التاريخ يتكلم الحلقة 50 خمسة ايام الى لولان 1985
خريف 1985 ، وانا في كلي حصبة الفوج الثالث ، استلمت برقية استدعاء الى القاطع للتهيؤ للذهاب الى لولان. في اليوم الثاني انطلقت مع اثنين من الرفاق الى القاطع والمسافة تستغرق مسيرة يومين من السير في النهار. تحركنا في الصباح ووصلنا يكمالا-هيس، قصدنا بيت كوركيس الاثوري فاستقبلنا اهل الدار بحفاوة بالغة وقدموا لنا وجبة العشاء. كان الرفيق خيري من كاني ماصي (انوني باللغة الاثورية ) واخي ازاد احد الموجودين معي حمل حقيبتي (العليجة) كانت ثقيلة، فقد كانت مثقلة دائما بالكتب. كنت انهمك كلما اتيح لي في القراءة، والكتابة عن اوضاع المرأة القروية في الاراضي المحررة، وهي التسمية التي كنا نطلقها على الاراضي والمناطق التي لا تتواجد فيها القوات الحكومية.في اليوم التالي انطلقنا مبكرين من الهيس الى القاطع فوصلناه الساعة الخامسة عصراً. سألني الرفيق المسؤول ابو جوزيف عن سبب التأخير وقال: سبق ان ارسلنا رسالة لك الى كلي حصبة نطلب منك فيها المجيء فورا. اخبرته بانني لم استلم شيئا. اخذنا حماما في الليل. وعندما عدت الى غرفة الرفيقات وجدت كتابا لماركيز، فانشغلت بقراءته. في اليوم نفسه ابلغني المسؤول ان اكون على اهبة الاستعداد للتوجه الى لولان. كان كل شيء يجري بسرعة، وانا لا ادري ما الامر. بعد يومين ابلغني الرفيق ذاته بانه غدا في الرابعة فجرا سيناديك الحرس للنهوض وتكون المفرزة جاهزة للتوجه الى لولان فعليك ان تكوني متأهبة ودون ان تسألي او تعلقي على أي شيء. كان الامر في غاية السرية. استيقظت صباحا فوجدت المفرزة جاهزة برفقة ثلاثة بغال محملة بالامتعة منها المستلزمات الضرورية للرفاق واخرى معلبات وارزاق جافة نحتاجها في الطريق الذي يستغرق 6 ايام، كان جميع افراد المفرزة من فصيل "المستقل".
لولان 1985
كان المسؤول السياسي لهذه المفرزة الرفيق ابو زكي، القيادي الذي يقضي معظم وقته في الكتابة، لا يفارقه القلم والورق، ويتكلم ويعبر عن وجهة نظره دون تحفظ. له آراء وافكار سياسية قديمة، فهو يعتقد انه يجب المحافظة على تلك الاساليب اذ لا مناص لنا من ذلك لعدم قدرتنا على تغيير الوضع السياسي القائم في الوقت الحاضر. اكمل الرفيق ابو زكي تحصيله العلمي في بلغاريا وهو متمسك بالتفسيرات القديمة الايديولوجية التي لا تتماشى وروح العصر.
اما آمر المفرزة العسكري الرفيق ابو عبير رفيق عربي ودليل المفرزة الرفيق سامي عربي من الجنوب. شاب شجاع يتقد حيوية ونشاطا لا يستسلم للتعب والارهاق. يرافقنا في تلك القافلة الصغيرة الرفيقتان نادية، زوجة الملازم ازاد، ورفيقة اخرى ام وهاب مع زوجها . ابتعدنا عن المقر كثيرا، وعندما حان موعد الفطور جلسنا في استراحة لنصف ساعة في كلي منزوٍ بعيدا عن القرى. واصلنا مشوارنا صعودا ونزولا في متاهات تلك الجبال الشاهقة، الوعرة، نسلك الطرق غير المطروقة لتلافي اكتشافنا من قبل الناس في تلك الاصقاع. وصلنا الى قرية صغيرة، وكنا اعتدنا ان نتزود بالخبز من تلك القرى. لم يكن ثمة من يتكلم الكردية غير دليل المفرزة الرفيق سامي، وبلهجة سورانية وليس بهدينانية، اما انا فكنت اتكلم الكردية البهدينانية، ذهبت الى مختلف الدور لطلب الخبز، فكان كل بيت يزودنا برغيف او رغيفين. كان عددنا (17) شخصا فجمعت ما يقارب (15) قرصة وابتعدنا عن القرية.
اخذنا قسطا من الراحة بحدود الساعتين، انزلنا حمولة الحيوانات لترتاح وتستطيع المواصلة. بعد الاستراحة واصلت قافلتنا المسير بنفس الاتجاه، كنا حريصين ان لا نتكلم الا فيما ندر وعند الضرورة وبصوت خافت.
ساد جو من الالفة بيني وبين الرفيقة نادية وزوجها. كنا معا منذ بداية الطريق، وعندما وصلنا قرية لا اعرف اسمها، توزعنا على بيوتها التي كان سكانها يوفرون لنا العشاء والمنام، وغالبا ما يكون النوم في نفس غرفة الاسرة، يفرشون لنا في مكان معزول عنهم، ونطلب منهم ايقاظنا في الخامسة صباحا لنواصل المسيرة، بعد ان يزودوننا بالخبز. منهم من كان يتبرع بالخبز مع الجبن الابيض ومنهم من كان يزودنا بالخبز فقط، فذلك يعتمد على وضع العائلة المادي اولا، ومدى تعاطفها مع المعارضة، ثانيا، وبصورة عامة فهم يعيشون في فقر مدقع، مصدر رزقهم الوحيد هو الفلاحة وفي موسم الغلة او الحصاد يمنعون من تصدير منتوجهم خارج منطقتهم. وهذا الحصار الاقتصادي الذي فرضه عليهم صدام حسين واعوانه كان يؤدي الى تلف محاصيلهم وخسارة جهود ومنتوج عام باكمله، ويبقى الفلاح الضحية يعاني من ضنك العيش ولو سنحت الظروف فان المنطقة الشمالية كان بامكانها ان تدعم اقتصاد بلد بكامله من مختلف المحاصيل الحقلية والفواكه ومنتجاتها. احيانا كثيرة كان الفلاح يترك محصوله يتلف تحت الامطار لانه لا يستطيع خزنه لوفرته.
في الصباح استيقظت ربة ذلك البيت ونادت علينا (كجي، كجي) (ايتها البنات) انهضن فقد حان وقت الرحيل. ربطنا الاحزمة العسكرية والحقيبة (العليجة) على ظهرنا والبنادق على اكتافنا، وانطلقنا للقاء رفاقنا في اماكن تواجدهم. واصلنا السير حتى الثامنة صباحا اعقبتها استراحة الفطور لفترة نصف ساعة ثم اتجهنا نحو الجبل، وكنا حينما نرفع رؤوسنا للبحث عن قمته يصيبنا الدوار من فرط ارتفاعه، ولكن من كانت تبدر منه اية اشارة توحي بالتقاعس او الخوف او الانهيار، فهنا تكون نهايته سياسيا، اذ لا مجال لذلك على الاطلاق. المكابرة والتظاهر بعدم الاكتراث بتلك المعوقات وذلك الارهاق او المرض هي من علائم البطولة عندنا.
وصلنا حافة جدول ماء ينساب هادئا صافيا، حط رحالنا عنده وملأنا الاباريق بالماء لعمل الشاي. تناولنا الشاي ونحن نراقب تلك الشمس تلفها الغيوم. كنا نتمنى ان تكتسح تلك الغيوم التي تنذر بالمطر. بعد استراحة لابأس لها وبعد ان بعث ذلك الشاي الدفء فينا بدأنا الحركة في الرابعة بعد الظهر، ووصلنا الى قرية اخرى في الساعة السابعة مساء. توزعنا في القرية القريبة. نمنا الليلة وانا اشكو من آلام في بطني، في الصباح سألتني الرفيقة نادية: ماذا تحتاجين؟" سوف نسأل الرفاق باخذ العليجة منك ووضعها على البغال"، رفضت ذلك لحاجتي الى المناشف والملابس الداخلية اثناء الطريق. كما انه قد يعتبر اعاقة للمسيرة ولا يمكن اظهار اية نقطة ضعف من قبل اية من الرفيقات، اذ يجب ان تكون بمستوى الرفاق في سرعة الحركة وقابلية التحمل، والا فهي لا تستحق ان تكون في صفوف البيشمركة، وكانت هذه النقطة بالذات مثار صراع ونقاش حاد بين الرفاق حول جدوى انخراط الرفيقات في تلك التشكيلات الثورية. كان موقف كل رفيق يستند الى تقييمه الشخصي لدور المرأة في كافة انشطة المجتمع ومنها النضالية، وبشكل عام فان الرفاق المثقفين او القادمين من الخارج، كانوا مع زج المرأة في مثل تلك التجربة، يؤيدون تواجدها مع البيشمركة ويحترمون تضحيتها ويقدرونها. سواء كان ذلك على صعيد الاسرة او صعيد الكفاح، اما القسم الآخر فيعتقد جازما ان المرأة خلقت ضعيفة، لا تصلح لان تكون مقاتلة، وطبيعتها العاطفية لا تسمح لها ان تكون قوية لمقاومة الظروف الصعبة ، كما ان قابليتها على التحمل لا تقارن بالرجل، وهي لا تقوى على حمل السلاح الثقيل ولا يمكن تكليفها بمهمات شاقة كحمل الاحجار للبناء او الحفر او الصمود في الاجواء القاسية وسط الثلوج والامطار والعواصف، وغير مستقرة في مأوى متنقلة من سكن الى آخر مع اناس غرباء تتحمل الجوع والعطش والحرمان وتنسى انوثتها ورقتها، هذا النقاش كان يطرق مسامعنا كل يوم، نحن الرفيقات كنا ندافع عن انفسنا ونبرهن على اننا جديرات بتحمل المسؤولية بالصبر والمشاركة الفعالة في كل ما يتطلبه الموقف من جرأة وبسالة ونكران ذات جاهدين في ان نستأصل ذلك الانتقاص من قابليات المرأة حتى وان كان في مثل تلك الظروف وتلك الرحلات الطويلة كرحلتنا هذه التي يمكن ان تؤدي بسبب صعوبتها الى تخلف المرأة عن الرجل وعجزها عن مجاراته.
بقيت اتحسس الالم في بطني ونادية تسألني كيف احوالك؟ فاقول ان الامور تتطور بما لا يليق في هذا الظرف الصعب لذا كنت احاول ان اكون في مؤخرة المفرزة. كنا نسير على شكل نسق الواحد تلو الآخر وفي بعض الاحيان، اثنين اثنين، يعتمد ذلك على خطورة الوضع عسكريا، هذا اولا، ومن ثم على طبيعة جغرافية المنطقة ففي صعود الجبل والنزول منه نكون واحدا بعد آخر، اما في السهول والهضاب فنكون اثنين اثنين.
في اليوم الثالث واصلنا السير حتى وصلنا نهر شين الساعة الرابعة مساء، سمي بهذا الاسم لان مياهه بلون ازرق تعكس لون الاحجار الزرقاء في قعره. عبرنا النهر سيرا على الاقدام، زوجاً زوجاً، خوفا من ان يجرفنا تياره القوي. ابتلت ملابسنا قليلا، والجو بارد ولكن قدرتنا على التحمل كانت اقوى من البرد. واصلنا الطريق بملابسنا المبتلة. البرد يقرصنا والظلام يتبعنا.
بينما نتبع في اليوم الثالث الروتين ذاته، بدأنا السير اول النهار وامامنا منطقة خطرة كان علينا اجتيازها في الليل اذ تتواجد فيها ربايا عسكرية للنظام، كنا على وشك الخروج من الحدود العراقية لندخل الحدود التركية، ففي القسم الجنوبي للجبل تتواجد القوات النظامية العراقية وتشرف عليه وليس بامكان أي فرد اختراق تلك المنطقة الحدودية نتيجة القصف المدفعي او الاسلحة الاوتوماتيكية او الطيران، لذا كانت المفارز تتجنب الربايا وتسير في الجزء الجنوبي من الجبل. كان علينا في هذه الحالة خرق الطريق من الجهة الشمالية وراء الجبل. مضت ساعات طويلة وشاقة وانصرم يوم، واكثر من نصف نهار آخر، ونحن نسير في الاراضي التركية. عبرنا الحدود في الحادية عشرة مساء، دون احداث ضجة او صوت، كان صمت رهيب يطبق علينا فلا نسمع حتى وقع اقدامنا، والشعور بالخوف والاحباط بدأ يتسلل الينا. في الثانية عشر ليلا وصلنا الى (الحجي علي) وهو شخص تركي يسكن مع عائلته منعزلين في ذلك الكلي المنزوي، لم يكن لديه سوى غرفة صغيرة فيها قليل من الافرشة القديمة، ينام عليها البيشمركة، وغرفة اخرى لعائلته. قضينا بقية الليل هناك ونمنا في امان، في منأى عن الحكومة العراقية او التركية، في السابعة صباحا نهضنا منهكين بعد تلك المسيرة الطويلة التي استغرقت 10 ساعات يوميا في منطقة جبلية بالغة الوعورة. كنا نتسلق الصخور ونقتحم الغابات والاحراش، والخوف يرافقنا طوال الطريق من الجهتين من الربايا العراقية والتركية .
بدأنا مشوارنا متأخرين في حدود التاسعة، في الواحدة وصلنا قمة جبل لا اعرف اسمه، خلدنا الى الراحة قليلا، الجو بارد والشمس تحجب عنا اشعتها الدافئة، والغيوم تلامس حوافي الجبال وتتزاحم مع بعضها البعض فتشكل سحابات ذات ظلال كثيفة تعكس، مع كثافة الغابات ذات الاشجار الباسقة المنتشرة هنا وهناك، لوحة لطبيعة خلابة قل مثيلها. لكن من يستطيع التنعم بذلك الجمال؟ اننا نتلقى من الطبيعة قساوتها ونعاني من تقلباتها الحادة حتى فقدنا الاحساس بالمتعة والانشراح، التعب والارهاق جعلانا نفقد القدرة على الاحساس بالطبيعة الخلابة. تناولنا وجبة الغداء وواصلنا مسيرتنا، تقدمنا الاتجاه ذاته، وحين ادركنا الليل، توزعنا في قرية صغيرة، كل ثلاثة في بيت واحد. طقس بارد يقابله شحة في الافرشة ولكن المدفئة الخشبية، كانت تجعل الجو دافئا حتى تصبح الاخشاب رماداً، فيعاودنا البرد مرة اخرى ليشتد في الصباح حين ينتهي الوقود.