التداول السلمي ميزان لمصداقية الديمقراطية
المتتبع لواقع حال السياسة العراقية في عصرها الحديث يجد بغير كثير من التأمل والتفكير أنها أخفقت الى حد بعيد في إنتاج مجتمع سياسي يؤمن بعقيدة سياسية وطنية بصرف النظر عن ادعاء اغلب الأحزاب والقوى السياسية العراقية لاسيما من تمكن من الاستحواذ على السلطة بتبني مثل هذا المشروع.كما أن هذه الحركات بمجملها لم تصل في يوم من الأيام الى حد التوافق الاستراتيجي على توقيع ميثاق وطني ملزم يتسامى فيه الجميع على خلافاتهم البينية ويشرعون في عملية بناء موقف جماعي موحد في حالة نشوب خطر داهم يستهدف كيان الدولة برمته، وحتى عندما وصلت قوة الدولة العراقية في مراحل معينة الى مستويات متقدمة في التنمية الداخلية والقدرة على التأثير في المنظومة العربية والإقليمية بقي واقع حال المنظومة السياسية العاملة في البلاد واقعا متشظيا على طول التاريخ السياسي الذي ابتدأ ملكيا وانتهى به الحال منذ العام 1958م الى حكم جمهوري ومازال، ولم تتجاوز الائتلافات بين القوى والأحزاب السياسية أكثر من حاجز التكتيك وتحول الكثير من تلك التحالفات المرحلية الى مصدر للتندر والاستهزاء أكثر منه خطة للعمل المشترك، إذ كان غاية هم تلك الحركات التصارع فيما بينها والانهماك في لعبة تسجيل النقاط بعضها ضد البعض الأخر من اجل التفرد بالسلطة ومن ثم صياغة الطابع السياسي العام للبلاد أو جزء منه وفقا لعقيدة الطبقة الحاكمة.
من هذه المقدمة التاريخية نستطيع أن نخلص الى فكرتين رئيسيتين الأولى تتمثل في استفحال مفهوم التناحر الحزبي أو السياسي العراقي الى الحد الذي منع من خلق ميثاق شرف وطني يحرص جميع الفر قاء على عدم المساس به مهما كانت الظروف والدواعي، والثانية ادعاء كل حزب أو قوة سياسية على اختلاف مرجعياتها الأيدلوجية وعدد سنوات بقائها في السلطة من عدمها بأنها الوحيدة التي تتبنى عقيدة سياسية وطنية بخلاف البقية.
ولو حاولنا أن نفتش في ابرز الأسباب التي قادت الى شيوع ظاهرتي التناحر والتخوين فيما بين القوى السياسية لوجدناه يكمن في عدم وجود آلية دستورية فاعلة تكفل التداول السلمي للسلطة، فحتى الفترة الملكية التي يعدها البعض فترة ذهبية في تاريخ العراقي السياسي الحديث كانت الروح الانتقامية وأحيانا الروح الانقلابية هي التي تبعث الحياة في جسد الهيئة السياسية الحاكمة آنذاك، وبالنسبة لتاريخ العهد الجمهوري العراقي فيمكن اختصاره من غير ابتعاد عن عناصر الحياد والموضوعية بأنه سجل رسمي للانقلاب والانقلاب المضاد.
مما لايشك فيه عاقلان إن غياب التداول السلمي للسلطة في العراق أدى ويؤدي الى استشراء حالات الهلع الهستيري وربما الطبيعي في نفس كل قوة سياسية تجاه الأخرى، ومع وجود عوامل الخوف والشك لايمكن توقع اتفاق بالإجماع بين مختلف الإخوة الساسة الأعداء حتى على مسالة حساسة كالدفاع عن الأب الواحد والمراد به هنا الوطن الواحد بطبيعة الحال.
كما أن غياب مفهوم الانتقال السلمي للسلطات في الواقع العراقي مثلما يستطيع بجدارة تفسير ظاهرتي التناحر والتخوين في الأوساط السياسية العراقية على خلفية انعدام الثقة فيما بينها وتوقع كل فريق لساعة الانقضاض له أو عليه، فانه قادر أيضا على دحض جميع الدعاوى التي تحاول إثبات أن قوة سياسية عراقية معينة كانت تسير وفقا لعقيدة سياسية وطنية في مرحلة تاريخية بعينها من حيث النظرية والتطبيق، إذ أن الأحزاب العراقية المؤسسة على أيدلوجيات ليبرالية وطبقية وقومية ودينية فشلت في امتحانات تداول السلطة تاريخيا، ويستوي في ذلك الحال من استطاع منها القبض على زمام الحكم أو تلك التي لم يحالفها الحظ في قيادة انقلاب عسكري ناجح أو حياكة مؤامرة دموية محكمة التخطيط والتنفيذ.
فإلقاء نظرة سريعة على النظم الداخلية لتلك الأحزاب والقوى السياسية ناهيك عن ممارساتها العملية كما اشرنا الى ذلك آنفا تفضي بنا الى تبين حقيقة انعدام أي أساس ديمقراطي لقيادة التنظيم في أي منها وعدم وجود انتخابات حقيقية في داخل هذه الأحزاب، ما يعني سيادة منطق التأبيد والتوريث واحتكار الزعامة الحقيقية لطبقة سياسية دون سواها.
إن العقيدة الوطنية في السياسة والحكم تعني أولا وقبل كل شيء إتاحة فرصة تولي الزعامة السياسية لجميع المؤهلين في رقعة جغرافية ما بغض النظر عن الانتماءات الطبقية والقومية والعرقية والدينية وما إليها، وهذا الأمر لا يتم إلا في ظل إشاعة ثقافة الديمقراطية وانتهاج العمل وفقا لمبدأ التداول السلمي للسلطة، ولعل في تحقق التطبيق الفعلي لمفهوم التداول السلمي للسلطات فيما بين مجالس المحافظات العراقية عقب الانتخابات المحلية الأخيرة وتقبل جميع المتنافسين فيها للنتائج النهائية بروح رياضية ونبذ واستهجان الصيحات التي تنطلق من هنا وهناك والداعية الى تنفيذ اجندات تخريبية في حال الخسارة، لعل في ذلك كله امكانية لتحقيق ظرف موضوعي مهم من شانه التأسيس لثقافة الانسجام والطمأنينة في داخل الأوساط السياسية العراقية عوضا عن ثقافة التناحر والتخوين.
كما أن ذلك سيهب من ناحية أخرى مصداقية غير مسبوقة في التاريخ العراقي المعاصر لمن يدعي الالتزام بالشراكة الوطنية في إطار إدارة دفة السياسة والحكم سواء من كان في مواقع السلطة او المعارضة.
* مركز المستقبل للدراسات والبحوث
http://mcsr.net