي كنت اضعها على رأسي ليخفي فروة رأسه، كما لم يكن لديه نقود فأعطيته اربعون دينارا عراقيا كانت معي، رجعت اتحدث للرفاق عن مدى تألمي لذلك الوضع المزري، لكن الرفيق ابو احلام الالقوشي قال لا تقلقي فسوف ارسل له مبلغا آخر والمهم ان يصلوا بسلام.
كنا قلقين على ابو تحسين العربي ونخشى ان يحدث له شيء في الطريق، كان الجلوس والتحكم بالحيوان عليه صعب . صنع الرفاق له مقعداً خشبياً وربطوه اليه بالحبل وهو اقرب الى الغيبوبة لا يقوى على الكلام وجسده النحيل يترنح يمينا وشمالا. لقد فقد الكثير من وزنه في غضون الايام الستة الى لولان، ودعناهم جميعا. كنا اكثر من 25 رفيق ورفيقة ودموع الاسى والجزع في عيوننا. نتساءل هل سيصمدون امام تلك الظروف الجوية التي لا يتحملها الاصحاء؟، انهم يواجهون مصيرا مجهولا، تلاحقهم نظراتنا وكأننا في مأتم، يقود المفرزة الشاب الوسيم مخلص من القوش ، مظهره يوحي بالشجاعة والثقة، الطرق غير سالكة ولكن عليه الاقتحام والتحرك بسرعة لاختصار الوقت املا في انقاذ رفاقه، كان لديه من الشجاعة ما يكفيه لان يقود اكبر مفرزة الى المكان المقرر، وله خبرة بتشخيص الطريق الصحيح، واثق كأي قائد عسكري، من نصره، رغم صغر سنه.
طيلة الايام تلك انشغلت بالقراءة، فهي افضل وسيلة للهروب من الواقع، كنت اقرأ لماركيز فانا احب هذا الكاتب العظيم، انكب على كتبه طوال النهار وحتى في اوقات الحراسة والنوبات الليلية. في تلك الايام اقيمت ندوة من قبل الرفيقات الموجودات عن رابطة المرأة العراقية ونشاطاتها. ادارت الندوة زوجة القيادي ابو داود- ام اسيل العربية ، فتحدثت عن انشطة رابطة المرأة، كانت معنا الرفيقة هناء الملقبة الان سيدة المجتمع العراقي ، القادمة من المانيا، حيث شاركت في مؤتمر نيروبي والرفيقة مرام العربية . وبعد حديث استغرق اكثر من ساعة عن شؤون المرأة في الخارج فقط، قاطعتها بمداخلة اشرت فيها (الى اني سمعت منكن الكثير عما يدور في الخارج، ولم تتطرقن لا من بعيد ولا من قريب الى اوضاع النساء العراقيات وما يعانينه من ويلات. خمس سنوات من حرب طاحنة تقضي على اولادهن، اخوتهن، ازواجهن يذهبون وقودا لتلك الحرب وما يرافقها من استنزاف للقوى البشرية والاقتصادية، فضلا عن الدمار الاجتماعي)، اثار حديثي امتعاض وسخط السيدات المتحدثات الثلاثة ، فتركت الاجتماع وانا في اشد حالات الاهتياج والغضب، تحدثت الى الرفيق ابو عامل ساخرة من البيروقراطية داخل الحزب وداخل المنظمات الديمقراطية وتساءلت كيف سيتسنى لي العمل مع اولئك النسوة سياسياً؟ قلت له يجب ان نغلف قيادة الحزب في علب حافظة لا يلمسها الهواء فيفسدها فهي الوحيدة المؤهلة للقيادة في هذا الكون ولا يمكن الاستعانة بغيرها! كان يسمعني بانزعاج كبير واخذ يرد ساخراً. لم يكن هناك مجال لأن يقنع احدنا الآخر، وصارحته برغبتي في الاستقالة من الحزب ولكن المعوقات معروفة، سوف اتهم بالتخاذل والضعف والجبن وعدم القدرة على التحمل والمواصلة. كان الصراع على اشده بين الجيل الحديث والقيادة القديمة، لكن القيادة القديمة لا تخلي له الساحة فهي حكر للمخضرمين، كنا نلتقي لنختلف.
في يوم مشمس نادتني الرفيقة بثينة وقد كنا نعمل سوية في رابطة المرأة قبل خروجي من العراق عام 1976. قالت لقد اعجبتني مداخلتك في ندوة رابطة المرأة، ان تفكيرك سليم وانتقادك في محله، ثم اضافت انني ارغب العمل في صفوف النساء، هل بامكاننا العودة الى بغداد او الموصل؟، اجبتها نعم ولكن يجب ان يتم ذلك بسرية تامة. وقد اخبرتها عن الكتاب الذي كتبته عن المرأة العراقية،. ولقد قالها الرفيق زكي بجرأة: اننا نحتاج الى نساء مناضلات مستقلات غير مرتبطات بازواجهن القياديين!". وعندما اعلنت بثينة عن رأيها ويتلخص بان دور المرأة هو قيادة النساء، عموما، في ارجاء العراق وليس فقط في اعالي الجبال، عندما عبرت عن وجهة نظرها تلك فوجئنا بقرار موجه الى بثينة صدر بعد عدة ايام من ذلك التاريخ، يلزمها بمغادرة كردستان فورا والعيش في المنفى خارج حدود الوطن. وكالعادة كان يتوجب الامتثال للقرارات وان كانت مجحفة او خاطئة. انه قرار حزبي، طوته واخذته معها الى الخارج. لقد جمُد نشاطها السياسي علما بانها كانت مخلصة لقضية المرأة العراقية .
ومن باب الفضول سألتني في حينه مرام عن سبب بقائي هنا وعدم الرجوع الى بهدينان، اخبرتها بانه قرار حزبي ولست انا الراغبة بالبقاء، سكتت على مضض، ولم يفتها ان تسأل عن ماهية ذلك القرار لأن بقائي هنا يثير مخاوفها من كشف الترسبات والسلبيات يوما بعد يوم. وانا ذو لسان سليط ليس من يسكتني . كان هذا معروف عني في حياتي السياسية . ولا زلت استعمل لساني السليط وانا فخورة به . اننا اليوم بحاجة الى كتاب وسياسيين يفضحو كل ما موجود سابقا وحاليا . بغير دْلك لم يكن باستطاعتنا بناء العراق الجديد .
بقيت في لولان انتظر تنفيذ المهمة المناطة بي والتي هي عبور الحدود وفتح الطريق للآخرين وبعدها سأصل الى موسكو وارجع ثانية الى كردستان. انني متحمسة لان اكون احدى البطلات بين اولئك الرفيقات ولكن الثلوج مستمرة دون انقطاع. سليم ينتظر بفارغ الصبر ايضا.
انصرمت سنة 1985 واحتفلنا بمطلع العام الجديد في رأس السنة. كان الاحتفال ان يجتمع الفصيل في القاعة بعد وجبة العشاء ويقدم البسكويت مع قدح من العصير ثم تلقى كلمات بالمناسبة تبدأ بعدها الفقرة الفنية، تتخللها رقصات شرقية وغربية، الكل يشارك في الرقص، النساء والرجال. الاغاني الكردية والعربية تصدح في المكان. في الحادية عشر مساءً انتهى كل شيء وعدنا الى غرفنا. تمتعنا قليلا وحتى وجبات الغذاء كانت محسنة ذلك اليوم ففي العيد تذبح ذبيحة، ويتسنى لنا ان نذوق اللحم. 17/01/2007