Skip to main content
التاريخ يتكلم 41 كلي زيوة تحت الغزو الكيمياوي الصدامي Facebook Twitter YouTube Telegram

التاريخ يتكلم 41 كلي زيوة تحت الغزو الكيمياوي الصدامي

بهدينان، كلي زيوة / آب 1987
جبال شامخة القمم ناتئة الصخور، شديدة الانحدار، تقودك احيانا الى وديان سحيقة قد تكون مجرى لمياه رقراقة، تتناثر هنا وهناك اشجار البلوط او بقايا كرمة مهملة او تينة هرمة. وبين تلك الاودية وسفوح الجبال اطلال كثيرة لقرى سويت بالارض، واعمل في اهلها القتل والتنكيل. اكوام من الصخور ركن اليها بقايا حائط او سطح منهار، تتوسطها او تحيط بها اشجار كالحة. عيون الماء ردمت والحقول احرقت والخراف والدواب سرقت، اي طريق سلكت واية ناحية توجهت لا تلقى غير الخراب والدمار. الانهار تجري حزينة والطيور تهاجر، والنسمات العليلة تغدو ثقيلة تصيبك بالدوار، انها كردستان العراق بقوامها الكردي والكلداني الاشوري والارمني ، ثكلى جريحة خائرة تصيح ولا من مستغيث.
شعاع الشمس الاخير اوشك ان ينسحب خلف تلك القمم. لفحة البرد تلسعك وتشعرك بالجوع خاصة وان وجبة العشاء قد تأخرت ذلك المساء. الاماكن داخل الكلي فارغة فالجميع منشغل في مشاهدة لعبة كرة القدم بين فريقين عريقين، عدد الحضور يربو على المائتين، الاصوات تتعالى " كول " كل مرة تتدحرج الكرة صوب المرمى. في الخارج نباح الكلاب اصبح عالياً ومتواصلاً، جلبة وضوضاء وحركة غير معتادة. افواج الثوار تتزاحم متوجهة الينا افرادا وجماعات، قادمة من لولان من اربيل، من مراني، من كلي حصبة، انهم قادمون لحضور الاجتماع الذي يعقده قاطع بهدينان العسكري والسياسي (والمكتبين العسكري والسياسي) والذي ينعقد كما هو متعارف كل خريف. الكل يتهيأ ليدلو بدلوه والافكار تتصارع في مخيلته، فالاحداث تتلاحق والامور تتطور بسرعة والمتغيرات تواجهك على مدار الساعة وزمام الامور يفلت رويدا. الصراع على اشده بين القيادة والقاعدة وروح التراجع تعم الرفاق جميعا، الكل ترك وراءه ساحة شاسعة من النضال واياما مريرة واهدافا لم تطل وامنيات لم تتحقق. المخضرمون منهم يقرأون ملامح الاستياء في عيون هؤلاء الانصار. السؤال المطروح هل تنفع الاساليب والتكتيك القديم وقتال السلاح الابيض في مواجهة قاذفات قنابل الغازات السامة او القنابل المسيرة باللايزر او السلاح الجرثومي والكيمياوي؟ انه انتحار على الصعيد العسكري، واستيعاب سياسي ناقص للمتغيرات والمستجدات على الساحة الدولية التي بدأت بالانحسار نتيجة لانهيار وضعف الهيبة السوفييتية والمعسكر الاشتراكي برمته. هزة فكرية لا مثيل لها. النقاش حاد حول البيروسترويكا وبطلها غورباتشوف. ثمة من يطالب بالتجديد على غرارها ومن هو رافض، لافظ، لكل اشارة لها، حديث الساعة الابادة الجماعية للبيشمركة والقرى التي تسيطر عليها . طرحت سؤالا، ماجدوى التعلق بتلك القمم وارتياد تلك الكهوف دون الوصول الى جحر الافعى في بغداد؟
وسط هذه العاصفة من الخواطر المتبادلة مع الرفيقين ابو جوزيف, وابو عامل (الذي كان ضيفا على قيادة الاجتماع العسكري في بهدينان) واذا بهدير هائل للطائرات المقاتلة وهي تنزلق من علياء السماء لتنقض بسرعة هائلة على اهدافها الارضية والتي هي نحن. توجه الجميع نحو الملاجيء التي كان عددها قليل مقارنة بعدد الموجودين. تزامن للتو مع ازيزها صوت رشقات الدوشكا من دفاعاتنا الجوية. القت بوجبة من قنابلها وتسلقت ثانية. لحسن الحظ كنا نحن في الملجأ، اعادت الطائرات الكرة، ثانية، ورمت قنابلها قريبة منا. صرخت الرفيقة ام علي وهي تحتضن طفلها سمسم مذعورة اين الرفيقة صمر ؟ اجابتها الرفيقة اقبال بصوت لاهث انها في الحمام، فانفجرت القنابل بالقرب من الحمام، ام علي في الملجأ مع ابنها المتعلق بها (سمسم)، تبحث عن ابنها الثاني مشمش، الطفل مشمش كان يلعب في العراء مع الطفلة الصغيرة نداوي قبل ذلك بقليل. تسمرا في مكانيهما والهلع والخوف قد طغى على جوارحهما. كنا في الملجأ نتوقع الجولة الثالثة للقصف رائحة كريهة انتشرت في المكان. سألت عن مصدرها. اجابت ام علي واثقة: لن نفكر في الكيمياوي لان البعوض والبق يتطاير في كل مكان فالمفروض ان يكون اول ضحاياه."
صراخ خارج الملجأ واصوات استغاثة وبحث عن الدكتورة ام هندرين لانقاذ الرفيق خابور من الفصيل المستقل الذي كانت اصابته خطيرة، جرح غائر في ساقه ونزيف حاد جعله خائر القوى، خرجنا من الملجأ مذعورين فهذه هي المرة الاولى التي نتعرض فيها للقصف بهذا القدر من العنف وبهذه الكثافة. انها اصابة محققة وتشخيص دقيق لمقر قيادتنا ونصر عسكري للعدو الذي تمكنت طائراته من تحقيق اهدافها بدقة.
تغير الموقف كله وحديث الساعة عن لعبة كرة القدم والتهيؤ للاجتماعات المقبلة انتقل الى تفاصيل الهجوم الجوي وعدد الطائرات المغيرة التي بلغ عددها 12 طائرة مقاتلة سوفييتية الصنع من نوع (سوخوي).
الذهول اطبق على الجميع. لقد اخذنا على حين غرة. ما فعالية سلاحنا وما جدوى الدوشكا والمقاومات الجوية الاخرى العديمة الاثر، ولدى مقارنة الميزان العسكري يشعر المرء بالدوار وكأنه معلق من الاهداب.
الكلي (الذي تجتمع فيه كل قيادة بهدينان مع اعضاء من كل جبهة الاحزاب الكردستانية) مهدد في اية لحظة، انه دون غطاء من اسلحة فعالة في مواجهة الطيران، الصراخ يتعالى والنقاش يحتد والاراء متضاربة: هل استخدم العدو السلاح الكيمياوي في قصفه؟ فريق يدعم هذا الرأي والاخر ينفيه، الرفيق ماجد الذي كان قد القى محاضرة عن السلاح الكيمياوي وكيفية تشخيصه من رائحته الشبيهة برائحة الثوم المتعفن، لاذ بالصمت متسمرا في مكانه لا يستطيع حسم الموقف في تلك اللحظة الحرجة اذ كان عليه ان يقرر، لتتخذ القيادة التدابير ازاء ذلك.
خرجت الرفيقة صمر من الحمام والرعب يتملكها لان القنبلة انفجرت قريبة جدا منها، الغريب في الامر ان الحمام لم ينهدم، كانت تتعثر وهي ترتدي بقية ملابسها، كانت بشعرها المبتل والثياب في يدها تسأل عن الطبيبة وتسأل عن الموقف: من استشهد ومن بقي؟ من جديد اصوات الاستغاثة ونداءات تطلب الطبيبة. الفصائل تسأل عن الموقف وعدد الخسائر. اجهزة اللاسلكي لا زالت صالحة ونشيطة، هناك جريح واحد وهو (الرفيق الدكتور خابور) انه مرتم على سفح منحدر قريب، رأسه الى اسفل وقدميه الى اعلى، مدثر بغطاء، عندما التقيته كانت قد سبقتني اليه ام هندرين وبدأت بتضميد جراحه. كانت شظية كبيرة غائرة في عضلة الساق ولكن العظم سليم، آلامه مبرحة لا تمكنه من كتم صراخه. عندما لمحني ناداني وهو يصر على اسنانه: سعاد( اسمي الحركي) انني اتألم كثيرا, هذه الساق اللعينة غدرتني. لا استطيع الحراك. هل من معين؟ انني اتألم".مكثت هناك لوهلة وانا امعن النظر فيه والالم يعصر قلبي، فنحن لا نستطيع اسعافه وجرحه قد نؤذيه اكثر ونحن لا نملك ما يمكن تقديمه له في مثل تلك الحالة. الرفاق، كل بدوره، يطمأنه وهو يقطع حديثهم بالصراخ وطلب الطبيب. كان الدكتور ابو كفاح، رفيقه وزميله، يمزح معه ليخفف وطأة الالم قائلا: اننا سنغادر الى لولان ونتركك هنا"، خابور لا يزال يصرخ ويستنجد بالطبيب والنقاش على اشده فيما اذا كان السلاح الذي قصفنا به كيمياوي ام تقليدي، والخطأ الفادح الذي ارتكب وهو تجمع القيادة، جميعها في ذلك الموقع، لكن كيف تمكن العدو من تشخيص مواقعنا، وبالذات موقع القيادة؟ سيل من الاسئلة ينحدر من كل مكان ولكنها تبقى دون جواب، فلا اجد احد يتجرأ على الاجابة. الانظار ومزيد من التساؤلات تحوم حول ماجد ليدلي برأي اذا كنا تعرضنا للسلاح الكيمياوي لكنه لم يحسم الامر لعدم تأكده. استرجع كل ما علق بذهنه من طبيعة وعلامات الاصابة او التشخيص، والعامل المشترك لدى الجميع هو تلك الرائحة النتنة التي فاحت اثر ذلك القصف.
بعد مرور ساعة على تلك الفوضى مرق الى غرفتي الشهيد ابو ريزكار ليخبرني بان الرفيق ابو فؤاد قد سقط على الارض نتيجة عصف الانفجار، وقد استنشق كمية من البارود من القنبلة التي انفجرت قريبة منه. هرعنا انا والرفيق ابو سعد ، معتقدين انه اصيب بجروح، ولم يكمل ابو ريزكار حديثه ليهرع الى مكان خلف الغرفة ليتقيأ بشدة، ثم تحامل ورجع الينا شاكيا من الم في رأسه ومغص في معدته نتيجة استنشاقه هو الآخر البارود حينما هم بنقل ابو فؤاد الى المستشفى، المنطقة كلها ملوثة بالبارود (حسب اعتقادنا).
النقاش يأخذ طابع المصارحة والانتقاد بيننا الرفيق الدكتور ابو ليلى يتحدث عن تشخيص الاهداف بدقة لاول مرة يحصل ، الدكتور جميل قادم من اربيل، الرفيق الذي يعمل في المجال الثقافي الجماهيري وهو متذمر من الوضع، ابو فؤاد القادم من ايران عبر لولان، بعد ان قضى اربعة اشهر يتعالج من تسممه بالثاليوم . رجع للقاء عائلته واطفاله
الكل يتحدث عن مجريات الامور وكيف سيكون الوضع السياسي في العراق بعد انتهاء الحرب العراقية الايرانية. تحاليل سياسية غاية في الدقة والواقعية فالجميع له خلفية سياسية ورصيد معرفي يؤهلانه لتشخيص الداء ووضع اصابعه على مكامن العلة، لكن من يعير لهم الاذن الصاغية؟ وليس بمقدورهم اقتلاع جذور التخلف المتوارثة والسلبيات القديمة المتراكمة اذ مايزال القادة البارزون متمسكون بها. انها ممارسات عقيمة ومن المؤسف ان يبقى ذلك الحاجز الفكري مسيطرا على عقولهم، وان يستمر تعلقهم بذيول الاتحاد السوفييتي المرآة " العظيمة "! لنا التي لا يطالها أي شرخ او كسر!. كان هذا الموقف يمثل حاجزا لا يمكن التفكير باختراقه، او حتى مجرد الاشارة الى الممارسات الخاطئة فيه، لم يكن من المسموح به خلع البوابات القديمة التي نخرها الزمن وعلاها الصدأ فلم يعد ينفع فيها تصليح والاجدر بنا اقتلاعها وبناء طراز حديث يتيح الانفتاح على الهواء النقي والحركة، ومن تجرأ وكشف عماّ يجول في خاطره، فانه مخرب ومتخاذل وتنقصه الحنكة السياسية! هذه هي نظرتهم لجيل الثوار الجديد. فعندما تعكس القاعدة معاناتها وتبدي اراءها الصائبة النابعة عن قلب الحياة فان ذلك يوضع في خانة التخريب. انه صراع بين القمة والقاعدة. الغبن من نصيب القاعدة. الملل واليأس والاحباط تقرأها، جميعاً في عيون الجميع ونستقرىء ذلك في كل حديث وفي اية مناسبة، فالوضع في المقر يرثى له. ابو ريزكار عاوده القيء واخبرني ان ابو فؤاد لم يطرأ عليه اى تحسن بالرغم من انه استفرغ كل ما في جوفه (وهذا من الامور المستحسنة اذ تخلص من السموم التي تسربت الى جسمه عن طريق استنشاقه البارود)، والكل يترقب ويتحسب للجولة الثانية من الغارات الجوية، خاصة بعد ان انكشفنا من قبل العدو واصبح من السهل جدا الانقضاض علينا.
الساعة العاشرة موعد النوم، من الصعوبة بمكان النوم داخل الغرف لانها حارة وتسرح وتمرح فيها الفئران، من يختار اغفاءة فوق السطوح داخل الكلي المحاط بسلاسل جبلية اربع تكاد ان تكون مقفلة عليه؟ بعد منتصف الليل صحوت على صوت الرفيقة نشمين: انهضي يا سعاد لنتوجه الى المنطقة التي يرابط فيها فصيل الدوشكا" (تبعد مسافة ثلاثين دقيقة صعودا)، انهضي فالكيمياوي سيبيدنا وهناك من مات". انتفضت بسرعة وانا اسأل عن الذي مات. قالت لا احد ولكن ابو فؤاد لا يبدو انه يتماثل للشفاء، وبلمحة البرق تحزمت بالنطاق العسكري وتناولت بندقيتي ولبست الحذاء وحملت حقيبة الظهر (العليجة) وعلى جناح السرعة كنت في مقر فصيل السجن الذي يؤدي طريقه الى الدوشكات لاحقا. في ذلك الممر طابور من الرفاق يحاولون الوصول الى نفس الهدف. نار كبيرة مستقرة وسط الساحة لمكافحة الغازات الكيمياوية السامة واينما توجهت بناظريك تشاهد الرفاق هنا وهناك بحالة مزرية الكل يتقيأ وقد اصابهم الاعياء والانهيار النفسي ويترقبون المنية في كل لحظة. العيون محمرة منتفخة يسيل منها الدمع والكل يهرش اجفانه التي انطبقت على مقلتيه منذرة بالعمى، والصراخ يشق سكون الليل، هذا لا يبصر طريقه ويتعثر, وآخر يتلوى من المغص الذي يفري احشاءه. الجميع يحاول التسلق والصعود الى الاعلى، البغال محملة بالاغطية والبطانيات وكلها ملوثة بالكيمياوي ونحن نواصل السير. كان يسبقني بخطوات الرفيق ابو سعد اعلام، قلت له ان رائحة الكيمياوي قوية وواضحة. وافقني الرأي واردف قائلا: اضافة الى انه ظلام دامس،" بعد ثلاثة ساعات وصلنا مقر الدوشكا، وحاولنا النوم على الارض ولكن من يستطيع ذلك وكل واحد ملوث من اخمص قدميه الى قمة رأسه بتلك السموم التي نفذت في العيون والمسالك التنفسية ولوثت الجلد والاطعمة وليس لدينا الا القليل من الحيوانات التي نستطيع ان ننقل بها اولئك المصابين بدرجات خطيرة، والذين لا يستطيعون السير بسبب كفاف بصرهم فكانت الاوامر ان يقود سليمو النظر اخوانهم المكفوفين. انتبهت الى الرفيقة كانياو: كان وجهها ملطخا بالسواد، وهي مسدلة العيون تنتابها نوبات قوية من السعال. بادر زوجها علي الى حملها على ظهره للوصول الى مقر الدوشكا. الرفيقة سمر وصلت المقر وعيونها مقفلة تماما، الدكتور ابو ليلى، الدكتورجميل الدكتور ابو كفاح، ابو نضال الشايب من كاني ماصي انطرحوا تحت شجرة التوت يحاول كل منهم مسح عيونه واجفانه باطراف اليشماغ (الجمداني)، الملوث هو الآخر، مما كان يزيد في الطين بلة ولكن في مثل ذلك العذاب تكون تلك الافعال لا ارادية مثلها مثل الغريق الذي يتعلق بقشة. الى اللقاء في الحلقة القادمة ‏15‏/11‏/2006 Opinions