التفاهم الإيراني – الأمريكي انتصار للسلام والحكمة
منذ فوز الدكتور حسن روحاني في الانتخابات الرئاسية الإيرانية، وإعلانه سياساته الوسطية المعتدلة برزت علامات تشير لأول مرة إلى بدء مرحلة جديدة في العلاقات الإيجابية بين إيران والعالم الغربي بقيادة أمريكا منذ الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979. فقد بدأ الرئيس روحاني انفتاحه على العالم خلال حملته الانتخابية، وبتصريحات عقلانية هادئة بعد فوزه، ومن ثم تأكيده عليها بخطابه في الأمم المتحدة، وما تلاه من اللقاء التاريخي بين وزيري خارجية البلدين: الإيراني محمد جواد ظريف، والأمريكي جون كيري، وتصريحاتهما الودية والإيجابية للصحفيين بعد ذلك اللقاء. وأخيراً تكللت هذه الجهود بالمكالمة الهاتفية مساء 27 أيلول الجاري، بين الرئيس الأمريكي باراك أوباما ونظيره الإيراني حسن روحاني، الأولى من نوعها منذ اربع وثلاثين عاما.
كما وكرر روحاني مرات عدة خلال زيارته إلى نيويورك ولقاءاته الصحافية المتعددة أنه «لا مكان للأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل في عقيدة إيران الدفاعية«. ومن جانبه أكد أوباما بعد المكالمة الهاتفية مع روحاني، أن من حق إيران امتلاك التكنولوجيا النووية لأغراض سلمية.
كذلك انتصار الدبلوماسية الروسية على متشددي اللوبيات الأمريكية من قارعي طبول الحرب في حل الأزمة السورية، هو الآخر يبشر بمرحلة جديدة في منطقة الشرق الأوسط. وكذلك "تبني مجلس الأمن الدولي بالإجماع مشروع قرار يلزم سوريا بتفكيك ترسانتها من الأسلحة الكيمياوية، بعد موافقة منظمة حظر الأسلحة الكيمياوية على جدول زمني لتنفيذ هذه العملية"، وإصرار المندوب الروسي بعدم اللجوء إلى استخدام القوة فيما لو خالفت سوريا الالتزام بوعودها إلا بقرار جديد من المنظمة الدولية.
لا شك أن كل هذه التطورات الإيجابية هي في صالح شعوب الشرق الأوسط، والتي تبشر بمرحلة جديدة من السلام والازدهار لم تألفها المنطقة من قبل.
ولكن يبدو أن هذه التحولات الإيجابية السريعة في العلاقات بين إيران وأمريكا وحلفائها، وحل الأزمة السورية سلمياً، أغاضت كثيرين من كتاب المقالات والإعلاميين العرب، وبالأخص مرتزقة السعودية ولوبيات مصانع وتجارة السلاح في أمريكا، الذين شغلهم الشاغل هو دق طبول الحرب، والتبشير بأن أمريكا وإسرائيل على وشك شن حرب على إيران لتدمير منشآتها النووية، وأن إيران ستقابل ذالك بالهجوم على حلفاء أمريكا في المنطقة...الخ.
ذكرنا مراراً في مقالات سابقة أن الغرض من إثارة مخاوف الدول الخليجية من البعبع النووي الإيراني هو حمل هذه الحكومات على شراء الأسلحة من الغرب وخاصة من أمريكا بمئات المليارات الدولارات، فما تحصل عليه الدول الخليجية من واردات نفوطها، يسترجعها الغرب ببيع السلاح عليها، والذي من غير المتوقع أن تستخدمه هذه الحكومات أبداً.
فبعد أن حققت أمريكا غرضها من بيع الأسلحة، وتم تدمير الجيش السوري على يد "جبهة النصرة" (القاعدة) بدعم خليجي (السعودية وقطر) نيابة عن إسرائل، وبعد أن انتصرت الدبلوماسية الروسية والصينية والإيرانية في حل المعضلة السورية سلمياً، وتأكد الرئيس أوباما أن البديل لنظام بشار الأسد هو نظام إسلامي متشدد بزعامة (جبهة النصرة) على غرار ما حصل في أفغانستان في عهد حكم طالبان، وما حصل من كوارث على أمريكا بعد كل ذلك، انتصر صوت العقل على صوت طبول الحرب. وها هو الرئيس أوباما لعب لعبته الحكيمة في الخروج من الأزمة مع حفظ ماء الوجه، ليجنب أمريكا من خوض حروب جديدة في عهده. ولهذا السبب تعرض أوباما خلال الأسابيع القليلة الماضية إلى حملة إعلامية ضارية من قبل المتشددين في أمريكا، ومحاولة إظهاره بالرئيس الضعيف، وتشويه صورته... ولكن أثبت أوباما أنه يتمتع بالحكمة والصبر والحنكة السياسية إلى حد أن وصفه أستاذ في جامعة كولومبيا في كتاب له بماكيافيللي العصر.
أجل، التقارب الإيراني- الأمريكي أغاض الكثيرين من مرتزقة لوبيات الحروب، وكتاب الأعمدة، فراح كل يفسره على هواه وحسب موقفه السياسي، وكما يشتهي ويتمنى أن يكون الوضع... أتفق مع بعض هذه المواقف وأختلف مع الآخر. أنقل أدناه بعضاً من هذه النماذج.
كتب السيد عبدالباري عطوان في صحيفته (القدس العربي)، مقالاً بعنوان: (أمريكا تغازل إيران، والعرب أضحوكة جديدة) جاء فيه: "بدأت الهجمة الدبلوماسية الايرانية التي يقودها الرئيس حسن روحاني تعطي ثمارها في كسر العزلة السياسية، تمهيدا لكسر الحصار الاقتصادي الخانق، وبما قد يؤدي في نهاية المطاف إلى الاعتراف بدور إيران كقوة اقليمية عظمى في منطقة الشرق الأوسط." وبحق، يتشمت السيد عطوان بالسعودية وغيرها من الدول الخليجية التي دفعت نحو عشرة مليارات دولار لتدمير سوريا، فيختتم مقاله بالقول: "فهنيئا للامريكان ولا عزاء للاغبياء".
وهذه من المرات القليلة التي أتفق فيها مع السيد عبدالباري عطوان، فلا عزاء لكم مني أيضاً أيها الأغبياء، وموتوا بغيضكم يا مرتزقة السعودية على الانفتاح الإيراني - الأمريكي، واحتقار أمريكا للسعودية وغيرها من الدول الخليجية.
مقال آخر في هذا الخصوص بعنوان: ((»التسوية« الأميركيّة الروسيّة: إيران أكبر الرابحين والسعودية أول الخاسرين))، بقلم السيد ابراهيم ناصرالدين، على موقع (بانوراما الشرق الاوسط، يوم الاثنين 16 ايلول 2013)، هو الآخر يندب حظ السعودية، ويؤكد أن أمريكا تجاهلت استشارة حلفاءها الخليجيين حتى ولو من باب المجاملة في تفاهمها مع إيران.
في الحقيقة لم يبق أمام الملك السعودي لحفظ ماء الوجه سوى توجيه دعوة للرئيس روحاني للمشاركة في موسم الحج، واتخاذ هذه المناسبة فرصة لفتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين. وحتى في هذه الحالة تكون إيران هي المنتصرة أيضاً لأنه في حالة كسب رضا إيران، على السعودية أن تتخلي عن حملتها في إشعال الحروب الطائفية ضد الشيعة في دول المنطقة (العراق وسوريا ولبنان).
أما الموقف الثالث من التقارب الإيراني الأمريكي هو رأي (المدى) صحيفة فخري كريم، في مقال غفل من اسم الكاتب، مليء بالحقد والتوتر والتشنج والكذب، بعنوان: (أوساط البيت الأبيض: العد العكسي بدأ لمرحلة ما بعد المالكي). والمعروف عن صاحب المدى أنه كرس صحيفته وجوقته ضد نوري المالكي وكأن هناك عداء شخصي بينهما، فيصور الموقف كله كما لو أن التقارب الإيراني – الأمريكي مخطط خصيصاً للإطاحة بنوري المالكي!!!. إذ يبدأ التقرير بالقول: "تتجمع مؤشرات لافتة على أن التقاطعات الأمريكية ـ الإيرانية التي شكلت العامل الأساس في اسناد السلطة الى رئيس الوزراء الحالي نوري المالكي قبل ثلاث سنوات، سقطت سقوطا كاملا، وعلى مسافة أشهر قليلة من انتخابات 2014 البرلمانية، كل شيء يدل على أن حسابات ما بعد المعركة لا تشبه ما قبلها".
يقول المثل العراقي (حِب واحكي، أكره واحكي). فأقل ما يقال عن هذا المقال أنه كشف عن رغبات فخري كريم وخياله المريض وحقده الدفين ضد شخص نوري المالكي. ولإثبات فنطازياته يذكر أن أوباما ألغى لقاءً كان مقرراً عقده مع المالكي على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، مما أثار غضب المالكي ...الخ. وحتى لو صح الخبر عن الغاء اللقاء، فقد ألغى أوباما ولأسباب خاصة به لقاءات مع رؤساء عديدين، منها لقاءه مع الرئيس الإيراني حسن روحاني، وآخر مع بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء إسرائيل، وربما رؤساء آخرين، ولكن هذا لا يعني أن أمريكا تخطط للإطاحة بهؤلاء الرؤساء لمجرد إلغاء لقائهم مع الرئيس الأمريكي.
كذلك يصوِّر فخري كريم أن المالكي تم تنصيبه رئيساً للوزراء ليس من خلال صناديق الاقتراع، وتصويت الأغلبية البرلمانية، بل من قبل إيران وأمريكا. وطالما تم التقارب بين إيران وأمريكا فقد انتهى دور العراق ولا بد أن يتم إسقاط المالكي!!.
هذا الكلام فيه تجاوز على الشعب العراقي وملايين الناخبين العراقيين الذين تحدوا الإرهاب البعثي القاعدي، للإدلاء بأصواتهم. نسي أن عهد تنصيب الحكام من وراء الحدود قد ولى وإلى غير رجعة، ولهذا السبب خسر فخري كريم ومن لف لفه ثقة الجماهير، ولذلك انضم المفلسون سياسياً وفكرياً وأخلاقياً ومنهم فخري كريم وشلته إلى جماعات الإعتصمات الذين تبنوا الطائفية وسيلة لإعادة سلطتهم. وصارت صحيفتهم (المدى) لسان حال البعثيين وحلفائهم في ساحات الاعتصامات وبلا خجل.
نسي هؤبلء أن الشخص المفضل لدى أمريكا لتبوئ منصب رئاسة الحكومة كان أياد علاوي، ولكن الأغلبية البرلمانية هي التي قررت تنصيب نوري المالكي وليس علاوي رئيساً للحكومة.
يتصور فخري كريم في تقريره وكأنه مشارك في لقاءات البيت الأبيض، أو على الأقل على علاقة مقربة مع الإدارة الأمريكية، أو هكذا يريد أن يوحي للقراء لتأكيد مصدر معلوماته!!، فيقول أنه بعد ما حصل من تفاهم وتقارب بين إيران وأمريكا، فلم تكن هناك حاجة للمالكي، وهذا التفاهم بداية رحيل المالكي!!.. في الحقيقية فضح فخري كريم نفسه في محاولة إظهار التقارب الأمريكي- الإيراني وكأنه موجه ضد العراق، وهذا ما يسمى بالأفكار الرغبوية (wishful thinking)، العكس هو الصحيح، فأي تقارب بين البلدين (إيران وأمريكا) هو في صالح العراق وجميع دول المنطقة.
ومن هنا فإننا نبارك لشعوب المنطقة هذا التقارب، لأنه من شأنه نزع فتيل الفتن الطائفية، وإلحاق الهزيمة بالمحور الطائفي السعودي-القطري-التركي، واعتباره انتصاراً لشعوب المنطقة. ولذلك نردد مع السيد عبدالباري عطوان: "لا عزاء للأغبياء".
الملاحظ أيضاً هذه الأيام، مع هزيمة المحور السعودي- القطري- التركي، تصاعد الحملة الضارية من قبل كتاب شيعة ضد السياسيين الشيعة. ففي مقال قيم له بعنوان (مخطط - حرق الأعشاش- الجديد) ذكر الكاتب الوطني المعروف الأستاذ محمد ضياء عيسى العقابي، قائمة من الإجراءات التي اتخذها أعداء النظام الديمقراطي في العراق الجديد، من ضمنها: (شراء مثقفين وكتاب من الشيعة وإبرازهم على أنهم ضد الأحزاب الشيعية في مسعى لخلخلة ثقة الناخبين الشيعة بسياسييهم ومرشحيهم ممن هم خارج دائرة الولاء لحزب البعث، فتوجيه اللوم والنقد للشيعة على لسان أشخاص من طائفتهم يلقى آذانا صاغية بعكس الأمر فيما لو تم ذلك من خلال أشخاص آخرين.)
في الحقيقة هذه الحملة مستمرة منذ مدة، سواءً من كتاب شيعة معروفين أو من كتاب طائفين يكتبون بأسماء شيعية مستعارة يبدؤون مقالاتهم الحاقدة بالمناحات على الحسين...!!، ولكن حصلت نقلة نوعية في الآونة الأخيرة بدخول عدد من الكتاب المحسوبين على اليسار للأسف الشديد، ودون أي مراعات لشيبتهم، إذ راحوا يستخدمون عبارات شتائمية وتهكمية نابية يندى لها الجبين ضد بعض السياسيين الشيعة، ما كنا نتمنى لهم هذا المنزلق وهم في أرذل العمر.
لخلاصة:
وكما أكد الزعماء الإيرانيون والأمريكيون، أن هناك مشاكل كبيرة وأزمة ثقة مزمنة بين البلدين عمرها 34 سنة، فمن غير المتوقع حلها بين يوم وليلة، ولكن في نفس الوقت جميع الأطراف متفائلون، وأكد الرئيس روحاني أنه يتوقع حل المشاكل ما بين 3-6 أشهر. وأعرب الجميع عن حسن نواياهم في هذا المجال. وعليه، أرى من واجب كل إعلامي شريف ومخلص لوطنه يريد الخير والاستقرار والازدهار لشعبه أن يرحب بأي تقارب بين إيران وأمريكا وجميع شعوب المنطقة. والتطورات الأخيرة هي في صالح العراق بالدرجة الأولى، لأنها تعتبر هزيمة للإرهابيين الطائفيين ومن يساندهم من أصحاب الأقلام والأبواق المأجورة، وتحت أية أيديولوجية تلحفوا، فرحلة الألف ميل بدأت بالخطوة الأولى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روابط ذات علاقة بالمقال
1 - محمد ضياء عيسى العقابي: مخطط - حرق الأعشاش- الجديد
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=377289
2- عبدالباري عظوان: امريكا تغازل ايران علنا والعرب اضحوكة مجددا
http://www.raialyoum.com/?p=5897
3- عبدالخالق حسين: على أمريكا إما أن تحتل سوريا أو تتركها لحالها
http://www.abdulkhaliqhussein.nl/index.php?news=601