Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

الدكتور محمّد صدّيق الجليلي الفيلسوف .. الفلكي والاديب الموسيقار المجهول

صندوق موصلي عراقي مقفل من المعرفة الموسوعية الغائبة !


د. سّيار الجميل

كندا



" المقامات العراقية مستودع لكل الانغام الشرقية "

الجليلي



سيرة مختزلة

شخصية غريبة الاطوار لرجل موسوعي المعرفة ينتمي الى الجيل القديم ، جيل ما بين الحربين العظميين ، وسليل باشوات الاسرة الجليلية وبيكاتها الذين حكموا ولاية الموصل في القرن الثامن عشر 1726-1834 ، فضلا عن حكم بعض زعمائهم ولايات اخرى ابان العهد العثماني ، ومن اشهر الاجداد الجليليين الوزير الحاج حسين باشا وولده الوزير الغازي محمد امين باشا والوزير سليمان باشا وصولا الى الوزيرين نعمان باشا ويحيى باشا.. وكانت للقادة الوزراء والعلماء والادباء من الجليليين ادوارهم التاريخية الكبرى ، ليس للعثمانيين حسب ، بل للموصل والعراق بشكل خاص ، اذ كان العراق قد تعّرض لاكبر التحديات الخطيرة ، فضلا عن ازدهار الموصل على عهدهم اقتصاديا وتجاريا وثقافيا وحضاريا .

ولد محمد صديق بك بن امين بك الجليلي في مدينة الموصل عام 1903 ، ودرس في مدارسها ، ثم التحق منذ العشرينيات بدائرة البحث والتنقيب في كلية بيبل القديمة بجامعة كنساس بالولايات المتحدة الامريكية فحصل على الباكالوريوس والماجستير في العلوم والدكتوراه في الفلسفة ثم عاد الى وطنه ولم يعمل ابدا لدى الحكومة العراقية ، بل انصرف الى ادارة شؤون املاك اسرته والى الشؤون الاجتماعية والثقافية وانتخب عضوا في المجلس البلدي بالموصل عام 1931 ، وانتخب عند شيخوخته رئيسا لجمعية التراث العربي في الموصل العام 1973 واستمر في عمله فيها حتى عام 1977 وكان من اعضائها السادة المؤرخ سعيد الديوه جي والمؤرخ احمد الصوفي والشاعر محمد علي العدواني والخطاط يوسف ذنون والمفهرس سالم عبد الرزاق احمد امين مكتبة الاوقاف والتربوي هشام الطالب والمحقق محمد نايف الدليمي وغيرهم من باحثي الموصل في مختلف الاهتمامات.

مشاركاته ومنشوراته

لقد شارك في مؤتمرات علمية كثيرة وكانت تربطه صلات علمية وثيقة مع عدد كبير من مستشرقين وعلماء عرب وغربيين ، ومنهم المستشرق الالماني تركي الاصل فؤاد سزكين الذي زار العراق وحضر رفقة الجليلي حفل افتتاح مكتبة الاوقاف العامة بالموصل التي تضم اندر المخطوطات التي احترزت عليها مدينة الموصل بعد ان جمعت من المكتبات الخاصة . وللاستاذ الجليلي عدة مؤلفات وتحقيق لمخطوطات ونشر عددا من البحوث والدراسات في التاريخ والفلك والتقاويم والموسيقى .. نعم ، لقد انصرف الجليلي الى الدرس والبحث والتأليف فكان واحداً من كبار مثقفي الموصل الحدباء وله من الكتب المنشورة كتاب عثمان الحيائي الجليلي الموسوم (الحجة على من زاد على ابن حجه) عام 1937 ونشر كتاب المؤرخ ياسين افندي الخطيب العمري الذي صدر عام 1940 بعنوان (غرائب الاثر في حوادث ربع القرن الثالث عشر) من دون تحقيق . وللدكتور الجليلي بحوث عديدة في الموسيقى ، اهمها (المقامات الموسيقية في الموصل) سنة 1941 و(الاصطياف في حمام العليل) سنة 1965. لقد كان مشاركا اساسيا عام 1964 في المؤتمر الموسيقي الذي عقد ببغداد ، والقى بحثه الشهير (التراث الموسيقي في الموصل) ، وهو مستل من بحثه القديم الذي صدر عام 1941 ثم طبع البحث في العام نفسه ( اي في العام 1964) على شكل كراس في مطبعة الجمهورية كما اذكر . حقق ايضا ديوان الشاعر حسن عبد الباقي الموصلي في العام 1965 .. وكنت اعرف منه ان عدة تحقيقات ومؤلفات كان قد عمل عليها ، وهي جاهزة للنشر ، ولن لا أحد يدري اليوم اين هي اعماله المجهولة !



موسوعيته العلمية

كان فيلسوفا له اطلاع واسع جدا بحكم دراساته منذ حصوله شهادة الدكتوراه عن فلاسفة اليونان والعرب فضلا عن معرفته الواسعة بالرياضيات وتبّحره في العلوم الفلكية نظريا وتطبيقيا .. وكان معروفا بخبرته في وضع سمت القبلة .. وقد فعل ذلك لعدد كبير من المساجد والجوامع فضلا عن معرفته لمواقع النجوم وقياساته التطبيقية لحركة الارض ضمن المجموعة الشمسية وتعمقه في التقويمات الزمنية التي له باع كبير في تبديل حساباتها ناهيكم عن معرفته الخاصة بعلم المزاول والجفر والاسطرلابات والساعات الفلكية . ولقد استطاع ان ينجز اعمالا مادية وعدة مزاول شمسية في احتساب الوقت منها واحدة كانت في قلب احدى ساحات مدينة الموصل امام مبنى المحافظة عند ساحة الجمهورية ، ولا ادري ما الذي حّل بها اليوم . وساهم في حل رموز مزاول اخرى اكتشفت في اماكن عدة من العالم الاسلامي مثل القيروان ودمشق وسامراء اذ كان هو الرجل الوحيد الذي له دراية بها في هذا العالم .. اضافة الى علمه الواسع في الموسيقى الشرقية وخصوصا الانغام العربية والسلم الموسيقى وهو يجيد اجادة كاملة المقامات العربية كاملة واشتقاقات المقامات العراقية البغدادية والموصلية والتركية فضلا عن الموشحات الاندلسية والتواشيح الدينية فضلا عن معرفته الواسعة بالتنزيلات الموصلية ويعرف تراجم وحياة كل الفنانين القدماء ..

مجلس ثقافي ومكتبة تجمع النوادر

وكان له مجلس معروف بزواره وتقاليده وادبياته يستقبل فيه الادباء والعلماء ورجالات البلد واعيانها.. ومجلسه في الطابق العلوي من ملحق منفصل في بيوت الجليليين القديمة بمنطقة المياّسة في الموصل القديمة ، ومجلسه عبارة عن قاعة كبيرة تفترشها سجادة ايرانية ثمينة على مساحتها وتحيط اطقم الجلوس الكلاسيكية بها وفي صدر المجلس كرسي خشبي كبير يجلس عليه الدكتور الجليلي وقلما يجلس طويلا ، اذ يتحرك في ارجاء المجلس كثيرا بقامته المديدة ويدخن كثيرا بحيث لا تنقطع السيكارة من بين اصابعه .. وهناك على طرف بعيد مكتب كبير وقديم من الخشب القديم تحتشد فوقه اوراق واقلام ومحابر واطارات صور قديمة وتحف صغيرة وعدة نظارات وعدسات .. وهو يحاور زواره وتحيط بحيطان المجلس خزائن كتب وتحف ولوحات وصور شخصية وخرائط واسطرلابات قديمة .. ونادل القهوة خارج المجلس يصب القهوة بين الفينة والاخرى .

كان الجليلي يحترز على اثمن مكتبة شخصية في الموصل اذ كان هناك ثمة مكتبات شخصية لعوائل معروفة قد تزيد حجما عليها ، ولكن ليس فيها من النوادر بحجم ما تحترز عليه مكتبته ، فلقد جمع فيها كل النوادر والغرائب من الكتب وفرائد المخطوطات ونوادر الصحف والمجلات القديمة التي كانت تصدر عربيا منذ القرن التاسع عشر ، فضلا عن مكتبة موسيقية نادرة بمحتوياتها من تسجيلات واسطوانات قديمة لأعظم الفنانين القدماء الكبار امثال : الشيخ عبده الحامولي وسيد درويش وصالح عبد الحي والملا عثمان الموصلي وسيد احمد الموصلي ( ابن الكفر ) ومنيرة المهدية وام كلثوم وغيرهم .. كانت صلتي بهذا المكان العريق تعود الى طفولتي عندما يأخذني والدي ـ رحمه الله ـ بمعيته اليه وكان واحدا من أعزّ اصدقائه ، وكنت اجلس صامتا ارقب واتابع كل ما في المجلس واتذكر بأن النادل القهوجي كان يأتيني بفنجان فيه قهوة حلوة جدا كلها سكر ليست كقهوة الرجال .. وبقيت علاقتي بذلك المكان بين حين وآخر من شبابي الاول ، وقد تعلمت منه الكثير ، ومن رجالاته الذين كانوا ذاكرة تاريخية متوقدّة ، بل ما يميزّهم اصول المجالس وآداب الحوار وغنى الموضوعات .



امكانات الرجل كما عرفتها

كان محمد صديق الجليلي واحدا من اقدم الذين حصلوا على شهادة الدكتوراه في فلسفة العلوم من العراقيين منذ مطلع الثلاثينيات من القرن العشرين .. وجمع جملة هائلة من المعارف فهو موسوعي لا يتحدث عن شيىء من دون سابق معرفة به ، وكان ضليعا في الفلسفة وخصوصا في الميتافزيقيا والمنطق وكثيرا ما كان يصحح للاخرين اخطاءهم .. فضلا عن تضلعه في التواريخ المحلية والسير والشخصيات التي عاشت في القرون الثلاثة الماضية .. له قدرة عجيبة في حفظ الانساب والاصول فضلا عن مداركه العليا في التراث العربي الاسلامي والعلوم الطبيعية والفلكية والفلسفية . وكان يحفظ من الشعر والقصائد الاف الابيات وله اطلاع على ما انجزه الشعراء والادباء والمؤلفين والمؤرخين في القرون المتأخرة .

كان من عادته ـ ايضا ـ ان يسجل كل يوم منذ باكورة شبابه اهم الاحداث اليومية في مفكرته ويعّلق عليها . وعليه ، فان حصيلة سنوات طوال من حياته وما حفظ من تسجيلاته وتعليقاته تشكّل سفرا وثائقيا تاريخيا رائعا من اسفار القرن العشرين ، ولكن اين هو الان ذلك السفر من المفّكرات ؟؟ اين ذهبت ؟ من يحترز عليها اليوم ؟ لآ أحد يدري ! وكان مترجمنا يهوى السفر كثيرا ، وقد ساح في بلدان عدة وتعرّف على طبائع الناس ، واستمع الى كبار المطربين . وكان مؤرخا ومحققا في آن واحد ، وبالرغم من قلة نتاجاته العلمية ، فقد انتج بعض الكتابات النادرة في التاريخ المحلي والشعر والموسيقى في مدينة الموصل . ومن امكاناته الاخرى التي وجدتها فيه بنفسي ، انه ببساطة شديدة باستطاعته تحويل تواريخ دقيقة معينة من التقويم الغريغوري الى التقويم الهجري وبالعكس فضلا عن التقويم العثماني مشافهة وبشكل مباشر .. اي بمعنى ان باستطاعته شفويا ان يعطيك وقتا معينا في يوم معين من شهر وسنة معينين يقابل بالضبط وقتا معينا من شهر وسنة معينين في تقويم آخر .. وله قدرة فائقة في قراءة الاسطرلابات القديمة ناهيكم عن اعطائه شفويا ما يقابل اي تاريخ شعري معين من كلمة او شطر معين باحتسابه مباشرة من دون اي رجوع تحريري !!



مصير تراثه ومكتنزاته الغنية

كان للدكتور محمد صديق الجليلي ولدين وثلاث بنات ، وقد اعتنى بهم وبثقافتهم العليا . توفي ولده البكر عدنان قبل والده نظرا لما كان يعانيه من مرض عضال ، اما الثاني انيس فلقد كان متمردا الى اقصى الحدود مما دعاه بعد وفاة والده ان يهدي مكتبة صديق الجليلي بكل موجوداتها وتراثها النادر الى رئاسة الجمهورية العراقية والقصر الجمهوري ( ويقال ان ضغطا سياسيا مورس ضده لتسليم تلك المكتبة بكل موجوداتها واوراقها الثمينة) فرحلت تلك الكنوز الى واحد من الاماكن السرية للدولة الراحلة ، وكانت رحلة نهائية من الموصل الى بغداد من دون رجعة ابدا .. ولا يعرف مصيرها حتى اليوم . لقد تألمت جدا عندما سمعت بذلك وكنت اقيم وقت ذاك ببريطانيا لأنني ادرك بأن ليس هناك ما يشابه النوادر التي كان قد جمعها صديق بيك الجليلي على امتداد حياته ومنها ما كان قد توارثه عن ابائه وأجداده القدماء من الباشوات الجليليين زعماء الموصل منذ القرن الثامن عشر. انني بهذه " المناسبة " ، وبعد مرور قرابة ثلاثين سنة على رحيل الرجل ، أسأل كل الاخوة المسؤولين على مكتبات بغداد الرسمية ان كانوا يعرفون شيئا عن تراث الاستاذ صديق الجليلي وكنوزه الثقافية وهل هي موجودة حقا ، فهي تشكّل حقا ذاكرة ثقافية للعراق لا تقدّر بأية اثمان .



لقاءات علمية وموسيقية

عرفته من خلال مقاربة عائلية وصداقة اسرية قديمة الجذور .. ولقد افادني الرجل كثيرا بتقديمه لي معلومات تاريخية نادرة وانا اعد اطروحتي للدكتوراه ، كما سمح لي بتصوير جملة من المخطوطات المحلية ، ومنحني عدة قصائد نادرة لبعض الشعراء العراقيين امثال : كاظم الازري وعبد الغني الجميل وعبد الله راقم افندي وغيرهم .. وقبل ذلك كنت قد جمعت في مجلد مخطوط كبير العشرات من التنزيلات الموصلية ( وهي قصائد من الموشحات الشعرية الجميلة المختص بها مجتمع الموصل والتي تنشد بتلاحين وانغام مختلفة في المناسبات الدينية ) بعد رحلة مضنية في كل محّلات الموصل القديمة ، وقد اطلع على ذلك المخطوط كاملا وسجّل عليه ملاحظات مهمة جدا بقلمه الاحمر ، كما سجل على كل تنزيلة نوع المقام الذي تغنى به .. ولم يزل هذا العمل المخطوط بمجلد كبير لم ير النور بعد وهو يضم المئات من التنزيلات التي نظمها عدد كبير من شعراء الموصل في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وبدايات القرن العشرين ..

وعندما حل الفنان السوري المعروف الاستاذ المطرب صباح فخري بالموصل العام 1972 لاحياء حفلات فيها بمناسبة مهرجان الربيع ، طلب مني بواسطة الست ماري زوجة الصيدلي الراحل زكر عبد النور ، وهي سيدة حلبية قديرة عاشت بالموصل ان يلتقي الاستاذ الجليلي فأخذته اليه بسيارتي في يوم غزير المطر ، وبرفقة الاستاذ حازم الشيخ علي ، ورحبّ الدكتور الجليلي بضيفه ترحيبا خاصا ، وجرى الحديث عن الطرب العربي والنغم الشرقي وعن روائع العرب في هذا المجال وعن الاصوات والطبقات الموسيقية وعن الموسيقى وبحرها من العلوم وعن الالحان وعن العُرًب الموسيقية والصوتية .. وأذكر ان محاورة رائعة جرت بينهما .. وكان الفنان صباح فخري يسأل صديق بيك الجليلي عن معلومات لا حصر لها بصدد بعض المقامات والنغمات وعن الفنانين المصريين والعرب القدماء وطرق ادائهم وخصوصا الشيخ عبده الحمولي وابو خليل القباني والشيخ ابو العلا محمد والشيخ زكريا احمد والسيد درويش والقصبجي وغيرهم .

في تلك " الجلسة " التاريخية النادرة ، اسمعنا الاستاذ الجليلي رفقة صباح فخري بعض نوادر الطرب العربي من خلال الاسطوانات القديمة وبعض التسجيلات التي لا مثيل لها لكل من الملا عثمان الموصلي والشيخ عبده الحمولي . لقد سمعت من الاستاذ الجليلي العديد من الافكار الجديدة عن الموسيقى الشرقية التي عنده مرجعياتها واصولها ، ومنها جملة الحان غنائية شاعت في مشرقنا العربي وصاحبها كلها هو الموسيقار العظيم الملا عثمان الموصلي ( 1854 ـ 1923 ) الذي يعتبره استاذا للجميع في الشرق كله ، اذ يعّد الملا عثمان المؤسس الحقيقي للموسيقى العربية الحديثة ، وقد قال لي يوما بأن اغلب ما نسمعه من الحان اغنيات رائجة تعود في اصلها الى الملا عثمان الموصلي .. ومن افكار الدكتور الجليلي ومعلوماته ايضا ان المقامات العراقية سواء البغدادية او المصلاوية او الكركوكية هي المستودع الحقيقي والمنجم الهائل لكل الانغام الموسيقية وحركة الاصوات في منطقتنا ، وانها حصيلة مزج رائع بين العربية والتركية والفارسية والسريانية والكردية ! وفي تلك الليلة ، كانت هناك حفلة خاصة للمطرب صباح فخري في نادي المحامين بالموصل ، وقد حضر فيها الاستاذ الجليلي رفقة نخبة من اعيان الموصل ومثقفيها ، وغّنت في تلك المناسبة المطربة السورية الراحلة مها الجابري بعض اغنياتها .. ثم تجّلى صباح فخري بأروع ما اشتهر به من القصائد والاغنيات .. ولقد انتهت تلك " الحفلة " بمشكلة تحدثت عنها في فصلة ذكرياتي عن صباح فخري من هذا " الكتاب " .



بعض من عاداته وتقاليده

صديق الجليلي كان اكله قليلا اثناء النهار ولا يأكل شيئا في الليل ابدا .. كان ينام ست ساعات فقط اذ يأوي الى فراشه عند الثانية عشرة ويصحو في السادسة صباحا .. كان لابسا بدلته وربطة عنقه على امتداد النهار ، وتجده يقضي مصالحه مبكرا في الصباح ليعود الى مجلسه ظهرا .. وكانت قضية أراضي قرقوش التي دامت طويلا في المحاكم قد اخذت سنوات من حياته من اجل ان يثبت حقوق الجليليين فيها .. كان يدخن بشراهة لا يمكنني تخيلها ابدا ولا يستطيع ابدا الاستغناء عن فنجان القهوة لأكثر من نصف ساعة .. كان يتحرك كثيرا ولا تجده يجلس الا قليلا او نادرا ، واشتهر بحركة اصابعه وانامله .. كان يحب ان يجتمع عنده كل المريدين والاصدقاء ، وهو يحب ان يتكلم اكثر مما يستمع .. كان هواه في الثقافة والتراث والتاريخ والشعر والموسيقى والغناء .. كان يقدم معلوماته لكل من يقصده من طلبة العلم والادب والفن ، وفعلا كان يقصده العديد منهم وحتى من بلدان عربية واجنبية .. كان كثير السفر ايام شبابه ويذهب الى اقصى مكان من اجل امر يرغب شخصيا في مشاهدته او سماعه او الاستمتاع به .. وهو قوي الذاكرة وحاد الذهن لم ينس شيئا مر به في حياته من دون ان يذكره في وقت مناسب .. كان يعتز بموطنه ومدينته ومنطقته اعتزازا كبيرا ..



رحيله

لقد سمعت عندما كنت اقيم في بريطانيا عام 1980 وانا اعدّ اطروحتي للدكتوراه بأن الاستاذ الجليلي قد رحل عن الدنيا بسبب مرض اصابه ، فتأسفت جدا على علم عراقي كبير يمضي راحلا الى دار البقاء من دون ان تكّرمه وزارة الثقافة والاعلام ، او تؤبنه صحف العراق ، او يقف على رحيله ابناء المدارس دقيقة واحدة ..

واخيرا اقول أنني سمعت قبل ايام بأن كتابا قد صدر مؤخرا في ترجمة الاستاذ الراحل الدكتور محمد صديق الجليلي ، متمنيا من ابناء العراق الاعتناء بذكر رجالاتهم ونسوتهم ، والاستفادة من تجارب من سبقهم في القرن العشرين .. رحمه الله رحمة واسعة .



فصلة من كتاب الدكتور سّيار الجميل : زعماء ومثقفون : ذاكرة مؤرخ

www.sayyaraljamil.com

Opinions