الثقافة العربية اليوم .. لماذا تعادي الإنسان ؟
المثقف الحقيقي يغّرد خارج الاسرابعرفت مجتمعاتنا منذ القدم عادات وتقاليد بالية، لا يمكن أن تتوازى أبدا مع حقوق الإنسان، وسمو التعامل، وخصب الحوار، ورفعة الأخلاق! لقد عرف الناس شعر الهجاء - مثلا - عندما يتم القذف بهذا أو ذاك.. أو أن تستخدم النقائض بين هذا وذاك بأساليب متدنية، أو أن يصل التهكم والاستهزاء بالآخر إلى الإسفاف لما دعي بـ الأدب المكشوف، ولكن ذلك يبقى أسير التداول بين فئة قليلة من الناس! ولم يغد سمة لثقافة عامة عرفت بمكانتها في التاريخ الحضاري، إذ بقيت ثقافتنا يمثلها أناس حقيقيون، على عكس ما يحدث اليوم، فإن المزيفين باتوا أكثر جدا من الحقيقيين، وأن الكذابين أمسوا أكثر من الصادقين، وأن الطفيليين غدوا أكثر من الملتزمين والعضويين. وعليه، فقد باتت الثقافة العربية اليوم تعيش حالة بائسة من التدنّي، واغتصبها أناس لا يمكن اعتبارهم بمثقفين، فكلمة " المثقف " كبيرة جدا لا يمكن إطلاقها على كل من هبّ ودبّ.. إنها كبيرة وأكبر مما نتصور، فمن يحمل هذه الصفة، يتحّلى بمواصفات لا يمكن أن نجدها عند من يمثلها اليوم مع الأسف. إذ ينبغي أن يتمتع أي «مثقف» بقدرات إبداعية، وإمكانيات منتجة وتوظيفية في أداء مهنته واحترافه لكل الوسائل والأدوات المعرفية واللغوية لخدمة المجتمع الذي يرتبط به وبقضاياه وهمومه اليومية.. إن المثقف سواء كان ملتزما أو عضويا أو مثاليا يغّرد خارج أي سرب.. فهو يتسامى بوعيه العالي دوما عن توافه الأمور ويبنى علاقاته على أسمى المعاني الحضارية باحترامه الإنسان والتراب والنظام وكل الكائنات وهو يعبّر عن أفكاره وإبداعه مدافعا عن الأخطاء ، ومنافحا عن التراب ، ومعارضا كل أنواع الطغيان.
إن ثقافتنا العربية اليوم لا تمثلها هكذا نماذج إلا النزر اليسير للأسف الشديد، ولم يمتهن صوتها المعبر عن الواقع إلا ثلة قليلة من المثقفين الحقيقيين.. ولم تنهار منظومة القيم لوحدها، بل انحطّت كل الحياة الثقافية في اغلب بيئاتنا العربية، وانسحقت هناك وتخلفّت هنا.. ناهيكم عما فعلته سياسات دول بترولية بالثقافة العربية ، وما فعلته سلطات وأجهزة أنظمة قمعية ودكتاتورية بالثقافة والمثقفين، وتداعيات الحروب والحصارات وفناء للبنى التحتية والفوقية والهجرة والانسحاق في الدواخل والشتات.. وأخيرا، فإن المثقفين وقعوا كلهم في أي مكان من العالم، تحت زحف العولمة وتأثيرات تكنولوجيا العصر وثورة المعلومات والاتصالات من خلال الفضائيات واستخدامهم لها بطرق مخلّة بكل الأعراف، فانحدرت اللغة، وانحطّت المفاهيم، وأصبحت المعلومات تغرق في بحر من الأخطاء.. بل وتحررت الثقافة العربية من سجونها على مدى خمسين سنة، لتتشظى على أيدي عجزت عن استيعابها، أو التعبير عن آفاقها.. فاغترب الإبداع كثيرا عما كان عليه قبل نصف قرن.
لغة الاسفاف والمستويات الواطئة
إن لغة الإسفاف ليست ابنة هذه الأيام، بل توارثتها مجتمعاتنا عن جيل سبقنا، كان يستخدمها في محطات الإذاعة ومقالات الصحف اليومية.. إن لغة، مثل هذه، هي نتاج حقيقي لانهيار منظومة قيم اجتماعية وسياسية وفكرية في ثقافتنا العربية.. وأن مسألة إصلاحها ليس من السهولة بمكان.. بسبب الانهيار التربوي والاجتماعي الذي يعمّ كل مجتمعاتنا العربية، وبسبب هذه الرياح الصفراء التي هبّت ولم تزل تهب على مجتمعاتنا تحت مسميات لا أول لها ولا آخر من ثقافات أخرى. إن ثقافتنا العربية كانت ولم تزل غير قادرة على أن تكون مؤثرة في العالم، وكلما تقدم الزمن، فهي تتراخى أمام تأثير الآخرين وأيديولوجياتهم وفلسفاتهم وسياساتهم.. حتى غدت ثقافتنا اليوم ليس لها إلا ما تستقبله من هنا وهناك، أو أنها تجترّ نفسها وتعيد وتكرر ذاتها، أو تسحق نفسها بنفسها على أيدي طوابير من طفيليين جدد لا يمكن أن يمثلونها أحسن تمثيل في مثل هذا العصر أبدا.
كان العرب في الماضي يقرأون ويتابعون ويتحاورون ويتمتعون ويكتسبون.. وقد تراخى حجم الاهتمام بالقراءة.. كان المجتمع العربي يقرأ أكثر مما يأكل، وعندما أقول يقرأ، فهو يقرأ الإبداعات والثقافات العالمية وكل ما هو جديد ويتداوله.. اليوم مجتمعاتنا لا تقرأ، وإن قرأت فهي تجتر كتابات الماضي العتيق، أو تتصفح على الإنترنت، أو تتابع الصحف لتتصفحها، أو تراقب ما يكتب من تفاهات، أو ما ينشر في الفضائيات من سخافات! أما الساسة، فهم يهتمون بالبيانات والشعارات.. لقد زحفت ثقافة المستويات الواطئة على ثقافة النخب العليا والمستويات العليا في أغلب مجتمعاتنا.. والكل يعلم أن المستويات الثقافية الواطئة موغلة دوما بالتوحش والإيذاء والجهالة واستخدام لغة واطئة منحطة، كلها إسفاف وتعابير متدنية وخالية من أية أفكار، ولكنها مشوبة بالمعلومات المزيفة والتلفيقات والأكاذيب والتزويرات والمفبركات..
غيبوبة النقد واهتراء الحوار المعرفي
إن مجتمعاتنا لا تعرف لغة الاختلاف، ولا الحوار ولا النقد ولا الرأي الآخر.. وإن عرفتها، فإنها لا تترك أي هوامش عودة.. إن كتّابنا اليوم في عموم الإعلام العربي ليس لهم إلا التجريح إن اختلفوا، وغدت العقلية لا تتقبل أي نقد أو اختلاف.. إن الاختلاف اليوم يدور حول الذات لا الموضوع، والنيل من الناس قبل الحوار في الرأي والفكرة، وهذا أقسى ما يمكن أن تجده في ثقافات الأمم.. إن مجتمعاتنا لا تعرف حقوق الإنسان ولا تعرف أن لكلّ إنسان قيمة مهما كان نوعها، ومهما وصل حجمها.. وإن أغلب من يمارس هذا النوع من الإسفاف هم السياسيون في كتاباتهم، أو المعارضون في بياناتهم ومقالاتهم.. إن البذاءات تحّط من قدر صاحبها ومن أي لسان أطلقت، أو بأي قلم كتبت.. وبالرغم من استخدام لغة الإسفاف في الصحف اليومية، ومع ورودها في الراديو والتليفزيون منذ خمسين سنة، ولكن سوقها الرائج اليوم يمتد في آلاف المواقع الإلكترونية التي تطلق كل أزبالها ليل نهار بحق هذا وذاك.. وما دامت بلا رقابة، وبلا أي وازع من ضمير، أو أعراف مجتمع، أو تقاليد حياة، أو خشية سلطة رقابة قانون.. فإنها اليوم مثوى لثقافة الانحطاط.. وهذا ما يلحظه المرء بانتقاله من موقع إلى آخر .
إن باستطاعة أي إنسان الدخول لها، ليجدها بمثابة وباء يجتاحنا الآن، وسوف لا نعلم بتأثيراته إلا بعد مرور جيل كامل.. لنرى ما الذي سيحدث في حياتنا وثقافتنا! لقد أصبح الإنترنت مرتعا لطلبتنا الجامعيين في جامعاتنا العربية قاطبة ، الذين نطالبهم بقراءة مراجع وتدقيق مصادر المعلومات، فإذا بهم يجدون ضالتهم وبسهولة على صفحات الإنترنت ، وما يكتب فيه من غث أكثر من السمين.. صحيح أنه مصدر معلومات، ولكن ليست المعلومات التي يحتويها صحيحة أبدا.. وقد عولجت هذه «الحالات» في دول متقدمة قانونيا وتربويا.. إن جيلنا الجديد، سيجد نفسه أمام ثقافة مهترئة، وأمام لغة هابطة، وأمام مستويات لا تعرف إلا اجترار التعابير الجاهزة.. سيجد نفسه أمام سباب وشتائم متنوعة تطال زعماء ومسئولين ورموز فكر وثقافة.. وتنزل منحدرة إلى الجميع! لعل ما حدث في العراق من تبديل للدكتاتورية المقيتة بالفوضى الخلاقة كونها ديمقراطية مستوردة قد أطلقت عنان العراقيين من حالات الكبت الطويلة التي عاشوها، كي يمارسوا حرياتهم غير المسئولة في ظل الانفتاح على العصر، بعد أن كانت محرّمة عليهم طوال العقود الماضية، فنجدهم يطلقون عشرات القنوات الفضائية، والمئات من المواقع الإلكترونية والصحف اليومية.. وأغلبها لا يرقى إلى مستوى من اللياقة والسمو في الثقافة والفكر السياسي.. إن هناك ارتزاقاً سياسياً، وانحطاطاً ثقافياً، واهتراء إعلامياً، وإسفافاً لغوياً.. هناك تسويق لثقافة الإرهاب.. هناك صرف بالملايين على ثقافة الماضي العقيم والتوحش.. هناك بلاء ينتظر مجتمعاتنا إن لم يتدّبر أولو الأمر إيقاف هذا الزحف المدمّر لثقافتنا وأعرافنا الحقيقية.. إن ما يحدث اليوم من تدمير للعقليات والسيكولوجيات والأفكار واللغة.. يحزن حقا، ولا يمكن أن نجد مثله أبدا في ثقافات أخرى في العالم.. إنها ثقافة إجرامية بحق وجودنا الإنساني كأمة لها ثقافتها، ولها تنوع في مجتمعاتها.. ولها رصيد حضاري في تاريخ العالم.
من ينقذ ثقافتنا العربية ؟
إننا نعيش اليوم ثقافة عربية فاسدة قد تبرعت بنحر نفسها بنفسها قبل أن يجهز عليها الآخرون.. وغابت عنها لغة العصر أولا، وهى مخربة، يصنعها من هم في دواخلها من طوابير معادية لكل المقومات وللإنسان وحقوقه من أصوليين ومتجمدين ومتعصبين وطائفيين ومعادين لها وجهلة مارقين بها.. نعم، إنها ثقافة يزرعها كل الطارئين والطفيليين والبدائيين والمخاصمين والمتخلفين عن أساليب التحضّر.. إن مجتمعاتنا تدمّر نفسها بنفسها، كونها لم تتخذ لها أية مشاريع إستراتيجية خلاقة نحو بناء المستقبل! إنها لا ترتوي إلا من اجترار الماضي ومشكلاته.. إنها لا تمد أية جسور بينها وبين الثقافات الأخرى لتتعلم منها.. إنها لا تضع العقل أساسا في تقويم واقعها، بل كانت ولم تزل تعيش في الأوهام والأخيلة والمشعوذات.. إنها تحطّم كل بنيويات التراث الحي، وتتخذ من بقايا الأمس البليدة عناوين وشعارات لها.. إنها معاول هدامة لهذه اللغة العربية الرائعة التي هزلت على أيادي أناس لا يعرفون الفرق بين الظاء والضاد! إن نار الشرور أكثر بكثير من زهور الحياة في ثقافتنا التي نشهد اليوم مآسيها.. وغلبة الساسة المعارضين والمعترضين على الأنظمة والسلطات، من دون أية مشروعات حيوية بديلة تأخذنا إلى بر الأمان.. لقد أدمن البعض على أن يكون عنصرا مخربا للحياة العربية كونه ترّبى على الأحقاد والكراهية ضد كل المبدعين والبناة الحقيقيين.. إنهم يتشدقون بالحريات والديمقراطية ولكنهم يتعاملون مع كل الأجندة المضطربة التي تنال من كينونة مجتمعاتنا من أجل السلطة ليس إلا.. !! رب سائل يسأل: وما هي السبل لإيقاف هذا السيل الجارف من الانتهاكات؟ وما العلاجات الواقية من زحف هذا الدمار؟ أقول: إن ثقافتنا قد غدت كلها تحت بطش الإعلام، وليس تحت رحمته أبدا.. فما علينا إلا أن نجد العلاجات الواقية من خلال الوسائل الإعلامية.. إننا بحاجة إلى تشريعات سريعة في كل دولنا، وتصدر باسم كل مجتمعاتنا للحد من هذا التدمير.. إنها بحاجة إلى قرارات شجاعة من هيئات ومجالس ومنظمات بدل التعويل على ما ينصح به فلان، وما ينشره علان! فدعنا نكتب ونكتب.. فلا تأثير لذلك أبدا قياسا إلى قرار واحد أو تشريع معين.. على كل من يشعر بما طرحت من انتقادات أن يجد الوسيلة وباتفاقات دولية على إيقاف النزيف الذي نتعرض له باسم الحريات غير المسئولة! وأن يقف ضد هذا الإسفاف في اللغة والثقافة.
نشرت في مجلة روز اليوسف المصرية ، العدد 4290 - السبت الموافق - 28 أغسطس 2010
ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com