الخطاب السياسي في العراق بين الفعل والانفعال
احمد جويد/الخطاب كما يراه البعض "كلام مباشر أو غير مباشر شفوي أو مكتوب يلقى على المستمعين بقصد التبليغ والتأثير"، ويختلف نوعه باختلاف مضمونه والمواقف التي يلقى فيها، ومن هنا يتم تصنيفه إلى: خطاب سياسي، اجتماعي، ديني، علمي، ثقافي...الخ، ويعد الخطاب الوسيلة الأكثر تأثيراً وتفاعلاً في نفس المتلقي.
وما يهمنا هنا هو الخطاب السياسي كونه الأكثر شيوعاً وأهميةً في هذه الأيام، كما أنه قد يكون الأكثر خطراً في المجتمع إذا كان غير مسئول وغير مدروس ويأتي بطريقة استفزازية ومتشنجة تنطوي على حالة من التهديد والصراخ والوعيد.
وتكمن الخطورة عندما يتحول الخطاب السياسي إلى وسيلة للشحن الانفعالي المهيج للعواطف والكراهية عبر اللجوء إلى الصراخ في أبسط المشاكل وأتفهها بعيدا عن الهدوء والروية في حل الأمور وعدم الرجوع إلى العقل والمنطق.
ان لغة الانفعال والتوتر قد لا تجلب نتائج طيبة أو مقبولة لدى الجهات التي تتبناها، حيث انه لا يمكن للصراخ والانفعال أن يصل بأصحابه إلى غاياتهم ومقصودهم، بل قد تكون نتائجه العكسية أكبر وأخطر على من يتبناه.
وعلى الرغم من شهادة العديد من المراقبين المحليين والدوليين بان ما يجري في العراق اليوم يؤسس لمرحلة جديدة من التنافس السياسي والتداول السلمي للسلطة والاحتكام إلى المؤسسات الدستورية، إلا إن ما نلاحظه ونلمسه من قبل بعض الكتل والأحزاب المتنافسة متمثلة بشخوصها السياسية يجعلنا في حقيقة الأمر نأسف كثيرا لسماع بعض التصريحات المتوترة والعنيفة في جميع المحافل ووسائل الإعلام المختلفة، فالارتباك والعصبية والتشنج الحاصل لدى البعض هو الطاغي على أغلب تصريحاتهم.
إن هذا التشنج الحاصل في الخطاب السياسي لدى البعض قد يكون مرده إلى عدة عوامل منها:
أولاً: غياب المشروع السياسي الاستراتيجي لدى بعض السياسيين مما يؤدي الى غلبة العامل التكتيكي وبروز اسلوب الشحن الانفعالي لتغطية ضعف البرنامج السياسي.
ثانياً: استخدام اسلوب سيكولوجية القطيع لتحقيق غايات انتخابية فئوية سريعة المفعول، دون حساب الخسائر التي قد تقود البلد إلى حافات الخطر والصدام.
ثالثاً: طبيعية حداثة التجربة وقلة الخبرة في مجال العمل السياسي الذي يؤسس لنظام تعددي ديمقراطي.
رابعاً: تأثر عدد غير قليل من هؤلاء المتشنجين بثقافة سلطة النظام الدكتاتوري السابق في العراق والتي كانت تعتمد لغة التهديد والوعيد في أغلب خطاباتها وبخاصة ممن كانوا ضمن سلطة ذلك النظام أو ممن يحملون أفكاره أو ممن تأثروا بسلوكياته وممارساته القمعية.
خامساً: الانجرار خلف الإيحاءات الخارجية التي أنست مثل هؤلاء المتشنجين بأنهم شركاء في الوطن وأن العراق لا يمكن أن يتم حكمه من قبل شخص أو حزب أو طائفة كما يحاول البعض بالعودة به إلى الوراء أو تعطيل المؤسسات الدستورية.
ويعد ذلك الخطاب المتشنج سلبياً بالدرجة الأولى على من يتبناه من حيث يشعر أو لا يشعر كما تنعكس تلك السلبية على المجتمع ونظام الدولة ومؤسساتها الدستورية، حيث ان هذا النوع من الخطاب العنيف له طبيعة ارتدادية تؤسس لمقاطع من العنف والعنف المضاد، ذلك انها قد تقود لتفكك النسيج الاجتماعي العراقي.
ان إيجاد خطاب سياسي ايجابي يكون بديلاً عن الخطاب المتشنج والمتطرف وبعيداً عن المهاترات والتهديدات التي لا تجلب سوى العنف والدمار للدولة والمجتمع، هو الطريق الأمثل للحفاظ على وحدة الصف الوطني في ظل تجربة ديمقراطية ناشئة.
يقول الإمام علي (عليه السلام)- في وصيّة لمالك الأشتر - (وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم ولا تكونن عليهم سبُعاً ضارياً)، وللأسف نشاهد اليوم عدداً من السياسيين يهدد في خطابه بأنه إذا لم يشترك في العمل الانتخابي فسوف يشعلها ناراً أو سوف تكون هناك حرب أهلية في حال عدم إشراك فلان وفلان، وكأن المسألة ليست مسألة شعب ووطن بل هي مسألة أشخاص يجب أن يصلوا إلى رأس السلطة أو حزب يجب أن يحكم.
فالخطاب بهذه الكيفية يجعل من موقف السياسي أضعف مما لو كان خطابه عقلانياً وهادئاً، لا بل إن السكوت في كثير من الأحيان أفضل من هكذا نوع من الخطاب الذي يعرض صاحبه إلى المساءلة القانونية مرة والى فقدانه لحظوظه الانتخابية مرة أخرى.
وفي هذا الصدد يقول (فرنسوا كيزون) عالم اللغة الفرنسي "حينما نحدد لمن سنتوجه، وما هو مستوى حديثنا ونوعية المعلومات التي نريد إيصالها، نكون قد قطعنا الشوط الأكبر في سباق الفوز".
فالتنافس كما هو حاصل هذه المرة لا يستطيع أحد أن ينكره بوصفه سياسي على عكس الانتخابات الماضية التي حاول البعض فيها دفع البلاد إلى صراع طائفي، حيث كان التخندق الطائفي واضحاً وكبيراً بين الكتل التي اشتركت في العملية السياسية، اما ما يحصل اليوم فهو مؤشر ايجابي على تطور العمل السياسي في العراق والتوجه به صوب الاستحقاق الانتخابي عبر المؤسسات الدستورية.
وبرغم الكبوات العديدة والمؤشرات السلبية التي رافقت العملية السياسية في المرحلة الماضية إلا أنه لا أحد يستطيع أن ينكر وجود منجزات كما لا يستطيع أن ينكر وجود إرباكات أمنية وفساد ومحسوبية ورشوة وبطالة، ومن ينكر ذلك أعتقد أنه غير واقعي وغير موضوعي ولا يريد أن يرى الحقيقة أو يريد أن يراها بعين واحدة.
كما إن من يقول باستطاعته القضاء على جميع تلك المشاكل والسلبيات في الدورة الانتخابية القادمة فهو يجافي الحقيقة أيضاً ولا يعدو كلامه أكثر من دعابة أو دعاية يراد منها تحقيق مكاسب انتخابية فقط وبعيدة كل البعد عن تصورات العقل والمنطق.
نحن لسنا ضد التنافس في الانتخابات ولكننا مع التنافس الواعي الذي يرتقي إلى مستوى عقول العقلاء ممن يؤمنون بما يصرحون به من قول يدعون فيه حب الوطن والحرص على مصالحة العليا، فالعراق اليوم ليس كما كان في السابق تحكمه الإشاعة وتنطلي عليه الدعاية والأكاذيب، بل أصبح أغلب أبنائه يميزون جيداً بين المخلص والمدعي، وأعتقد أن أغلب العراقيين اليوم صاروا أكثر تمييزا بين اللغة التي تحكمها العواطف أو التي يحكمها العقل، فلا مجال للمتوترين والقافزين على الحقائق، لان هناك تجارب عاصرها جميع العراقيين في الحقبة المظلمة لحكم البعث في العراق والتي أرادت تحويل الإنسان العراقي إلى "بيدق" أو "بوق" بيد السلطة الحاكمة يرقص لها متى تشاء ويتظاهر في مسيرات ليشجب ويندد متى تشاء ويزج به إلى معارك "الشرف" كما تشاء أو يجلس في داره ولا يتحرك حين تشاء.
أصبح اليوم لدينا قواعد شعبية وشبابية متعلمة ومثقفة وواعية تدرك الأمور وتحلل الأحداث وتبحث في الأبعاد والمضامين وبالتالي فهي بأمس الحاجة لقيادات واعية سواء أكانت في الحكم أو المعارضة، والتي من شأنها أن تضع النقاط على الحروف لا أن تسلخ من الناس انتماءاتهم وتشكك في ولائهم لوطنهم وتنظر لهم كخونة ودخلاء على هذه البلاد وتنظر لهم كعملاء.
ان الخطاب السياسي الناضج والفعال في بناء العملية الديمقراطية السليمة يعتمد على:
1- الالتفات إلى مسألة الشراكة الحقيقية بين جميع مكونات البلد في إدارة السلطة والحكم وجعلها المحور الرئيس الذي تبنى عليه العملية السياسية.
2-إعادة النظر بلغة الخطاب السياسي والتحول به من خطاب سلبي متشنج ومتأزم وغير مدروس إلى خطاب إيجابي مدروس يساعد في إعادة اللحمة لهذا البلد.
3-الابتعاد عن الاتهامات والتشكيك في الآخر أو حمله على المحمل السيئ.
4-ترسيخ ثقافة اللجوء إلى القانون وتفعيل دور القضاء من دون تدخل في الأحكام التي يصدرها إلا إذا كانت تلك الأحكام تحمل طابع سياسي وليس قانوني.
* مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث
http://shrsc.com