التاريخ يتكلم الحلقة 43 ( نامي جياع الشعب نامي حرستك الهة الطعام )
المطالبة بالتغيير على كل لسان ولكن الرؤى المستقبلية قاتمة فلا نستطيع التخمين ان كان المستقبل يوفر لنا الافضل او عكسه. اضافة الى تلك المعضلات الجسام فان الوضع الاقتصادي في كردستان مترد وخانق، فقد فرض النظام حصارا اقتصاديا على كردستان يمنع فيه بيع المنتجات الزراعية والفلاح يعتمد كليا في سد رمقه على بيع محصوله في الخريف، اينما توجهت لا ترى غير الفاقة والفقر المدقع بين سكان تلك القرى، وفي طريقنا اليها نشاهد الاطفال المتضورين جوعا يبحثون عن الخبز ولكنهم لا يجدونه، ولا أي شيء يؤكل. انها سياسة الارض المحروقة بعينها. مررت احدى المرات بعائلة لديها سبعة اطفال لم يكن لديهم ما يقتاتون به لوجبة العشاء، والتي لا تزيد في احسن الاحوال عن الخبز والشاي. كان لديهم شاي ولكن من دون خبز. ناموا جياعا. ينادون: " نان، نان " أي " خبز، خبز" ولكن من اين؟ لقد آلمني ذلك المنظر، كان بحوزتي 10 دنانير عراقية، فاعطيت الام خمسة منها لتشتري الطحين لليوم الثاني. شكرتني ورجعت للاطفال تبشرهم وتعدهم بانها ستشتري الطحين وتخبزه غداً، فاصبروا يا اولاد هذه الليلة على الجوع! قلت في نفسي صدق الشاعر حين قال (نامي جياع الشعب نامي حرستك آلهة الطعام) (للشاعر العربي الكبير محمد مهدي الجواهري).ليس هناك من يوضح للناس كيف ابتلينا بزمرة من حكام لا يجيدون غير القتل والتنكيل، ولا كيف وصلنا الى ذلك الدرك؟ وكيف وضع الحبل في رقابنا وتم اقتيادنا بتلك الطريقة حسب رغبات الطاغية دون ان تستطيع المعارضة ان تفعل شيئا غير المراوحة في مكانها، او التناحر والاقتتال فيما بينها الذي حد من قدرتها على التصدي الفعال للنظام الذي لا مثيل له في التاريخ. على من يلقي الشعب اللوم؟ على السلطة الفردية المطلقة التي لا ترحم حتى الذين في ارحام امهاتهم؟ ام على المعارضة التي اضاعت فرصاً ذهبية وسنوات طويلة من الكفاح المرير سدى لتزيد من آلام ومعاناة الشعب العراقي؟ هذه الخواطر وغيرها تتصارع وتطفو على السطح في كل مناسبة.
بعد اعلامنا بوصول المفارز التي غادرتنا الى قواعدها بسلام، فرحنا كثيرا واستلمت رسالة من الرفيق كاوا ارسلها مع الرفيق كفاح يشكرني فيها لما قدمته له من خدمات عندما كان ورفاقه مرضى، ذكر لي فيها عبارة محددة جدا: يا د. سعاد اعدائي ثلاثة هم (صدام والشمس والنار)، يعني ان صدام عدونا الدائم، الشمس تسبب الالم والالتهاب لعيوننا المصابة والدخان المنبعث من الاخشاب يهيج اجفاننا).
نحن في مقر زيوة ثانية، رجعنا لغسل وتنظيف كل الافرشة والملابس الملوثة بالكيمياوي انه موسم جمع الحطب وتخزينه اتقاءً لبرد الشتاء. والعملية تلك صعبة ومرهقة اذ تحتاج الى قطع الاشجار بمنشار كبير ذي محرك يعمل بالوقود (البنزين) ومن ثم ينقل الرفاق على اكتافهم الخشب لمسافات تزيد على كيلومتر احيانا، ثم تبدأ عملية (التحطيب) وهي قطع الخشب الى قطع صغيرة لنتمكن من ادخالها في المدفأة المعدنية (وهي عبارة عن برميل صغير يتصل به انبوب يمتد الى السقف ليخرج منه الدخان الى الاعلى، وتلك المدفأة البدائية لا تعدو عن صفائح رقيقة تربط مع بعضها بشكل اسطواني قطره نصف متر) وهي وسيلة التدفأة الرئيسية في كردستان، وعملية الاعداد هذه شاقة ومملة وتستنزف جهدا عضليا كبيرا في عملية تقطيع الخشب وجمعه ونقله وتستغرق اشهر الخريف لتأمين الوقود للشتاء.
اخذت الامور تستتب تدريجيا وترجع الى وضعها السابق قبل الضربة، وقبل مغادرتنا موضع الدوشكا وفي قمة ذلك الجبل وكان مضى على ضربنا بالكيمياوي اكثر من اسبوعين، خضت تجربة انسانية عشتها بتفاصيلها وما زلت احلم بها دائما، انها اصعب ولادة شاهدتها في حياتي، وتعكس مدى تضحية الام وعاطفتها العارمة لوليدها رغم تلك الظروف البالغة الشقاء والتعاسة.
ففي منتصف الليل نادتني ام مجد واخبرتني بان ام بدر تعاني طلقات الولادة ونقلت الى (شكفتا) القيادي ابو داود شكفتا محصنة فربما تلد هناك فهي امينة اذا تعرضنا للقصف الجوي او المدفعي، ام بدر لا تستطيع الحراك لذا من الضروري ان تبقى في مكان آمن. ذهبت عندها في منتصف الليل لاجد الرفيقة ام مجد مع صمر والدكتورابو تضامن قد ذهبوا لنجدتها. كانت ام بدر تتألم وتعاودها طلقات الولادة ولكنها لا تقوى على دفع الطفل. استمرت تكافح حتى الصباح حتى اضطر الدكتورابو تضامن الى اعطائها المغذي عن طريق الوريد وزرقها بموسعات الرحم لتسهيل عملية الولادة. ظل الطبيب يتابع محاولاته دون جدوى. ونحن منهمكون وقلقون على وضع ام بدر، اذا بصوت المدفعية يدوي في الكلي. وام بدر في صراعها مع الالم، ومحاولاتها الاستجابة لما يبذله الطبيب من جهود، طغى عليها الهلع والخوف وبدأت تسأل عن مصدر القصف المدفعي. طمأنها الدكتور ابوتضامن واجاب نعم انها المدفعية، ولكنها بعيدة ولا داعي للقلق انك في مكان امين. حاولي ان تجمعي كل ما اوتيت من قوة وركزي للضغط على الطفل لينزل. اجابته : نحن في العائلة نربي الطفل في الرحم جيدا بحيث يصعب علينا طرحه لكبر حجمه انه امر متوارث بين والدتي وشقيقاتي، لذا اتوقع ان يكون طفلي بنفس المواصفات رغم كونها اول ولادة لي". قطع ذلك الحوار دوي الانفجارات الناجمة عن القصف من مديات قريبة. كان لزاما علينا ان نهديء من روع ام بدر والطبيب يهدئها فيما نحن نشد من ازرها ونحاول رفع معنوياتها، لكن التعب والاعياء تغلبا عليها وسيطر عليها النعاس ورغبة شديدة في النوم. كانت تستعطف الطبيب ليدعها تنام، ولكنه لا يسمح لها بذلك البتة، وهو مستمر في زرقها عن طريق المغذي بحقن الولادة الصناعية. اخذت تصرخ من الالم الذي سببه المغذي في يدها اليسرى وطلبت من الطبيب تحويله الى اليد اليمنى فاستجاب الطبيب. كنا نتناوب، فكل ساعتين تجالسها رفيقتان تتحدثان اليها بمختلف المواضيع لرفع معنوياتها وابعاد شبح النوم عنها، نسألها ماذا ستسمين مولودك؟، وكأنها كانت تعلم بانها لن تقطف تلك الثمرة الناضجة لذلك ما كانت تجيب، كانت تسأل الطبيب بدورها: هل احتاج الى عملية قيصرية وهل بالامكان اجراؤها هنا في مثل هذه الظروف وفي تلك المنطقة الجبلية؟".
انقضى النهار واقبل الليل ونحن نتبادل نوبات الحراسة عليها اثنتان كل ساعتين، بانتظار الولادة، نستعين بضياء فانوس صغير. جلس زوجها على صخرة. امضى النهار كله وهو يدخن السيجارة اثر الاخرى، ينتظر بفارغ الصبر. وكلما خرج الطبيب من الشكفتة كان يهرع لسماع ما يقوله الطبيب، ويستفسر عما اذا كان هناك ما يمكن ان يفعله الطبيب. الدكتور ابوتضامن صارحه بصعوبة الموقف فلقد مضت اكثر من 36 ساعة دون ان يحصل أي تطور. ام بدر مرهقة تماما دون طعام او نوم.
في اليوم الثالث جاءنا رفيق واطلق عيارين ناريين هي الانذار المتعارف عليه بوجود طيران. كان ذلك بدافع تخويف ام بدر وتحفيزها على اكمال الولادة. رفعت ام بدر رأسها: هل هناك غارة؟" فعلا كان رد الفعل قويا بحيث سهل دفع الطفل قليلا. الدكتور حائر في امره لنفاذ الابر الخاصة بالولادة الصناعية فهرع لطلبها من طبابة الاحزاب الاخرى وحصل عليها وعاد مسرورا ونادى زوجها قال له: ايها الرفيق، الطفل لا زال حيا الى هذه اللحظة، ولكن زوجتك، كما ترى، ولادتها عسيرة وربما لا تستطيع ولادته، لذا فهذا آخر احتمال، سوف ازرقها بهذه الابر واذا لم تستجب يجب انقاذ الام والتضحية بالطفل"، زوج ام بدر يرجو الطبيب عدم اخبار ام بدر بذلك فهي متعلقة بالاطفال كثيرا، كانت تنتظر هذه اللحظة وتتمناها وتحلم بها. قال للطبيب: اعمل ما تشاء حفاظا على حياتها." بعد ان يئس الطبيب من كل المحاولات، وحتى بعد زرقها بالابر، التجأ الى عملية سحب الطفل وباية وسيلة. رأس الطفل (فقط فروة الرأس) ظاهرة في عنق الرحم شعره اسود كثيف سرح، فحصه الطبيب فلم يسمع دقات قلبه، اذ بقي رأسه محصورا هناك اكثر من ساعتين فاختنق. اخذ الطبيب ملعقتي طعام محاولا ادخالهما في عنق الرحم، ملتقطا الرأس حتى وصلتا اذنيه ليتمكن من سحب الطفل. وعندما نجح في ذلك وخرج الرأس حارا مزرقا مائلا الى السواد ومدمى، رمى الطبيب الملعقتين وامسك برأس الطفل وسحبه بكل قوته ليخرج من رحم امه. اطلقت ام بدر صرخة مدوية ثم انفجرت باكية، رغم الارهاق الذي عانته لثلاثة ايام متصلة واخذت تصرخ: ابني مات! لماذا؟ ولدي! وطلبت ان تراه. نظرت اليه وهي تذرف الدموع بغزارة، قالت وهي تغص بالدمع: تحملت كل تلك الصعاب لاصبح اما ولكني حرمت من ذلك بعد كل ما تحملته"، جردنا اللقيط صدام حتى من هذا الحق، لا زالت كلماتها ترن في اذني ولن تنمحي الصورة المأساوية تلك من ذاكرتي.
اخذت الرفيقة هدى الطفل ولفته بمنشفة ونادت الزوج ابو بدر ليلقي عليه نظرة، مواسية اياه وقالت: المهم سلامة الام وبامكانها ان تنجب اطفالا آخرين وبظروف افضل"، نظر الزوج بعيون دامعة الى طفله ولاذ بالصمت والسيكارة تحرق يده. كان يدخن ويسحب انفاسا عميقة تعكس مدى معاناته. قال: هل تسمحوا لي برؤية زوجتي" رفض الطبيب قائلا لم انته فانا احاول اخراج المشيمة. ام بدر اصابها الفتور ولم تعد تنتابها الطلقات ولا تستطيع لفظ المشيمة، والطبيب يبذل قصارى جهده، يرتدي الكفوف الطبية ويحاول اخراج المشيمة من ذلك الرحم المرهق. الطبيب يعلق: كان حجم الطفل كبيرا جدا وثقيل الوزن اقدر وزنه باكثر من اربعة كيلوغرامات." الام لا زالت تنحب وتندب حظها وحرمانها من الامومة، دخل عليها زوجها مقبلا اياها من رأسها مواسيا اياها، وهو يقول: بامكاننا ان نعمل طفلاً بل اطفالاً اخرين في ظروف افضل ويجب ان تهتمي بصحتك الآن. انك سالمة وهذا هو المهم."
اخذ الرفيق صامر والرفيقة هدى الطفل وذهبا لدفنه. لم تعد ام بدر تقوى على الحركة او الكلام وتملكتها الرغبة في النوم. كانت تتوسل ذلك من الطبيب، تذهب في اغفاءة وساعداها مزرقان من وخزات المغذي. قال الدكتور ابو تضامن بانه لاول مرة في حياته يعالج شخصا بهذه الجرعة الكبيرة من الابر، انها مجازفة لا بد منها لانقاذ حياة تلك المرأة.
صحة ام بدر اخذت في التردي، اذ بالاضافة الى وضعها النفسي ومعنوياتها المنهارة لوفاة وليدها، اصابها نزيف حاد فاضطر الطبيب لزرقها بموقفات النزيف. فقدت شهيتها للطعام بينما هي تحتاج الى تغذية جيدة للتعويض عن الدم ومعالجة فقر الدم الشديد الذي اصابها. من اين نوفر لها الطعام الذي نفتقر الى ابسط مقوماته؟ حالفنا الحظ في اليوم الثالث من ولادتها اذ قدم الينا فلاح من قرية قريبة مستصحبا ولده المريض ليعالجه الدكتور . طلب منه الدكتور ان يبيعنا دجاجة باي سعر يختاره، فوافق. ركض ابو بدر معه الى القرية التي تبعد ساعتين عن مكان تواجدنا ورجع ومعه الدجاجة. كان قد اشتراها بمبلغ 3 دنانير وهذا مبلغ كبير في حينه، لكن المهم حصلنا على غذاء جيد للمريضة. ذبحنا الدجاجة ونحن مسرورين وقسمناها الى عدة ايام لتتغذى بها. نهيء كل جزء مع قليل من البطاطا المقلية بالزيت (استطعنا توفيرها بمشقة). تحسنت صحة ام بدر قليلا، في اليوم الخامس غادرنا د. ابوتضامن ملتحقا بفوجه بعد ان اطمأن على ام بدر. بعد ايام استطاعت الوقوف على قدميها، لكنها كانت منهارة تواصل البكاء على ابنها. طلبت من الرفيقة هدى ان تخبرها عن المكان الذي دفن فيه. ذهبت معها لتزور مرقده وبدأت تذرف دموعا سخية وتلعن صدام الذي لم يتح لطفل ان يعيش وينطق بكلمة ماما: "جعلك تموت وتدفن في هذا المكان النائي". كانت امنيتها ان تعيش اما لاطفال تستطيع تربيتهم حسبما كانت تتمنى وتحلم. زوجها يحاول شد ازرها ويعمل على رفع معنوياتها للخروج من محنتها تلك، لكنها تعود وتتذكر معاناتها في الولادة وتلك الآلام المبرحة التي لم تثمر شيئاً. من ناحية اخرى كانت تعزي نفسها وتقول ما فائدة ان ننجب طفلا ونربيه ليقضي عليه صدام ويبيده بالكيمياوي كما تباد الحشرات..؟
ويصبح موضوع الانجاب والولادة حديث الساعة بين الرفاق. فمنهم من ينصح بالتعقل واتباع اساليب الوقاية في مثل تلك الظروف القاهرة لتلافي الولادة "العسكرية" كما كنا نسميها، هذا ثم ان الاطفال المولودين في مثل تلك الاجواء يعانون، على الاكثر، من عاهات، اما نتيجة سوء تغذية الام، وما تلاقيه الام من صدمات ورعب اثناء فترة الحمل، او لعدم توفر المستلزمات الصحية الضرورية للوضع. فنحن نعيش في ساحة قتال وتنقصنا كل مستلزمات العناية بالطفل والام. ضممت صوتي الى الذين يرون تأجيل طموحات الاباء والامهات في الانجاب، تلافيا لانجاب جيل من الاطفال المعاقين والمشوهين. الا انه كان هناك رأي مغاير تماما لذلك التحليل العلمي والواقعي، هو ان الوالدين لديهم الحق في تحدي كل تلك المعوقات والانجاب، لكن ذلك باعتقادي، مغامرة غير محسوبة النتائج وجهل بالواقع الصحي الذي تعاني منه المرأة، وينعكس، بالتالي، على الطفل والمجتمع، كانت الرفيقة نادية زوجة الملازم ازاد متفقة معي في وجهة النظر تلك، ولكن ما العمل تجاه المتوارث من العادات والتقاليد البالية التي يسودها عدم التبصر؟ وكيف يمكن لجم الميل الغريزي لدى الآباء والامهات للانجاب والتكاثر وتكوين اسرة، رغم كل المصاعب؟