التاريخ يتكلم الحلقة 72 التوجه الى الموصل
في الصباح تناولنا فطورنا سريعا متوجهين الى كهف قريب من قرية بيرموس في الجوار, كنت متلهفة للوصول الى ذلك الكهف الذي لي ذكريات عزيزة عنه. انفلتت دموعي من مقلتي وانا اعود بالذاكرة الى تلك الفترة العاصفة التي عشناها عام 1963, ذلك اليوم العصيب 4 اب الذي ولد فيه اخي ازاد. أخبرت رفاقي انه مسقط رأس اخي في موضع يفتقر الى اقل متطلبات الصحة والنظافة وفي جو يخيم عليه الرعب والهلع. شاركني الشهيد نصير ذلك الشعور متسائلا عن ذلك الاضطهاد السياسي الذي لحق مبكرا بعائلتي, والدي الذي كان في صفوف البيشمركة منذ مطلع الستينات (1963) وهو يعاني من المرض, تاريخه الحافل بالنضال والتضحية, هكذا استدرك الشهيد اونير الالقوشي معقبا, يكفي ان نستذكر تلك الولادة في ذلك الكهف الذي لا يستطيع الانسان ان يرفع فيه قامته وهو لا يعدو كونه جحر بابعاد مترين مربعين, انها مخاضة عسكرية.في ذلك الكهف وفي تلك البقعة الصغيرة بقينا طول النهار نحن الثلاثة, توجه الينا شاب كردي طويل القامة ناداه ابو نصير (رحمن) من العائلة الكردية من بيرموس الذين وقفو لنا وقفة جبارة لاتنس الى الابد ثم حدثه بالكردية قائلا: أتعلم من هي هذه الشابة؟ انها ابنة الياس ابو سفر. سألني رحمن ان كنت انا الكبرى ؟ اجبته بالايجاب, قال هل تتذكرين ان اخاك ازاد ولد هنا في هذا الكهف وهل تتذكرين لماذا اسماه المرحوم والدك ازاد ومعنى كلمة ازاد بالارامي والكردي والارمني - الحرية ؟ ثم استرسل في سرد الذكريات والخواطر وكيف كانت والدتي وهي الحامل في شهرها الثامن, تتسلق الجبل وتهبط منه مرارا عديدة في نهار واحد.
قادنا رحمن الى بيت عمه في القرية القريبة, تناولنا وجبة الغذاء هناك والكل يتحدث باعتزاز عن والدي وتضحياته ونضاله في تلك الحقبة من الزمن. كم ألم بي الأسى حين تذكرت والدي الذي لم يقدر لي ان القاه ثانية. لم تتحقق امنيتي وامنيته, لم يتحقق لي رؤية والدي قبل وفاته, وترك ذلك جرحا كبيرا في قلبي.
توجهنا الى جبل القوش نتسلقه لنهبط من السفح الآخر, تحت جنح الظلام, ونحن ننشد الوصول الى قرية يزيدية* خورزان فلدينا هناك معارف كثيرون.
دخلنا القرية في العاشرة مساء, كان معظم القرويين نائمين فوق السطوح, والعادة هي ان يجتمع اهل القرية واعيانها عند المختار يتسامرون.
نصحني ابونصير واونير بتغيير ملابسي وارتداء الملابس الخاصة باليزيدية, استلموا سلاحي وملابسي ووضعوها في مخبأ صغير عندهم. قضيت الليلة هناك وفي اليوم التالي فوجئت بامرأة, في الخمسين من عمرها تقريبا, تدخل البيت, امرأة جميلة تنم ملامحها عن الذكاء والخبث, استفهمت من اكون؟ ولأني افهم اللغة الكردية قليلا, أجابتها مضيفتي قائلة انها امرأة
* اليزيدية: طائفة كردية ويتكلمون اللغة الكردية ومعتقدهم في العبادة مستمد من الخوف والتهيب من الشر المتمثل في الشيطان وهي ديانة موجودة قبل الاسلام. وحافظت هذه الطائفة على معتقداتها حتى اليوم وهم يعيشون محاطين بالمسلمين والمسيحيين والاكراد, لا يتزاوجون من خارج ملتهم لان ذلك من المحرمات لديهم). لهم مركز ديني لالاش الذي تزهو المنطقة به مثلما تزهو هذه المنطقة بالمعابد والمزارات الاخرى مثل مزار ناحوم وبعدها الدير ربان هرمز ودير السيدة مريم ومدرسة مار ميخائيل ..
من عقرة* جاءت تبحث عن شقيق لها مفقود وهو شاب في العشرين من عمره, ربما تتلقى الخبر عنه من اصدقاء زوجي لانه كما تعلمين ان زوجي بيشمركة, ظلّت تستفهم وتستطلع حوالي 20 دقيقة وغادرت. لم اطمئن اليها وهجست امرا مريبا من نظراتها وطبيعة طرحها للأسئلة علما بأنها لم توجه لي الاسئلة وانا تجاهلتها بدوري. بعد مغادرتها سألت صاحبة الدار من تكون هذه؟ قالت انها جيراننا. في العاشرة مساء بعد عودة اونير وابونصير اخبرتهما بانني سوف ارافقهما هذه الليلة, رفض الرفيق اونير مذكرا بان لدي موعد غدا مع شخص آخر سيقدم خصيصا لمرافقتي الى المدينة, أصريت على موقفي, فذكرني بصعوبة اخراج سلاحي تلك الليلة, وتساءل ما معنى هذا الاصرار خصوصا ان الاغطية شحيحة والمبيت على قمة الجبل في الليل صعب بدونها لبرودة الجو. ثم ماذا سيكون موقفنا بالنسبة للشخص القادم في تلك المهمة؟ اخبرته ان بامكانه الرجوع او الانتظار حتى يخيم الظلام, واردفت: مهما وضعتم من عراقيل فسوف لايثنيني عن عزمي هذا شيء. بعد العشاء بنصف ساعة كنا على قمة الجبل نتحدث تحت ضوء القمر اخبرتهم عن تلك المرأة, كانت وجهة نظر صالح ( الرفيق اليزيدي صاحب الدار الذي كنت في ضيافته كان هو الاخر يبقى معنا على قمة الجبل) مختلفة واصفا اياها بانها قروية ساذجة لكنها فضولية.
الساعة الخامسة صباحا نادى الحرس: انهضوا ايها الرفاق! كانت مجموعتنا تتكون من ستة انفار فوق قمة الجبل, سألناه ما الخبر؟ قال: هناك تقدم نحو القرية, سيارات عسكرية تعدادها سبعة, تأهبنا وايدينا على الزناد نراقب الوضع عن كثب. انتظرنا المراسل للاستعلام
* قضاء عقرة: من أقضية الشمال يقطنه المسيحيون والاكراد, وهو ضمن منطقة كردستان ولكنه تحت سيطرة الحكومة العراقية.
عما يحدث لكن لا أحد قدم من رجال القرية, كنا مستعدين لأمرين: اما القتال او الانسحاب الفوري.
كان القرار بالانسحاب لعدم وجود عتاد كاف ولا سلاح ثقيل مثل (RBG ) ولا قنابل او دوشكات, ديكتريوف, عفاروف .. الخ, اسلحتنا للدفاع الشخصي ولا يمكن ان نجابه بها قوة هجومية.
انها الآن الساعة التاسعة صباحا, قدم الينا مخبر من القرية واخبرنا بان تلك المجموعة استهدفت بيت صالح (الذي كنا ضيوفا عنده), اقتحموه وفتشوه وقفلوا راجعين دون ضجيج او اصطدام, ارعبوا الناس ذلك الصباح, وبعد مغادرتهم تنفس الناس الصعداء وحمدوا الله على عدم وقوع مكروه لاحد, واعتبروا ذلك نصرا لهم, تملك الرعب الاطفال فقد استيقظوا من النوم ليجدوا العسكر المدججين بالسلاح يدخلون مخادعهم عنوة. الرفيق اونير اشار علي بالبقاء في ذلك الجبل, وكل يوم نتهيأ فيه لدخول مدينة القوش, يأتينا اشعار من الداخل بعدم المجازفة لانها محاطة بالكمائن خوفا من تسلل البيشمركة وتنفيذهم عمليات اغتيال عملاء النظام, من مخبري الامن والمتعاونين مع السلطات ورجال الحكومة. بقينا على تلك الحالة فترة شهر تقريبا, لم نحصل, كالمعتاد, على الاشارة بالدخول. تملكني اليأس وابلغت الشهيد اونير برغبتي في الرجوع الى مقر مراني لاتدبر شيئا آخر.
كانت مراني تبعد عنا ثلاثة ايام سيرا على الاقدام, وجدت الشهيد ابوفؤاد واطلعته على الموقف وصعوبة الدخول فنصحني بالانتظار لبضعة ايام اخرى, بعد ايام توجهت الى الجبل المطل على القرى اليزيدية مرة ثانية بنفس الطريق سيرا ثلاثة ايام . في هذه المرة افلحت في الدخول في الساعة السادسة بعد الظهر. قدمت سيارة الى منطقة غير مأهولة واقلتني بعد ان هيأوا لي الثياب المدنية اللازمة. سلمت سلاحي وملابسي (البيشمركة) لكن الذي جلب لي الثياب فاته ان يستصحب معه الحذاء ايضا, فبقيت محتذية حذاء البيشمركة, وهذا مقلب خطر يمكن ان يفضح امري.
توجهنا الى الموصل فورا, لكن البقاء في الموصل كان في غاية الخطورة وتهيئة منزل للمبيت يحسب له الف حساب, اخذوني الى مسكن مهجور وكان صاحبه قد التحق بالجيش الشعبي بينما كانت زوجته تعيش مع ذويها, وكنا حذرين من اكتشاف امرنا من قبل الجيران, فلم نضيء شمعة ولا استعملنا صنابير الماء وكتمنا اصواتنا. وهكذا قضيت الليل في العتمة لوحدي, زودت برغيف خبز, لكني كنت متلهفة لكأس شاي حار, فتحت الثلاجة لاجدها فارغة تماما, فالدار مهجورة منذ اشهر. البيت مطل الى الشارع العام وانا اتطلع على الشارع من وراء الستارة, لا اتمكن من استعمال التلفزيون او سماع المذياع او الموسيقى.
في الثانية عشر ظهرا قدم شخص عزيز علي ومعه وجبة فطور جيدة وملابس مصطحبا معه اصدقاء حميمين متلهفين للقائي, قابلني (ص) و (ف) وقد خانت الدموع الاخير قائلا كم كنت اتمنى ان استقبلك وانت تهبطين الطائرة لاهنئك وافتخر بك لحصولك على الدكتوراة في الجيولوجيا لا ان تستقبليني في هذا البيت المهجور وانا خائف من دخوله او فتح بابه! رغم انه بيتي, أي اجحاف بحق العلم والعلماء وبحق الانسانية ان يحرم امثالك من استغلال معرفتهم في خدمة الوطن لعدم توافقك وافكار المتنفذين في السلطة.
بقينا في البيت لساعتين, كان الحوار يدور حول مدى تطور حركة البيشمركة وامكاناتهم, ثم تطور الى نقاشات سياسية متنوعة. ثم غادروا على أمل تهيئة محل اقامة آمن لي, توجهت الى الضواحي وفي اثنائها كنت قد غيرت صبغة شعري باستمرار واحيانا كنت اتنكر بملابس ربات البيوت العاملات وشددت ربطة فوق رأسي. كنت امتلك هوية مزورة واتنقل عبر نقاط التفتيش بسيارات خاصة, وفي الليل كنت, احيانا, سجينة في البيت لا استطيع الحراك, في غرفة مقفلة لا يشاهدني احد اطلاقا. ومع ذلك كنت احس بالخطر الداهم. اخبرت صاحب الدار بهواجسي. الا انه كان هناك مكتبة ضخمة كانت خير رفيق. انغمست بالقراءة حتى الثامنة مساء, يوصد الباب الخارجي وتطفأ الانوار, حينها اخرج للتجول في حديقة المنزل, غرفتي فيها نافذة واحدة مطلة على الحديقة اشاهد ما في الخارج من وراء ستائرها, وكان العالمون بامري يتألمون لذلك الوضع المأساوي وكنت احس بتعاطفهم معي, ولكن ذلك كان يزعجني ولا حاجة لي به, فهذا طريقي في الحياة وانا التي اخترته, وانا اقوى من الظلم والاضطهاد ويجب ان اكمل المشوار. اذار 2007