التاريخ يتكلم الحلقة 127 الحب يطرق قلبي وانا في الغربة
في نهاية شهر آب 1976 كنت بدورة نسائية في بغداد، واذا بي ازف باجمل خبر في حياتي والذي كان املي وكل طموحي، وهو انني مقبولة بزمالة دراسية في موسكو ويجب علي ان اترك الدورة والسفر الى الموصل فورا، لتهيئة اوراق السفر، ويجب ان يتم كل ذلك بكل سرية وحذر. وكانت فرحتي لا توصف والدنيا كلها لا تسعني. سافرت الى الموصل ولكن تفكيري كله منصب امام العقبة الكبيرة وهو حصولي على اجازة، وبالذات من الدكتور عميد الكلية الذي يقف امام طموحي كالسد الكبير. ولكن ارادتي كانت معي، وكان عميد الكلية يومها في اجازة وقد جاء بدلا منه استاذ آخر لا يعلم عني أي شيء لانه كان التحق بالجامعة حديثا ، وكم كانت دهشتي للصدفة البحتة التي خدمتني فيها الظروف وتيسر عملي في تحقيق هدفي . . وبالفعل دخلت على الدكتور الجديد الذي لا يعرفني، مقدمة اجازتي" بدون راتب" له وسألني لماذا السفر؟ اجبته بان والدتي مريضة في لندن وقد انتهت فترة علاجها وهي غير قادرة على العودة الى الوطن بمفردها وسفري هو لمصاحبتها للرجوع الى الوطن، وكاد قلبي يقفز من بين ضلوعي وانا اشاهد الاستاذ يوقع ويختم على اوراق طلبي للاجازة، وبدأت تحضير مستلزمات السفر والملابس. وكان الحوار حارا وساخنا يومها بيني وبين والدي من اجل الشاب الذي تقدم لخطبتي وانا غير مبالية بالموضوع، لانه كان يملك جميع المواصفات التي تريدها المرأة في الرجل، واهلي يريدون لي الاستقرار في حياتي وان اتزوج لان المفهوم القائم في مجتمعنا ان المرأة لا تستقر ولا ترتاح الا اذا تزوجت، وكان والدي يدعم موقفي من السفر وتكملة طموحي وهدفي في الحياة، والدتي كأي ام تريد حياة الاستقرار لابنتها ولكن هيهات ان يقف الزواج حائلا لطموحي بعدما حصلت على الفيزا للسفر والاجازة في يدي. المهم هنا انني قابلت ابو جوزيف الذي كان يريدني ان اتزوج وشرحت له ان المشكلة ليست لرفضي الزواج وانما انني لا اقبل فكرة الزواج وانا طالبة، لان ذلك يعيق تقدمي في المسيرة الدراسية وتحقيق اهدافي والفكرة ارفضها من اساسها. وكان أبي هو الجبل الشامخ الذي اتكيء عليه في مشاوير حياتي، لقد وقف بوجه امي وقال لها دعيها وشأنها ترسم حياتها كما ترغب، لا كما ترغبين انت، انا اؤيد ابناء الناس الغرباء واكفلهم للسفر الى الخارج فكيف الحال عندما تكون ابنتي هي التي تريد ذلك وخصوصا انا اريد ابنائي جميعهم ان يحصلوا على اعلى المستويات العلمية، خضعت والدتي للامر وانا مستمرة باجراءات السفر واخبرتها ان تكتم السر، والدتي كانت تتأمل عودتي من المطار لان هناك منع علي من السفر من قبل البعثيين ولكن حلمها لم يتحقق، ودعت اخوتي المرحوم باسل طالب في كلية العلوم، سلام طالب في كلية الزراعة سفر مدرس الفيزياء لاخبارهم عن سفري. اخذت الفيزا السوفييتية يوم 6/9 في بغداد، ابرقت الى والدي، حضروا يوم 7/ 9 في بيت خالتي مريم، وفي فناء دارهم حضر ابن عمي, بولص وخالتي وارينة وبعض الاقارب للتوديع، كنت فرحة جدا ولكن هناك خوف داخلي من ان يرجعوني في المطار. ذهبنا صباحا الى المطار، الطائرة تقلع في العاشرة صباحا ونحن قد بكرنا قبل ساعتين، والدي كان حزين لفراقي ولكنه في الوقت نفسه مسرور لكي احقق طموحي، قبلت اخي الصغير ازاد كثيرا لاني كنت قد ربيته وكنت على علاقة قوية به اكثر من باقي اخوتي، والدتي تطلب في قلبها ان يرجعني ضابط الامن لم يتحقق حلمها، دخلت قسم المخابرات وتسلم الضابط جواز سفري ورن الهاتف حينها في غرفته، وفي غفلة من الزمن والصدف العجيبة التي تتفق ببعضها احيانا في خدمة الانسان، لم ينتبه الى قائمة المنع، وختم جوازي، وانا غير مصدقة لما يحدث، هل انه حلم ام حقيقة؟ خيال ام واقع؟ لااعلم ارقص اغني لست ادري كيف واعبر لكن لازال الخوف ينتابني ربما احدا من البعثيين في الطائرة يعرفني واتوقع ان ترجع الطائرة كلها لارجاعي ، عندما شاهدت والدتي عبرت ضابط الامن بنجاح انفجرت دمعتها . المهم اني دخلت الطائرة وانا فرحة جدا، ورغم حبي لعائلتي كان حبي لتكملة العلم اكبر، وفي الطائرة رأيت الدكتور(م. ح) جلست بجانبه وسألني هل انت ذاهبة الى الدراسة وقلت له كيف علمت بذلك؟ قال اعرفك سياسية نشطة وخيرا ما فعلت، لان البعثيين كانوا سيقضوا عليك ويشلوا نشاطك باي وسيلة وبأي ثمن وهذا هو الحل السليم لك، السفر وتكملة الدراسة، حيث كان من الاساتذة الذين وقفوا بصفي في بعض المشاكل التي كانت تواجهني داخل الجامعة، وصلنا موسكو يوم 8/ 9/ 76 جاء الكمسمول للقائنا، اخذني الى فندق للطلبة بعد اسبوع سافرت الى احدى الجمهوريات الاسلامية الشرقية وهي جمهورية ادْربيجان متوجهة الى معهد النفط وهو الافضل للجيولوجيين في الشرق الاوسط وربما في اوروبا.بدأت حياتي الجديدة، كل شيء حولي جديد، لا اعرف احدا، فراق الاهل والاقارب، اللغة التي هي المشكلة العظمى بالنسبة لي لم اعرف كلمة واحدة روسي ، سافرت في القطار 50 ساعة وصلنا العاصمة باكو الساعة العاشرة ليلا، اخذنا الكمسمول الى معهد النفط، وضعوني في غرفة شريكة لفتاة روسية اسمها تانيا.
بدآت الدراسة في اذربيجان يوم 16 –9 –1976 بعد ان حاولت جهدي الحصول على غرفة مستقلة لي لانني لا اريد غرفة مع شريك فانا ادرس بجد ومثابرة لذلك فان الخلوة تفيدني جداً. بدآت التعرف على العراقيين شيئاً فشيئاً ذلك مهم بالنسبة لي لانني جديدة على هذا البلد الغريب ,في كل شيْ , وبالفعل بدآ العراقيون يقدمون لي المساعدة التي كنت في امس الحاجة اليها .
سكنت قسم طلبة الدراسات العليا في الطابق الثاني وكان الطابق الخامس للطالبات السوفيتيات القادمات من القرى والارياف وعدد من الروسيات . كان احتكاكي بالسوفيتيات قليلا في البداية بسبب العائق اللغوي , تقريباً , فكل الذين كانوا يزورونني هم من الشباب العراقيين, زملائي , وعدد من الطالبات العربيات . شخصوا لنا معلمة للغة الروسية , اديبة جعفروفنة , مع طالب عراقي آخر يدرس الدكتوراه . كنا اثنين ندرس اللغة يومياً من الثامنة صباحاً حتى الثانية بعد الظهر نذهب الى المعهد ونرجع لنكمل دراستنا .
اللغة صعبة جداً والغربة اصعب والحياة داخل الاقسام الداخلية متعبة جداً فلابد من تجهيز كل شيْ بايدينا من غسل ملابس واعداد وجبات الطعام وغسل الاطباق والتسوق وتولي الامور البيتية . بعد ثلاثة اشهر من تعلم اللغة لاحظت نفسي اتطور بشكل بطييْ . استفسرت من معلمتي وانا اكاد اجهش بالبكاء عن هذا الوضع , وتصورت انني لا استطيع تعلمها لصعوبتها . فأتاني الجواب الذي كنت ارجوه باعماقي وهو انه لابد من الصبر والمثابرة لتعلم هذه اللغة فبطىْ التعلم هو القاعدة لجميع الطلبة الجدد , ولا مشكلة ابداً في الموضوع . ووجدت ما كنت افتقده في بلدي الام , العراق, وكم عانيت منه هناك , "وهوالاحترام القائم بين الطالب والاستاذ حتى تصل العلاقة الى صداقة بين الطالب والاستاذ , ويتابع الاستاذ الطالب في حياته الاجتماعية ويسآل عن عائلته وقابلياته وهذا ما كنا نتوق اليه في بلدنا بدل العلاقة الفوقية بين الاستاذ والطالب داخل اسرار الجامعة العراقية وياللاسف وجدناه , خارج حدود بلادنا العزيزة وهذا ما يحز بالنفس ويخلف الماً عميقاً لدي."
طرق الحب باب قلبي لاول مرة في حياتي , احببت بعنف وبعمق احساساتي المرهفة ومشاعري البكر سكبتها في كآس حبي هذا . كان شاب عراقي طيب ولكن الصراع والخلاف بيننا منذ الايام الاولى لحبنا يبعدنا عن بعض . احببته بكل جوارحي ومن صميم قلبي وكنت احس انه يبادلني نفس المشاعر وبالقدر ذاته , الا انه كان يشك بحبي له ولا يثق به. الشخصية العراقية مكرسة فيه يوم افاجأ بعنفوان وغضب ويوم اخر بمنتهى الرقة والسلام والتواضع , يحب الموسيقى ويعزفها . كنت اعرفه من ايام الجامعة في الموصل الا ان معرفتي به حيندْاك كانت ضعيفة وسطحية , واقول للحق كان خطئي انني لم ابح تلك المشاعر الجياشة التي كانت عميقة في احشائي تجاهه كنت اتكابر على الحب واضمه في صدري كنت اخجل ان ابوح بحبي الطاهر له وهنا يكمن التخلف الدْي كنت اعاني منه حينها . عادات وتقاليد شرقية متخلفة كنت احملها وامارسها في حياتي وعليه كلانا يتحمل مسؤولية فشل هدْه التجربة التي اقول عن نفسي انني دفعت ثمنا غاليا عنها في حياتي بالاضافة كنت ضعيفة التجربة بهدْا المجال لا بل فاشلة , وكانت هذه هي العلة والصخرة الاساسية ايام تيار حبي الجارف. كنا نلتقي لنفترق ثانية , ونفترق لنلتقي من جديد وفي كل مرة نواجه نفس االمشاكل والصراعات ,كل مرة نقرر ان نجعل الامور تسير بشكل صحيح , ونحاول ان لا نفترق لكن للاسف كان زميلي يسمح للطلبة الاخرين ان يتدخلو بيننا , وفعلا بذلوا قصارى جهودهم ان يبعدونا عن بعضنا وان يفسدوا علينا حبنا الطاهر . لكن لم يفطن , للاسف لذلك , كان كاي رجل شرقي لا يحب ان تكون المرآة اقوى منه شخصية . وطيلة فترة صداقتنا لم يكن لي صديقة احدثها عما يدور في داخلي من صراعات وهموم . اعيش في دوامة بين العواطف والاحساس الغريب , لما يجب ان نواصل صداقتنا ؟ وبعدها اجب لنفسي اني احبه قبل كل شيْ . بعد فترة اصبحت قريبة لصديقة لي هي امال الربيع طالبة في كلية طب الاسنان فلسطينية من لبنان , حدثتها بما في اعماقي من هموم , اخذت صديقتي تعطي جزء من وقتها لي . مما كان يخفف من الامي قليلا . لا اود ان اطيل بهذا الموضوع سوى ان اقول اني خضت تجربة فاشلة . لذلك قطعت علاقتي بصديقي تماماً . كانت بالنسبة لي صدمة عاطفية قوية لا استطيع وضعها على الاوراق . ايام عسيرة في الغربة , الشعور بالوحدة اخذ يراودني ,والحنين للاهل والاصدقاء والاقارب اصبح من الضروريات لي , لكن ليس من مخرج سوى الانكباب على طاولة المذاكرة لساعات طويلة . لغاية ان خرجت من باكو 1982 ايلول لم التقي به الا مرات قليلة ولم نكن لوحدنا بل مع مجموعة الطلبة . غادرت باكو دون حتى ان يودعني . غادرت بطريقي الى كردستان ولم اسمع عنه شيئأ ولم احاول ان اعرف عنه . عندما كنت اتذكر الايام الصعبة التي عشتها معه احس انني بطلة تجاوزت تلك المرحلة دون ان تسبب اعاقة لدراستي . هذا ما كنت اطمح له . بعد رجوعي من كردستان 1989 ايلول التقينا في الجزائر فلم اصافحه , تصور اني حاقدة او انني كارهة له . هذا ما كنت اتظاهر به , لكن الحقيقة كانت ان قلبي كان يحتفظ بذلك الحب الطاهر الذي عرفته يوما وما زال باقياً رغم كل السنين , وما حدث كان رغماً عنا , بل لانه خان العهد , بالاحرى . ولحد يومنا هذا لم التقي به ثانية ولا ارغب ان اعرف عنه شيئا. ظل يعيش في احساسي سنين طويلة . لكن الان لا اتذكره اطلاقاً . اشعر انه فلم سينمائي مرّ في حياتي وانتهى , لا ضرورة لمشاهدته ثانية .تجربة فاشلة عشتها وانتهت , كما تنتهي حياة اي انسان . ولو لقيته في يوم من ما سيكون لقاء بارد . ربما اسلم عليه كصديق غير مرغوب به . ديسمبر 2007