الثقافة المضادة للفساد
في الواقع إن الحديث عن الثقافة المضادة للفساد، حديث ذو شجون، والتصدي لمثل هذا الموضوع هو أمانة في عنق كل وطني غيور، سواء كان كاتباً او شاعراً او رساماً،لان المساهمة فيه بأية صورة من صور الأدب او الفن او اية صورة من صور التعبير الإنساني الخلاق، هو في الحقيقة والواقع مساهمة كبرى وفاعلة في دفع الأذى عن العراق والعراقيين وعن سمعة الوطن الدولية، بل هو مساهمة في تحقيق طموحات وآمال كل العراقيين.فالفساد آفة كبرى تبتلع خيرات الشعوب ، وتزيد من معاناتهم وتحجب عنهم ثروتهم الوطنية لتذهب الى جيوب من خانوا الأمانة العامة الملقاة على عاتقهم باعتبارهم مؤتمنين على خدمة شعبهم وتوفير فرص السعادة والخير والرقي لهم.
وإذا بنا نراهم يسرقون الدواء من المرضى، والمعرفة من التلاميذ، والحقوق من الأرامل والضحايا، والطعام من أفواه الجياع، والبسمة من الخريجين، والعدالة من المظلومين...
ولعمري ان خيانة أمانة الوظيفة العامة هي اشد وطأة من خيانة الجندي الذي يهرب من واجبه، واشد من خيانة العميل الذي يبيع وطنه للأجانب.
لان أثرها المادي والأخلاقي والنفسي على الشعب اشد خطراً من تلك الجرائم، واشد وطأة على الناس والاقتصاد والحياة الاجتماعية السليمة.
حيث يعد الفساد الجريمة الأكثر خطرا من بين الجرائم التي تنال من قيم العدالة وسبل تنمية وتطور المجتمعات المعاصرة ، فهو العامل الأكثر تخريبا وتدميرا للمجتمعات الفقيرة والنامية وسببا مباشرا في ضياع فرص التقدم والرفاه الاجتماعي وإحباط خطط التنمية وفي زيادة الفقراء فقرا ، كما انه يفقد الناس ثقتهم بقادتهم ولو كانوا مخلصين وذوي نوايا حسنة ، وكثيرا ما قاد الفساد الدول، التي يجد له فيها مرتعا خصبا ،الى هاوية الانحدار الأخلاقي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي . وقد أشارت بحوث المنظمات الدولية ، كالأمم المتحدة ومنظمة الشفافية الدولية الى عمق الدمار الذي ألحقه الفساد باقتصاديات الدول النامية وفي دوام أسباب المرض والجهل والفقر والجريمة ، بالنظر لتسرب الأموال المخصصة لمكافحتها الى جيوب الفاسدين ، فالنزاهة هي عماد التنمية وشرطها الأكثر أهمية ،أذ تدعم النزاهة الاقتصاد الوطني والبيئة السياسية والأخلاق العامة .
وجاء في اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد لعام 2003 ( ان الدول الأطراف في هذه الاتفاقية ، إذ تقلقها خطورة مايطرحه الفساد من مشاكل ومخاطر على استقرار المجتمعات وأمنها ، مما يقوض مؤسسات الديمقراطية وقيمها والقيم الأخلاقية والعدالة ، ويعرض التنمية المستدامة وسيادة القانون للخطر.... )
وقد كشفت منظمة الشفافية الدولية المعنية برصد ظواهر الفساد في العالم في تقرير لها تحت عنوان مقياس الفساد حول العالم لسنة 2007 ( أن العاملين في مجالات الشرطة والقضاء والأحزاب السياسية والبرلمان والخدمات العامة هم الأكثر طلبا للرشوة في العالم ).
وأضاف التقرير(...وكان جهاز الشرطة هو الأكثر فسادا بالنسبة لمن استطلع رأيهم حول العالم حيث أشار ربع من شاركوا في الاستفتاء الى ان أقسام الشرطة طلبت منهم دفع رشاوى عندما اضطروا الى التعامل معها واضطر واحد من كل ستة الى دفع رشاوى تلتها المحاكم ثم قطاع التربية وبعده قطاع الصحة. وقالت رئيسة المنظمة مس لابيل في تصريح لها بمناسبة صدور التقرير " ان ما يبعث على القلق ان القطاعات الأكثر فسادا هي القطاعات الأكثر تماسا مع حياة الناس مثل الصحة والتربية والقضاء والشرطة .)
وقد فشلت في كثير من الأحيان جهود مكافحة الفساد في مختلف دول العالم ، ذلك أن الفساد جريمة سرية ( ضبابية ) يصعب في كثير من الأحيان إثباتها من خلال الوسائل التقليدية للإثبات والتحقيق ، بالنظر لاحتياط الفاسدين بعدم تركهم ورائهم دليلا ماديا يشير الى تورطهم في هذه الجرائم ، إذ أنها تتم في اغلب الأحيان بعيدا عن أعين الناظرين وخلف الأبواب الموصدة ، ويرتكبها في الغالب أشخاص على قدر من الدراية والمعرفة بأساليب الالتفاف على القانون وفي تسخير المعرفة التي يمتلكونها لأغراض دنيئة ، ولذا يعجز ضحية الفساد غالبا عن إثبات دعواه امام القضاء فيرجع خائبا ومضطرا لان يكون ضحية للفساد في المرات المقبلة أيضا .
وازاء هذا التحدي الكبير سعى فقهاء القانون الى إيجاد أنظمة قانونية جديدة تتسم بالفعالية والمرونة في التطبيق تكفل الحد من هذه الظاهرة الخطيرة الى ابعد مدى ممكن ودراسة أسباب الفشل الذي اعترى وسائل مكافحة الفساد ، فالتشخيص الدقيق للمشكلة جزء من حلها ويمكن استعراض وسائل مكافحة الفساد في بعض الدول ونجاحها على النحو الأتي :
أولا: إنشاء هيئات مستقلة للرقابة ؛ تعد السلطة التنفيذية في مختلف الدول من أوسع مواطن الفساد من حيث الكم والنوع ، بالنظر للمهمات الضخمة الملقاة على عاتقها المتمثلة في إدارة المرافق العامة للدولة وإدارة عموم النشاطات الاجتماعية والاقتصادية في البلد ،وقد فشلت وسائل الرقابة الداخلية ، اي رقابة الإدارة على نفسها ، مثل التفتيش الإداري ، في أداء الإغراض المرجوة منها ، فالإدارة هنا هي الخصم والقاضي في ذات الوقت ، اذ ينشا في الغالب بين أفراد الإدارات العامة نوع من التضامن المشوه يؤدي في أحيان كثيرة الى التستر او التساهل ازاء جرائم الفساد ، كما ان القيادات السياسية تسعى دائما للتستر على فضائح الفساد لانها ذات تأثير قاتل على نتائج الانتخابات وتوجهات الرأي العام . وقد تستخدمها في احيان اخرى لأسباب سياسية كوسيلة للقضاء على الخصوم السياسيين وتشويه سمعتهم ،وعلى أساس من هذه المعطيات نشأت الدعوة الى أنشاء هيئات رقابية مستقلة عن السلطة التنفيذية وعن اي سلطة اخرى ، تتمتع بالاستقلال المؤسساتي الكامل ،اي الاستقلال الإداري والمالي وفي سلطة اتخاذ القرار، ومنح منتسبي هيئات الرقابة قدر محدود من الحصانة( الإجرائية )، وعندها لا يخشى هؤلاء المنتسبين وهم يؤدون واجبهم من انتقام المتنفذين من رجال الادارة العامة ،وترتبط هذه الهيئات من الناحية الفنية بالسلطة التشريعية،وذلك لتجنب التأثير السلبي لحساسيات الاجهزة التنفيذية من هيئات الرقابة ومحاولاتها لإسقاطها اوتحجيمها او التشكيك في جدواها، اما من الناحية الإدارية فيكون الارتباط محدودا يقتصر على قيام السلطة التشريعية على انتخاب المسؤول الأعلى للرقابة وعزله ودفعا لاحتمال تدخل الطموحات السياسية للأغلبية البرلمانية في هذا التعيين فان الترشيح لهذا المنصب يتم من قبل سلطة اخرى محايدة هي السلطة القضائية. وهذا يمثل نوع من الرقابة المتبادلة بين السلطات المختلفة ، فالاستقلال نسبي لا مطلق ، وهذا يمثل أفضل الحلول ، ذلك ان الاستقلال المطلق لأية سلطة من السلطات يقود الى الفساد والى نشوء نوع من الدكتاتورية المؤسساتية التي تفقد التعاون اللازم بين هذه السلطات مرونته بعدم اخذ أي سلطة من هذه السلطات الاعتبارات التي تهم السلطة الأخرى بنظر الاعتبار. فالرقابة المتبادلة تمثل الحد النسبي لاستقلالية اي سلطة ، فقد يصدر القضاء، مثلا ، حكما عادلا ولكنه يتعارض مع مصلحة الدولة السياسية، كأن يؤدي الى أزمة اجتماعية أو أزمة دولية ، وهنا يأتي دور رقابة السلطة التنفيذية من خلال اصدار العفو العام أو الخاص. وكي لا تتحول هيئات الرقابة بدورها الى مؤسسة دكتاتورية فأن الذي يبت في قضايا الفساد التي تكشفها هذه الهيئات هو القضاء. وجاء في المادة ( 36 ) من اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد ( تتخذ كل دولة طرف، وفقا للمبادئ الأساسية لنظامها القانوني ، ما قد يلزم من تدابير لضمان وجود هيئة أو هيئات متخصصة او أشخاص متخصصين في مكافحة الفساد من خلال إنفاذ القانون . وتمنح تلك الهيئة أو الهيئات أو هؤلاء الأشخاص ما يلزم من الاستقلالية وفقا للمبادئ الأساسية للنظام القانوني للدولة الطرف، لكي يستطيعوا أداء وظائفهم بفعالية ودون أي تأثير لا مسوغ له. وينبغي تزويد هؤلاء الأشخاص أو موظفي تلك الهيئة أو الهيئات بما يلزم من التدريب والموارد المالية لأداء مهامهم.)
ثانياً: وجود نظام قانوني متميز لمكافحة الفساد : سبق القول ان الأساليب التقليدية في مكافحة الجريمة لم تجد نفعا في مكافحة الفساد، بالنظر لخصوصية هذه الجريمة المرتكبة من قبل أشخاص يتمكنون من محو أثارها باستخدام صلاحياتهم القانونية او علاقاتهم ونفوذهم الاجتماعي والسياسي. ولذا وجب إيجاد نظام قانوني بديل لمعالجة هذه الظاهرة الإجرامية ومن الأنظمة القانونية الفعالة قانون الكسب غير المشروع، فيما اذا أحسن تطبيقه، وأفضل جهة لتطبيقه هي الهيئة الرقابية المستقلة وقد صدر مثل هذا القانون في عدد من الدول ومنها العراق وهو القانون رقم (15 ) لسنة1958المعدل النافذ ، ولكن إيكال أمر تنفيذه للسلطات التنفيذية في جزء منه ادى الى تعطيله من الناحية الواقعية .
وهذا النظام القانوني لا يقوم على إثبات الفساد بشكل مباشر، كالبحث عن دليل مادي ملموس عن الرشوة او الاختلاس، وإنما ينقل الإثبات الى جملة وقائع متصلة تجعل من واقعة الفساد امرأ مرجحا ، كما انه ينقل عبأ الإثبات من عاتق المدعي الى عاتق المدعى عليه ، خلافا للقاعدة العامة للإثبات ، التي تنص على ان البينة تقع على عاتق المدعي، لأن الأصل براءة الذمة ، وعلى هذا فأن القواعد القانونية الثابتة لم تقف عائقا امام الفكر القانوني الحديث وهو بصدد إنقاذ الإنسانية من مخاطر الفساد . ويتضمن هذا القانون إلزام الموظفين بتقديم كشف عن مصالحهم المالية، بما يملكونه من عقارات ومنقولات وأرصدة مالية واسهم وسندات وحقوق ، ومن ثم تتم مراقبة التطور المالي الحاصل للموظف سنويا لتحديد الزيادات المالية الطارئة غير المعقولة قياسا الى دخله السنوي المعتاد، مما يثير شبهة الفساد ومن ثم يخضع للتحقيق ، فإذا عجز عن إثبات مصدر مشروع لأمواله ، التي حصل عليها بعد توليه الوظيفة العامة، تجرى محاكمته وفقا لنصوص الكسب غير المشروع وإخضاعه للعقوبات المقررة في هذا القانون .
وقد أوصت اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد في المادة (20) بـ ( اعتماد ما قد يلزم من تدابير تشريعية وتدابير أخرى لتجريم تعمد موظف عمومي إثراء غير مشروع ، أي زيادة موجوداته زيادة كبيرة لا يستطيع تعليلها بصورة معقولة قياسا الى دخله المشروع . )
ومن الوسائل القانونية الحديثة أيضا ، التي تبنتها اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد في الفقرة (2) من المادة (13) ، قبول الشكاوي المغفلة ، أي التي لا يعرف اسم صاحبها ولا مصدرها، بعد ان كانت الشكاوي لا تقبل الا اذا كانت مذيلة باسم وتوقيع صاحبها ، والسبب في اعتماد هذا الخيار هو تعرض المخبرين عن الفساد وكذلك ضحاياه للتهديد والابتزاز او للتصفية من قبل مافيات الفساد في حالات كثيرة مما يتسبب في أحجامهم عن الإخبار عنها ، ولكن قبول الشكاوى المغفلة لا يعني بالتأكيد اعتمادها كدليل ، وانما تؤخذ على سبيل الاستدلال على جغرافيا انتشار الفساد لتكون نقطة الانطلاق في المراقبة والتحقيق ، ليقول القضاء العادل كلمته في النهاية.
ومع ذلك ينبغي التعامل بحذر مع الشكاوى مجهولة المصدر (المغفلة)، لانها قد تكون وسيلة لانتشار الدعاوى الكيدية لأسباب سياسية او لأسباب شخصية مختلفة. كما ان تراكمها لسهولة إرسالها عبر البريد الالكتروني قد يؤدي الى ضياع الفرص الحقيقية لمتابعة قضايا الفساد الحقيقية.
ومن الضروري أيضا، حماية ضحايا الفساد الذين يضطرون لمسايرة الفاسدين ودفع الرشاوي لانجاز معاملاتهم المشروعة، التي يعرقلها الفاسدين بغية إجبارهم على دفع الرشاوي ، وذلك بإعفائهم من العقوبة المقررة لجريمة الراشي اذا ما قاموا بابلاغ السلطات المختصة مباشرة عنها ، اذ ان التعرض للعقاب هو السبب في إحجام ضحايا الرشوة عن الإبلاغ عنها وكذلك في صعوبة الكشف عنها ، وفي الإعفاء من العقوبة مصلحة عامة ، اذ يساعد ذلك على الكشف عن عدد ضخم من وقائع الفساد ، وهكذا يمكن ان يكون ضحية الفساد أداة قوية وفعالة في مكافحة الفساد.
ومن الأفكار القانونية الحديثة التي تبنتها اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد في المواد(21، 22) ، تطبيق نصوص جريمتي الرشوة والاختلاس على وقائع الفساد في القطاع الخاص ، بدلا من قصرها على الوظيفة العامة والتكليف العام كما هو سائد في القوانين المقارنة ،وذلك بالنظر لتعاظم دور هذا القطاع في مجال الخدمات العامة من خلال عمليات الخصخصة والتزام المرافق العامة التي تجري على نطاق واسع في كثير من الدول، مما يستدعي حماية المجتمع من فروض الفساد المتوقعة في هذا المجال .
ومن الضروري ايضا إلغاء نصوص العقوبات الجزائية المقررة في قانون العقوبات لجريمة القذف والسب وقصر ذلك على دعوى التعويض المدنية ، اذ ان تلويح الفاسدين باللجوء الى هذه النصوص العقابية غالبا ما يشكل مانعا من الإبلاغ عن الفساد والفاسدين بسبب خشية المبلغين من العجز عن إثبات دعواهم امام القضاء .
ويمكن بتشريع تخصيص جوائز للمخبرين عن الفساد، ووضع نظام عادل للحوافز يقوم على معايير موضوعية لا شخصية لمكافئة رجال الإدارة المخلصين المتفانين في خدمة وطنهم.
يتضح مما تقدم ان الأفكار القانونية الحديثة أضافت نهجا جديدا في مكافحة الفساد، يقوم على التوسع في الفروض القانونية وعلى الخروج على بعض المبادئ القانونية العامة المستقرة .
ثالثاً: وجود قضاء مستقل ونزيه وكفوء : لاشك ان جهود هيئات الرقابة ستذهب سدى اذا كان القضاء لا يتمتع بالاستقلال اللازم او وصل الفساد الى الهيئات القضائية او كان القاضي لا يتمتع بالكفاءة العلمية اللازمة لاداء واجباته . ولذا وجب ان تتم عملية اختيار القضاة ومعاونيهم من المحققين والكتبة والإداريين بعناية خاصة ، فكثيرا ما تحصل عمليات الفساد من خلال وسطاء من داخل الجهاز القضائي نفسه، اذ لا يجرأ الناس عادة على عرض الرشوة على القضاة مباشرة . ونقصد باستقلال القضاء استقلاله كمؤسسة ويتجسد ذلك في استقلال القضاء إداريا وماليا وفي سلطة اتخاذ القرار ، وأهم مظهر لاستقلال القضاء هو انشاء مجلس للقضاء يتولى إدارة شؤون العدالة وشؤون القضاة من حيث التعيين والنقل والعزل دون تدخل من السلطات الاخرى . ان استقلال القضاء عامل أساسي من عوامل مكافحة الفساد .
.وجاء في الفقرة (1) من المادة (11) من اتفاقية الامم المتحدة لمكافحة الفساد ( نظرا لأهمية استقلالية القضاء وماله من دور حاسم في مكافحة الفساد،تتخذ كل دولة طرف، وفقا للمبادئ الأساسية لنظامها القانوني ودون مساس باستقلالية القضاء، تدابير لتدعيم النزاهة ودرء فرص الفساد بين أعضاء الجهاز القضائي. ويجوز ان تشمل تلك التدابير قواعد بشأن سلوك أعضاء الجهاز القضائي . )
رابعاً: اعتماد نظم توظيف وقواعد إدارية ومحاسبية فعالة مانعة للفساد : الوظيفة العامة خدمة اجتماعية وواجب وطني تشرف كل من يقوم بها لأن خدمة أبناء الشعب ومساعدتهم على تحقيق أمالهم وتطلعاتهم المشروعة شرف كبير لمن يقوم به وأمانة ثقيلة يجب ان تؤدى بكل حرص وتفان وإخلاص، وليس كل شخص قادر على أداء هذه المهمة بجدارة، ولذا ينبغي اعتماد نظم للتوظيف تقوم على اعتماد معايير موضوعية لاختيار الموظفين، مثل مستوى التأهيل العلمي ودرجة النجاح وإجراء امتحان للمتقدمين لشغل الوظائف العامة لتحديد مستوى الكفاءة والجدارة وتقيم مستوى الأداء بعد التعيين ووضع برامج تعليمية وتدريبية دائمية للموظفين ليتمكنوا من الوفاء بمتطلبات الأداء الصحيح والمشرف والسليم للوظائف العامة . وينبغي ان توضع قواعد للسلوك المهني يتعهد الموظف بالالتزام بها . ومن عوامل الحد من الفساد ، ان تكون الرواتب التي يتقاضاها الموظفين منصفة ومجزية وتتناسب مع الوضع الاقتصادي للبلد. ومن الضروري ايضا تفعيل دور الرقابة المالية واعتماد معايير للمحاسبة ومراجعة الحسابات تعزز الشفافية والمساءلة في إدارة الأموال العامة ، وتعد العقود الدولية مناخا خصبا للفساد ، لما تعرضه الشركات الأجنبية من رشاوى ضخمة لأستقطاب العروض الوطنية ومن ثم ينبغي اعتماد معايير موضوعية لأرساء العقود ، واعتبار الفساد سببا من أسباب فسخ هذه العقود .
خامساً: وجود اعلام حر ومواطن واعي :
الأعلام ، بصوره المختلفة ، أداة قوية وفعالة من أدوات الرأي العام ويسهم ، في الدول الديمقراطية ، في فضح ظواهر الفساد، ويخشاه رجال الإدارة ويستجيبون بسرعة لما يطرحه من قضايا تهم الرأي العام ،بل انه تسبب في سقوط حكومات منتخبة في حالات عديدة بعد ثبوت ما طرحه من قضايا الفساد ، وأذا كنا نتحدث عن دور الاعلام فأننا بالتأكيد نتحدث عن الاعلام النزيه الذي يسعى لتأكيد الحقيقة وحماية المجتمع وتقديم النصح للمسؤولين بغية تحسين الأداء العام، وأن كان محسوبا على جهات المعارضة السياسية .
وللمواطن الواعي دور حيوي في المساهمة في الكشف عن الفساد ، فهو ضحيته الأولى ، وعليه وعلى أطفاله تنعكس أثاره السلبية ،إذ يحرمه الفساد من التمتع بخيرات بلده ، ويضطره لدفع الرشاوي والتوسل الى الموظفين من ذوي الضمائر الميتة بهدف انجاز معاملاته المشروعة ، ولذا قيل ان الفساد يشكل اعتداءا على حقوق الإنسان وعلى كرامته ، وللمساهمة في مكافحة الفساد، ينبغي إشراك قاعدة عريضة من المواطنين في الشؤون العامة وتنشيط دور مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات التعليمية للمساهمة في تنمية ثقافة النزاهة بين الأجيال الحاضرة وأجيال المستقبل مما يجعل الفرد ينظر للنزاهة بمستوى النظر للشرف الشخصي ، يدافع عنها كما يدافع عن شرفه وحقوقه المادية والمعنوية ، من اجل بناء مستقبل أفضل لنفسه ولأسرته .
خاتمة البحث:
يمكن القول ان من أهم التحديات التي تواجه العراق ، كدولة وكمجموعة إنسانية عريقة، تتمثل بصفة اساسية في الفساد الإداري والمالي . حيث يمكن اعتبار الفساد احد الأسباب الجوهرية في دوام تحديات مأساوية مثل الفقر والتخلف وانخفاض مستوى التعليم والرعاية الصحية ونقص الخدمات العامة ، وما يترتب على ذلك ، من تعميق للظلم الاجتماعي واعاقة جهود التنمية في مجال الأعمار ومجال تنمية قدرات الإنسان العراقي ، فضلا عما تشكله هذه التحديات من تهديد أو هدر لحقوق الإنسان الأساسية. ومن جانب اخر فان هناك علاقة وثيقة بين الفساد والظواهر الإجرامية الأخرى التي تقوم على تنظيم دقيق مثل عصابات الجريمة المنظمة ومنها المنظمات الإرهابية .
كما ويمكن القول ان هذه التحديات تشكل متلازمات او ان كل منها يُعد سببا ونتيجة للآخر ، فالفقر صورة من صور الظلم وتعبير عن اختلال في قيم العدالة الاجتماعية ، وقد يقود الفقر الى الجريمة فيكون الفقراء مادة الإرهاب الأولية. بينما لا يستطيع الفقير ممارسة حقوقه الإنسانية كاملة.
ورغم الرغبة الجادة والمخلصة للحكومة العراقية في مكافحة الفساد حيث جاء في الفقرة الفقرة (25) من مبادئ وأسس البرنامج السياسي للحكومة العراقية والتي تنص على (وضع آليات فاعلة في مراقبة الإنفاق ومعالجة الفساد الإداري والمالي وتفعيل المواد الدستورية الخاصة بذلك والتعهد بالالتزام بها). فضلاً عن التصديق على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد لسنة 2003، كخطوة جوهرية على طريق تنظيم مكافحة الفساد اقليمياً ودولياً الا انه يجب ان تتوفر مجموعة من الآليات لتحقيق ذلك وأهمها إتباع الأساليب الوقائية التي أثبتت نجاحاً منقطع النظير في عدد من الدول التي تبنتها ومنها هونك كونك والهند... وربما كان لنا حديث مفصل عن الأساليب الوقائية لاحقاً في مبحث خاص.
**********
فارس حامد عبد الكريم العجرش الزبيدي
ماجستير في القانون
نائب رئيس هيئة النزاهة سابقاً
باحث في فلسفة القانون
والثقافة القانونية العامة
بغداد ـ العراق
البريد:
farisalajrish@yahoo.com
موقعنا: الثقافة القانونية للجميع
http://farisalajrish.maktoobblog.com/