الحرب على الفساد وتحقيق العدالة
لا بد لأي حرب يتم شنها من وجود ضحايا وهو أمر طبيعي في حسابات من يريد خوض الحروب العسكرية والتي تشتمل في ضحاياها على الأبرياء الذين لا ناقة لهم فيها ولا جمل ناهيك عمن يحمل السلاح، غير أننا اليوم أمام حرب من نوع آخر وجيوش تعمل في الخفاء لتدمر ما لم تستطيع الآلة العسكرية تدميره، ألا وهو "الفساد"الذي يدمر كل شيء بدأ بالأخلاق والمجتمع وانتهاءً باقتصاد الدولة ومؤسساتها.والفساد الذي يدمر البلد ليس هو الفساد المتعارف عليه في مجتمعاتنا الشرقية بل الفساد هو الخيانة بكل معانيها.
و(الفساد) نتاج لجملة من العوامل والظروف التي ساهمت في استفحاله وإخراجه من كونه حاله في بعض دوائر الدولة إلى صيرورته وباء ومرض معدي ينتشر وبسرعة كبيرة ليصبح ظاهرة طبيعية تلف معظم دوائر وأجهزة الدولة ومؤسساتها، ومن بين تلك العوامل:
1- إتباع نظام المحاصصة الذي تم العمل به بداية التغيير في العراق والذي تعدى الدوائر السياسية ليشمل جميع مرافق الدولة وأجهزتها.
2- التذبذب بين نظام المركزية واللامركزية في الحكم وعدم وضوح العلاقة بين حكومة المركز والحكومات المحلية، وكذلك فقدان حالة الرقابة والإشراف.
3- عدم متابعة الأموال التي قدمتها الدول المانحة للعراق وبخاصة التي قدمتها القوات متعددة الجنسيات إلى الوزارات أو الحكومات المحلية لإقامة مشاريع معينة في السنة والأولى والثانية بعد التغيير، الأمر الذي جعلها في عداد المال السائب الذي يعلم ضعاف النفوس على السرقة.
4- عدم متابعة المفسدين من قبل الجهات المختصة أو فضحهم أمام الرأي العام أو تسليمهم إلى القضاء لاتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة بحقهم.
5- وجود فساد وظيفي متمثل في عدم وجود الشخص المناسب في المكان المناسب، وهو نتيجة من نتائج الفساد السياسي الذي يقوم بحماية المفسدين في أجهزة الدولة لاعتبارات سياسية وفقاً لمبدأ (اسكت عني وأسكت عنك).
6-عدم وجود كشوفات مالية حقيقية مقدمة وزارة المالية والدوائر المرتبطة بها تبين من خلالها حجم الإيرادات وحجم الإنفاق السنوي، وما هي أوجه الإنفاق الحقيقية.
وبالعودة إلى ما تقوم به الحكومة العراقية الحالية وهي الحكومة الأولى التي استمرت بعد التغير الحاصل في العراق عام 2003م لدورة انتخابية كاملة مدتها أربع سنوات، وبالرغم من وجود جملة من التحديات التي واجهتها منذ سنتها الأولى وإلى السنة الأخيرة من عمرها، قد سجل لها العديد من النقاط الايجابية كما سجلت عليها بعض المؤاخذات من بينها عدم فتح ملفات الفساد بصورة شفافة.
فمن خلال مراقبة تحركها في بداية السنة 2009م نراها عازمة على الخوض بقوة وجدية في فتح أهم وأضخم ملفات الإرهاب والتخريب الذي وجدته على طاولة الحكم وهو ملف الفساد المالي والإداري الذي يفوق بحجمه ملفات المافيات الدولية.
فأموال أعمار العراق التي هدرت ولازالت تهدر لم يقف على حقيقتها أحد ولم تحاسب عليها أية جهة لحد الآن سوى ما يرشح من اتهامات متبادلة بين الفرقاء السياسيين وبدوافع سياسية لا حباً بالصالح العام أو إظهارا للحقائق على الرغم من وجود أكثر من جهة تأخذ على عاتقها متابعة هذا الموضوع تضم بين ثناياها المئات من الموظفين الذين يتقاضون المرتبات الخيالية مقابل عملهم.
ومن بين هذه الجهات؛
1- هيئة النزاهة.
2- ديوان الرقابة المالية ومكتب المفتش العام.
3- بالإضافة إلى لجنة النزاهة التابعة للبرلمان بصفته الرقابية.
وعند النظر لهذه الجهات المختلفة نجدها موزعة بين السلطات الثلاثة في الدولة العراقية، إلا أنها في مجملها إلى الآن لم تعرض على الرأي العام ولا ملف من ملفات الفساد التي تضرب أطناب الاقتصاد العراقي وتساهم مساهمة كبيرة في تأخير عجلة النمو والتقدم الذي يتطلع له الشعب العراقي بفارغ الصبر.
وبالرغم من كون المسؤولية لا تقع على عاتق جهة واحدة إلا أن أغلب أبناء الشعب العراقي يتطلعون إلى الجهد الحكومي وما يمكن أن يلعبه في سنته الأخيرة من دور إيجابي في هذا الملف يضاف إلى رصيده في ملفات أخرى.
وبالتالي فنحن على أبواب حرب حقيقية بحاجة إلى الكثير من الشجاعة والجرأة لمجابهة الجناة وأن يضع القائمون عليها نصب أعينهم تجنيب الأبرياء العواقب التي تفرزها نتائج هذه الحرب.
لأن التجارب السابقة أثبتت وفي كل مرة إن "الجاني" يحصن نفسه من المساءلة ويهيئ من يتحمل العقاب بدلاً عنه أو يضع لنفسه ضحايا يتحملون مسؤولية أفعاله، كأن يستخدم جهل الموظفين الصغار لتمرير أفعاله أو يستخدم تراكم الخبرة لديه في هذا المجال كما حصل-على سبيل المثال- مع العديد من الموظفين الذين تم فصلهم أو سجنهم في زمن النظام السابق بسبب الاختلاس أو التزوير أو الرشوة، استطاعوا بعدها أن يصبحوا من ضحايا النظام البائد ويعادوا إلى وظائفهم مع احتساب سنوات الفصل أو السجن وشغلهم لمناصب مهمة في دوائر الدولة المختلفة.
إذاً فجعجعة السلاح تتعالى وطبول الحرب تدق إيذانا بوجود منازلة كبيرة بين المفسدين ومن يتحمل مسؤولية تعقبهم في الدفاع عن المال العام كشفت عنها تحرك رئيس الوزراء العراقي بكشفه لذمته المالية إلى أحد قضاة هيئة النزاهة العامة لتكون سابقة حكومية تسري على الوزراء في الحكومة وجميع المسئولين في الدولة تمهيداً للعمل بمبدأ(من أين لك هذا).
وبالتالي فلابد لنا من أن نرى عددا من المفسدين- سُرّاق المال العام- يعرضون على شاشات التلفاز أمام الملأ كغيرهم من الإرهابيين الذين تلطخت أيديهم بدماء الأبرياء من العراقيين، ولابد من كشف جميع الملفات بغض النظر عن هوية المفسد أو انتماءه حتى يكون عبرة لغيره، وهو أمر ليس بالمستحيل إذا كانت النوايا صادقة في حسم هذا الملف الخطير أو الحد من هذا الوباء.
وبذلك يجب أن يتم العمل على:
1-القيام بحملات دعائية وإرشادية للمواطنين للمساهمة بالقضاء على الفساد كهم وطني وواجب أخلاقي.
2- التحقيق في جميع ملفات الفساد المطروحة أمام القضاء واللجان التحقيقية بدون استثناء وبحيادية ومهنية تامة في توجيه التهم وكشف الحقائق.
3- فصل ملف الفساد عن جميع التوافقات والتسويات السياسية وملاحقة المفسدين أينما كانوا وعدم شمولهم بأي نوع من أنواع العفو إلا في حال تم استرجاع الأموال التي تمت سرقتها من قبلهم.
4- إشراك جهات دولية كـ(الانتربول) في ملاحقة ومتابعة من تورطوا في عمليات الفساد وتمكنوا من الهرب خارج العراق.
5- يتم الكشف عن أسماء وشخصيات المفسدين في المال العام عن طريق وسائل الإعلام المختلفة.
6- طرد الموظفين الذين يثبت أنهم تورطوا أو شاركوا أو سهلوا لعمليات الفساد من خلال استغلالهم لمناصبهم الوظيفية.
7- درج أسماء المفسدين في قوائم خاصة تحضر عليهم المشاركة في الترشيح في أية عملية انتخابية قادمة.
وحينما يتم العمل بالضرب على أيدي المفسدين مهما يكن ولاءهم وانتمائهم فإننا نكون قد أدينا واجباً شرعياً ووطنياً وأخلاقياً يتم التأسيس من خلاله لدولة المؤسسات والقانون ونكون قد حققنا جزء كبير من العدالة ونأينا بأنفسنا عما حذر منه النبي(ص) في حديث شريف: (إذا سرق فيهم الغني تركوه وإذا سرق فيهم الفقير أقاموا عليه الحد).
* مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث
http://shrsc.com