Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

الدولة ومسؤولية اتخاذ القرار

لعل من المناسب في هذه الفترة أن ياتي الكلام عن الدولة لا بمعنى كونها مفهوما عاما تندرج تحت مسماه مقوماتها المتمثلة بوجود شعب على إقليم يديره جهاز أو أجهزة حكم متعددة؛ ولكن بمعنى تمظهر الدولة على شكل آليات واطوار في صنعها للقرارات المصيرية الحاسمة لاسيما فيما يتعلق بموضوع السياسة الخارجية التي تحسن ادارتها دول وتتخبط فيها دول اخرى...

ولا باس أن نعرض في هذا المقام الى اشهر صورتين عالميتين للتعاطي مع هذه المسألة الكبرى ؛ فقد درجت أنظمة الحكم الشمولية بأنواعها المختلفة ودرجاتها المتفاوتة على أن يكون المسئول الأول فيها هو الماسك عادة بجميع خطوط الحل والعقد السياسية والأمنية والاقتصادية ؛ لذا فانه يعد لوحده الجهاز الحاكم فعلا ؛ إذ لا وجود لمفهوم الأجهزة المتعددة على الإطلاق في صيغ كهذه بعكس النظم الديمقراطية التي يفترض أن لايحظى بها المسؤول الأول في الدولة بذلك القدر من الاستفراد في إدارة دفة الأمور.

وفي بعض أجهزة الحكم الشمولية هذه يعمد الحكام أحيانا في معرض تعبئة الجماهير باتجاه تمرير سياسة خارجية من باب جذب اهتمام الراي العام العالمي او عند إقامة حلف أو إعلان حرب ونحو ذلك، الى إتباع طرق تعبوية من مثل تنظيم انتخابات صورية أو استفتاءات شعبية أو مظاهرات مليونية وغالبا ما يعهد بتنظيم هذه الحركات الى مفاصل الدولة ذات العلاقة، وتحت غطاء طوعي أو قسري من لدن الهيئات والمجالس الاستشارية المتعددة التي يخلقها النظام لأغراض كثيرة يقف على رأسها توريط تلك الهيئات والمجالس الشكلية بغية إسباغ صفة من صفات الشرعية على ممارسات الحاكم المرتجلة وتصوير قراراته الفاشلة على اساس أنها جاءت بتفويض من قبل الشعب أو ممثليه.

ورغم أن أفعالا كهذه تكون مكشوفة بطبيعة الحال بالنسبة لأغلب الشرائح الاجتماعية البسيطة فضلا عن النخبة الواعية إلا أن وعيا كهذا لايقدم حججا دفاعية كافية إذا ما أراد الشعب يوما التملص من تبعات قرارات حكامه المستبدين, وخير شاهد على هذا القول ما عاناه الشعب العراقي من حصار عالمي بشع وما دفعه ولايزال من تعويضات مادية باهظة لأطراف أجنبية تضررت بطريقة أو بأخرى على اثر اجتياح نظام صدام حسين لدولة الكويت عام 1990 ناهيك عن ما لحق السمعة العامة لهذا الشعب من تشويه جراء ممارسات ذلك النظام في الفترة التي أعقبت ذلك التاريخ وحتى سقوطه المريع وما خلّفه من انهيارات وتداعيات خطيرة على تلك السمعة.

بيد أن صورة مما تقدم ذكره لايمكن أن ترصد في الحياة السياسية بشكل عام بالنسبة للدول الديمقراطية الحديثة سواء ما تعلق منها بالسياسة الداخلية او الخارجية للبلاد؛ وما يمنع تلك الصورة المزرية من التشكل في اجواء وتضاريس تلك الدول عوامل يأتي في مقدمتها طول الباع في تعاطي السياسة بانواعها وفق اصولها العلمية والفنية بالاضافة الى تعدد مراكز صنع القرار وما يربط هذه الاخيرة من مواثيق شرف تكفل سيادة تامة لما يمكن أن نصطلح عليه بروح المسؤولية التضامنية ؛ هذه الروح التي تهيمن على سائر حركات وسكنات تلك المراكز, الامر الذي يؤدي في غالب الأحوال الى تدارك الخلل الناجم عن سوء تقدير في الموقف قد يقع فيه صاحب الموقع الأول في الدولة أو من يحتمل فيه الوصول الى ذلك الموقع عن طريق جهة متنفذة أخرى كانت قد أحسنت التقدير..؛ وليس شرطا أن تكون الجهة المتنفذة هنا في مستوى أجهزة المخابرات ومجالس النواب أو الشيوخ واضرابها بل قد يكون مجرد مسؤول في حملة انتخابية أو مستشار نافذ البصيرة أو وسيلة إعلام مستقلة أو مؤسسة دراسات وأبحاث علمية ذات مصداقية وتأثير في كيان الدولة أو مؤسسة مجتمع مدني آلت على نفسها ان تمارس عملا طوعيا مفيدا لعموم مواطنيها.

نخلص من كل ما تقدم الى أن الجهات السياسية النافذة في دولة ما لاسيما في الدول حديثة العهد بانتهاج الأنظمة الديمقراطية وبغض النظر عن مواقعها في السلطة أو المعارضة هي أحوج ما تكون الى الاستعانة بالرأي المخلص السديد والعمل على خلق رأي بهذا المستوى إذا لم يكن له وجود واقعي على الأرض من خلال احتضان ورعاية أصحاب العقول والكفاءات وتعهد المؤسسات الفكرية الفتية بالرعاية والاهتمام ماديا ومعنويا ؛ فضلا عن ادامة وتطوير مراكز البحث العلمي العامة والمواظبة على تكليفها بانجاز التقارير التي تستبق الشروع باي خطوة ذات خطر في المجال السياسي والخارجي منه بشكل خاص.

ان السياسة الخارجية هي مجموعة الأفعـال وردود الافعال التي تقوم بها دولة ما تجــــاه العــالم الخارجي بما يتضمنه هذا العالم من دول صغيرة وكبيرة , وبحسب تلك الافعال وردود الافعال يتبلور الموقف العام للدولة بما يترتب عليه من اثار وتبعات قصيرة ومتوسطة وبعيدة المدى ؛ الامر الذي يستدعي وجود مجالس تخطيط سياسية تركز على الاولويات والمصالح باسلوب يبتعد عن المثالية بقدر مايقترب من الجيوستراتيجيا أي تغليب المصالح الواقعية على الايدلوجيا انطلاقا من روح البحث العلمي الرصين واستنادا الى هيئة دبلوماسية حصيفة تاخذ على عاتقها تنفيذ ما اوكل اليها من مهام جسام من دونما التأثر بانتماءاتها الثانوية.

واذا ما اخذنا على سبيل المثال ما يشغل الساحة العراقية الان من جدل واسع حيال توقيع او عدم توقيع اتفاقية امنية مع الجانب الامريكي لوقفنا على جملة من الاخطاء البارزة ؛ ليس اولها اختباء بعض السياسيين سواء في الحكومة او مجلس النواب خلف بعض المرجعيات الدينية لتحميلها مسؤولية قراراتها, وليس اخرها الدعوة الى ايكال البت في هذا الموضوع الخطير الى عامة الشعب كما صرح بذلك مؤخرا نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي ومما يقع في دائرة ذلك الخلل هو عدم الرغبة او القدرة في معالجة الحساسيات الداخلية بما يقود الى تحقيق إجماع سياسي وطني حول التفاوض من حيث المبدأ, والاخفاق في الابتعاد عن إدخال بعض المصالح الخارجية على خط المصلحة الوطنية العليا او الدخول في سوق ممجوج للمزايدات السياسية او التهافت على توقيع الاتفاقية باي ثمن كما تجسد في موقف بعض قيادات اقليم كردستان.

وكان الاجدر بالطاقم السياسي الحالي فضلا عن تدارك ما تقدم ذكره ان يتخذ نهجا اكثر توفيقا من حيث استنفاذ العمل باليات الدستور التي حددت ادوار العمل في هذه القضية بدقة ووضوح , والمقصود هنا هو تكثيف الجهود باتجاه تشكيل فريق مفاوض قدير ومن ثم ارسال الاتفاقية فيما اذا تمت المصادقة عليها الى البرلمان لتكملة بقية الاجراءات القانونية بغض النظر عن حظوظ الاتفاقية من حيث الرفض او القبول.

أن إتباع غير السبيل الدستوري يؤدي في اغلب الاحيان الى إقحام من ينأى بنفسه عن مغبة الإقحام في أمر يتحاشاه، أو توريط من لايجيد إعطاء الرأي المخلص والسديد في مسائل تقع خارج اختصاصاته او اهتماماته وهم الغالبية من افراد الشعب بالاضافة او تحويل الساحة السياسية الى ميدان للشد والجذب واللعب بعقول وعواطف الجماهير بالاضافة الى تفويت الفرصة امام من يؤول اليهم موضوع الحسم الى اتخاذ قرار يقضي بانتهاج دبلوماسية سرية اذا لزم الامر.

ان غاية ما يحتاجه السياسيون في تدبير السياسات الخارجية للبلاد خاصة في مواضيع عقد الاتفاقيات والمعاهدات الضرورية والحساسة ؛ يدور في فلك معرفة دقائق المعادلات السياسية التي تحكم الواقع الخارجي لاسيما الاقليمي منه وما تتعرض له هذه المعادلات من تقلبات بين الحين والاخر وايكال امر من هذا النوع الى الخبراء في الترجمة والقانون اولا للحيلولة دون تفسير النصوص بطريقة مزدوجة وكشف اللثام عن النقاط الغامضة او الغائمة فيها، وثانيا الى مجموعة منتقاة من السياسيين ممن يجيدون فن التفاوض مع الخصم بنفس طويل لابد ان يصل بهم في نهاية المطاف الى اكبر قدر من المكاسب أو اقل قدر من الخسائر.

ولايمكن ان يتم حسم قضية على غرار عقد اتفاقية مع الجانب الامريكي بكل ما تحمله من تفاصيل وتعقيدات وابعاد اقليمية ودولية عن طريق الاستفتاء الشعبي أو نحوه مما لا يتحمله رأي إنسان لم يستقر بعد على حال...., ولكن يتم ذلك من خلال دفع واستمالة القوى السياسية حتى المتنافرة منها الى الوقوف معا في جبهة واحدة بغية الانتصار للدولة بصرف النظر عن مدى الاتفاق او التقاطع مع الحكومات.

بالاضافة الى ادامة النظر واعمال التفكير في قراءة المشهد الامريكي الجديد على اساس المتغيرات التي سوف ياتي بها باراك اوباما وفريقه السياسي المحتمل لادارة ملف العلاقات الخارجية من امثال دينس روس منسق عملية السلام في ادارتي كلينتون وجورج بوش الابن وزبيغنيو بريجنسكي مستشار الأمن القومي للرئيس كارتر وممن يتوقع فيهم شغل منصب وزارة الخارجية مثل جون كيري غريم جورج بوش في انتخابات 2004، فهذا ادعى الى فهم طريقة تفكير البيت الابيض في المرحلة القادمة واستيعاب التناقضات الدقيقة بين نظرة الجمهوريين لاسيما المحافظين الجدد ونظرة الديمقراطيين والواقعيين منهم تحديدا كما انه يعزز من قوة الموقف التفاوضي بالنسبة للجانب العراقي , وهو من ناحية اخرى كفيل بحفظ ماء وجه الشعب العراقي على المدى البعيد بدلا من الجائه ذات يوم الى تقديم ذرائع واهية لن تخليه عن المسؤولية مطلقا في حال ما اذا تم التوقيع على اتفاقية ثنائية ملزمة.

* مركز المستقبل للدراسات والبحوث

http://mcsr.net


Opinions