التوافقيّة هي “المحاصصة” بالمعنى العراقي! توافقية قسْرية وصراعات على السلطة ؟
المتخلف لا يصبح متمدنا في لحظة تاريخية
من سخرية القدر أن تمارس السلطة في العراق ، كما يقال ، بـ " مفاهيم جديدة " ، ولكنني أراها لا تصلح له ابدا في مثل هذه المرحلة التي خرج فيها العراق ، والديمقراطية مغيبة فيه منذ خمسين سنة ! ومن السذاجة أن نصفق لمفهوم جديد لا ندرك مدى قابليته من الاستيعاب والتطبيق في مجتمع تعددي لا ندري تعقيداته الصعبة ، وان تعددياته لا تنحصر بأديانه وطوائفه وأعراقه واثنياته حسب ، بل بطبقاته ومستوياته وثنائياته وثلاثياته ! ومن غير المعقول أن لا يتعلم المرء من الآخرين شيئا ، أو من نفسه هو بالذات كيفية تجاوز الأخطاء ، خصوصا إذا علمنا أن احتداما سياسيا واجتماعيا يصل إلى درجة الفوضى عند جميع الأطراف من اجل الاستحواذ على السلطة بأي ثمن ! ومن العجب أن يبقى العراق في حالة من الانقسام الجمعي ، ركضا وراء المصالح تحت مسميات شتى ! ومن الغباء أن تقرن تجربة العراق اليوم بتجربة متقدمة أخرى أو أكثر في هذا العالم ، وكأننا أصبحنا بقدرة قادر جزءا من العالم المتمدن ! إن المفاهيم النظرية التي استعيرت ، ومنها " التوافقية " قد أصبحت منذ اللحظة الأولى عند تشكيل ما سمي بـ " مجلس الحكم " من قبل الحاكم الأمريكي المدني بول بريمر ميدان " محاصصة " قبيحة الشكل .. وانتقلت من سيئ إلى أسوأ ليس على المستوى السياسي ، بل غدت : مجموعة دكاكين حزبية وعرقية وطائفية في وزارات ومؤسسات ودوائر ومستشفيات وثكنات .. الخ ، بل والانكى من كل هذا وذاك أن تصبح ساحة حرب داخلية لما يشبه الحرب الأهلية في دواخل المجتمع الذي لم يكن يعرف كل هذا الوباء !
ديماغوجية كسيحة للساسة الجدد
إنني اقرأ أحيانا بعض ما ينشره بعض الكتّاب من العراقيين ، ويذهبون يتفلسفون بسفسطائية عالية ، وثرثرة بعيدة عن الواقع كي يرضوا أنفسهم ، ليس لما كانوا قد تأثروا به من مقالة هنا ، أو ترجمة كتاب هناك ، بل إرضاء لواقع يعتقدون أنهم خلصهم من ماض صعب عقيم .. ولكنهم ويا للأسف باقون في أبراجهم العاجية ، وواقع العراق ينخر سياسيا واجتماعيا ، وكل فئة سياسية تأكل بلحم الأخرى .. الكل يسعى للسلطة بأي ثمن كان .. ومن أعاجيب بعض العراقيين أيضا ، أنهم كانوا يناضلون على مدى عقود من السنين وراء تحقيق مبدأ سياسي ، أو ديني ، أو حزبي ، أو أيديولوجي معين .. ومرّوا بمخاض العراق الصعب ، ولما وجدوا أن الناس بدأت تتململ وترفضهم ، سارعوا كي ينقلبوا علنا على مبادئهم الأولى .. إنهم بعد أن أصبح فشلهم الذريع محتما .. فهم يسعون اليوم لكي يكونوا ساسة ، أو قادة من نوع آخر .. بدأوا يستعيرون مصطلح الليبرالية ، ليقولوا للناس : ها نحن قد أصبحنا أحرارا ، وقد تركنا مبادئنا الأولى وراء ظهورنا .. هل تغطية للفشل الذريع ؟ أم استعدادا لمرحلة قادمة حيث الانتخابات قريبة !
التوافقية هي المحاصصة بالمعنى العراقي
ان احتكار السلطة باسم " التوافقية " هذه المرة ، يعني إبقاء مبدأ المحاصصة ساري المفعول لتكريس التجزئة والانقسام والتشظي .. وغلق الأبواب أمام أي مشروع وطني مدني يسعى لإنتاج مبادئ جديدة تنقذ العراق من ورطته .. وتسهم بإنجاب جيل سياسي عراقي جديد لا يعرف أدران جيل قديم مستهلك ساهم ولم يزل في صناعة الفوضى العراقية .. عندما جاء أرنت ليبهارت بنظريته عن " التوافقية " السياسية لمعالجة التعددية في أي مجتمع ، لم يبشّر بالمحاصصة القميئة من اجل تشظي المجتمع الواحد .. ولم يعلن عن مبادئ لف ودوران على الديمقراطية باسم التوافقية ، كي تعبث المليشيات بأي كيان سياسي ، أو تركيب اجتماعي .. بأي مدينة وريف ! وعندما طبقّت نظريته في بيئات اجتماعية متطورة لم تكن تلك البيئات محتقنة بالأحقاد والكراهية ! وعندما رسخ مفهوم المشاركة الجمعية سياسيا لم يكن يعلن عن تفسخ مجتمع ، أو العبث بوطن ! وعندما قارن بين التطبيقات الديمقراطية في مجتمعات كانت الديمقراطية فيها مترسخة ، لم يكن ينتظر أن يغدو العراق بيد أحزاب لا تعرف أي معنى للتعددية ، ولا تعرف أي مضمون للتنوع ضمن إطار وطني .. بل منذ أن حلّت ، وقد خلقت لها حقا الهيا في الحكم ، أو أعلنت عن تشرذم طائفي للمجتمع ، أو اوحت ولم تزل عن انفصال عرقي عن الوطن !
ماذا حصّل العراقيون من التجربة ؟
لم يمر العراق منذ خمسين سنة الا بحكومات عسكرية وشوفينية ودكتاتورية .. لم يعرف عصرا للأنوار .. لم يمر بثورة حقيقية في الفكر السياسي ، وقد نحرت كل الأحزاب الوطنية والديمقراطية العراقية ، وكل النقابات والحركات الاجتماعية فيه .. ولم يعش الناس ، الا على الخوف والرعب والسعي من اجل لقمة العيش وعلى الستر في الحياة مهما كانت صعبة .. بل وان الآلاف المؤلفة كانت تصفق وتهزج وتزغرد كي تكفي شر المقابل ! لم يعرف العراقيون الا الاستبداد ، والدعايات ، والشعارات البراقة الكاذبة .. وكانوا يحلمون باليوم الذي يجدون فيه وطنهم يحيا من جديد .. ويؤسس من جديد على اسس وطنية حقيقية .. وان توزع الموارد بعدالة .. وان يلتئم الجميع تحت مظلة عراقية واحدة بعد عهود الضيم والأسى .. فماذا اكتشفوا ؟ اكتشفوا احتلالا ماكرا وخادعا .. ووجدوا تشظيا اجتماعيا غادرا .. ووجدوا حربا اهلية رعناء.. ووجدوا استحواذا على السلطة بأي ثمن .. ووجدوا محاصصة بغيضة يصرّح بها علنا .. ووجدوا انفلاتا وفرهودا وسرقة ورشاوى .. ووجدوا بنية مسحوقة لم يستطع احد من بنائها .. ووجدوا انتهاكات لحقوق الإنسان .. ووجدوا بقايا نظام سابق ليس لها من هدف إلا إعادة الحكم بأي ثمن .. ووجدوا أناسا غير أكفاء يتسيدون ويمارسون أدوارا سيئة للغاية !
كيف تنجح التوافقية في عراق اوليغاري ؟
أي توافقية هذه إذا كانت ثمة أجندة معينة تحكم البلاد ؟ أي توافقية هذه ، إذا كانت نصلا يستخدمه المتسلطون للحفاظ على امتيازاتهم ومناصبهم ورواتبهم الخيالية ؟ أي توافقية هذه إذا كان من يريده الشعب يصبح رقما عاديا وسط أرقام المحاصصات ؟ أي توافقية هذه إذا كان هناك تمييز عنصري في أجزاء ( عراقية ) بين عرب وكرد وتركمان ويزيدية وشبك ومسيحيين ؟ أي توافقية هذه تستخدم ما يسمونه بـ " الأقليات " أحجار شطرنج ؟ أي توافقية هذه ، إذا كانت تستخدم أوراقا من اجل الانتخابات ؟ أي توافقية هذه إذا غدت حجر عثرة ضد إصلاح الدستور ؟ أي فصل للسلطات قد حدث ما دامت هناك انقسامات مضادة لأي مشروع وطني ؟ أي توافقية هذه إذا كانت مبعثا للتجزئة من خلال تطبيقات ما يسمى بالفيدرالية ؟ هل يعقل تطبيق التوافقية في مجتمع سياسي اوليغاري كالعراق ، فيه أحزاب تحميها مليشيات خرجت ولم تزل على القانون ؟ أو فيه طوائف مسلحة ، وطوائف وملل غير مسلحة ؟ أو فيه أحزاب مرتبطة بإطراف خارجية وغيرها غير مرتبط ؟ أو أجزاء من العراق فيها صحوات وإسناد ، وأجزاء ليس فيها لا هذه ولا تلك ؟ أو مدنا يعشش فيها الإرهاب ، ويقتلها الرعب ، وتنحرها الفوضى مقارنة بمدن أخرى هادئة ومطمئة ؟ باستطاعة من يدافع عن توافقية العراق اليوم أن يخبرني من يفوز باسم التوافقية إذن ؟
وأخيرا : التوافقية لا تنجح من دون رسوخ تقاليد ديمقراطية
إذا كانت المبادئ التوافقية التي قال بها لارنت ليبهارت في كتابه " الديمقراطية التوافقية في مجتمع متعدد " يمكنها أن تطبّق في مجتمع تعددي مزدهر بوطنيته ومشروعاته ووحداته الاجتماعية وتكويناته التاريخية القوية .. فهي فاشلة جدا في مجتمع عراقي ، أو لبناني ، أو أيا من مجتمعات أخرى متخلفة سياسيا من اجل تركيب السلطة على أسس ديمقراطية .. وان العراق ، وهو احد المجتمعات الصعبة التي درسناها ، ستزيد هذه النظرية من انقساماته ومحاصصاته وسيمضي يوما بعد آخر إلى الحرب الأهلية أو الانقسام .. ولا ادري لماذا اختيرت هذه " النظرية " بالذات كي تطبّق في العراق هذا التطبيق السيئ الذي عرفنا كم جّرت على العراق من الأهوال والمساوئ . إن مجتمعات تعددية أخرى في العالم ، لم تزل تزاول الديمقراطية التقليدية من دون أية احراجات أو أي مشكلات صعبة في كل هذا العالم . فما الذي يجبرنا نحن العراقيين على اختيار المركب الصعب ؟ ما الذي يجعلنا لا ننتظر المناقشات تكتمل حول هذه النظرية الجديدة فهي جارية حتى يومنا هذا ؟ ما الذي يجعلنا نقفز في الهواء ونحن بلا أية تقاليد في الديمقراطية حتى ينضج المجتمع ليفرز نخبه الجديدة وعلى أسس مدنية متطورة ؟
نشرت في الصباح ، 7 مايو / آيار 2009 ، وتنشر على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com