الدولة المفترض بنائها في العراق دولة قدرة لا دولة مدى
د. خالد عليوي العرداوي/
في كتابه القيم (بناء الدولة) يميز الكاتب الأمريكي المثير للجدل (فرنسيس فوكاياما) بين قوة الدولة ومداها، فيقول: إن مدى الدولة".. يشير إلى الوظائف والأهداف المختلفة التي تضطلع بها الحكومات، (أما قوة الدولة فهي).. قدرة الدول على تخطيط وتنفيذ سياساتها وفرض القوانين بإنصاف وشفافية، وهو ما يشار إليه حاليا باسم قدرة الدولة أو القدرة المؤسساتية " (فوكاياما، بناء الدولة، ص 50).
وقد بين فوكاياما مظاهر الدولة القوية فعلا، التي تتمثل بقدرتها المؤسساتية على " صياغة وتنفيذ السياسات، وسن القوانين المختلفة، وعلى الإدارة الكفوءة بحد أدنى من البيروقراطية، وعلى محاربة الفساد والابتزاز والرشوة، وعلى الحفاظ على مستوى عال من الشفافية والمحاسبة في المؤسسات الحكومية، وقبل كل شيء آخر فرض وتنفيذ القوانين " (فوكاياما، ص 52)، وما يميز الدول الضعيفة والفاشلة هو أن مداها اكبر من قدرتها، فهي تعجز عن تنفيذ المهام والوظائف التي تضطلع بها، لكونها دول أحزاب وأفراد لا دول مؤسسات.
فيضرب فوكاياما مثلا على ذلك دولة مصر التي " تمتلك جهاز أمن داخلي بالغ الفعالية، لكن الدولة مع ذلك لا تستطيع القيام بمهام بسيطة، كالترخيص للمحال التجارية الصغيرة أو التعامل مع طلبات الحصول على سمات الدخول بشكل كفوء وفعال " (فوكاياما، ص 52). فجهاز الأمن المصري على فعاليته وجبروته المخيف لمواطنيه أيام الرئيس السابق حسني مبارك، لم يعزز قدرة وكفاءة الدولة الأمنية على التعامل مع قضايا التراخيص وسمات الدخول وغيرها من الأمور الإدارية البسيطة، وبما يقلل الصعوبات والعراقيل على المواطن أو الوافد إلى هذا البلد.
إن إسقاط هذه الحقائق على نظام الحكم في العراق، سيجعل المواطن العراقي يشعر بمزيد من الحنق والغضب لكونه سيكتشف أنه على الرغم من كل مظاهر الإنفاق الحكومي الهائل من ثروة الشعب، والتقييد، والتعقيد، والبيروقراطية التي يواجهها في حياته اليومية، فانه لا زال يعيش في دولة ضعيفة محدودة القدرة، وفاشلة في القيام بمهامها ووظائفها. وربما سيشعر هذا الأمر السياسي والمسؤول بالخجل - وقد لا يشعر – فلا يقوى على مواجهة شعب يطلع عليه كل يوم بخطاباته المعهودة التي تعد ببناء دولة قوية مقتدرة دون أن يفي بأي من وعوده وعهوده.
لكن هذا الواقع المؤلم لم يكن وليد الأحداث بعد 9/4/2003، بل هو مرض عضال عانت منه الدولة العراقية منذ تأسيسها إلى الوقت الحاضر، وتتطلب معالجته تشخيص كل العيوب والمظاهر القديمة والمستجدة، التي جعلت دولتنا دولة ضعيفة فاشلة بنظر شعبها والشعوب الأخرى، وتركيز الجهد الفكري والتنظيمي على بناء دولة قوة مقتدرة بمؤسساتها الفاعلة، لا يكون مداها متخلفا عن قوتها، دولة يمكن أن يعترف العالم بنجاحها، ويتعامل معها على هذا الأساس، ويشعر مواطنوها بهذه القدرة من خلال قلة التقييد، والتعقيد، والبيروقراطية في مؤسساتها، والكفاءة القيادية والإدارية لدى صناع القرار والمسؤولين فيها، والانفتاح المعتدل في منظومتها القيمية، علما أن بناء هكذا دولة سيقلل مشاكلها الداخلية والدولية بشكل كبير، ابتداءاً من مشاكل الفقر والمرض وصولا إلى مشاكل الإرهاب والأمن.
إن النجاح في بناء دولة عراقية ديمقراطية قوية بقدرتها المؤسساتية، يتناسب مداها مع قوتها، لن يعود بالخير والفائدة على النخبة السياسية فحسب، بل ستعم فائدته كافة طبقات الشعب، وستنعكس هذه الفائدة على المنظومة القيمية للمجتمع المرتبطة بالهوية، والفضائل المدنية، والنظرة الايجابية لنظام الحكم، والنجاح في ذلك فقط سيعني أن قطار العملية السياسية في العراق ركب السكة الصحيحة نحو بناء مستقبل أفضل للأجيال القادمة.
* مدير مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية