الرئيس البارزاني لا يمكن ان يسمح بالأعتداء او التجاوز على القرى المسيحية لكن اين يكمن الخلل؟
انا هنا اعبر عن رأيي الشخصي ، واكتب بصراحة ، ومن خلال تجربتي على ارض الواقع فمن خلال تنقلنا في مناطق اقليم كوردستان او في المناطق المتنازع عليها ، او اثناء الدخول الى اربيل او دهوك او غيرها من المناطق فتكفي الهوية المسيحية ، او صليب معلق في مقدمة السيارة لكي تستمر في سيرك نحو المدينة دون عائق ، ولا يمكن لرئاسة الأقليم او لرئاسة الحكومة او الأحزاب الكردية ان تقبل بأي تعدي او تجاوز على المسيحيين إن كانوا من الكلدان او السريان او الآشوريين او الأرمن او من الأديان الأخرى من الشبك او المندائيين او الأيزيدية ، ولا شك ان القيادة تحترم هذه المكونات وتعتبر الأقليم هو ملك لكل المكونات الدينية والأثنية الكوردستانية وليس للاكراد وحدهم .
القيادة الكوردية إن كان في الحكومة او الحزب او الرئاسة هي قريبة من هموم الأقليات وتحاول ان يسود الأمن والأستقرار والطمأنينة في قلوب هذه الأقليات لكي تنعم في الأجواء التعايشية المستقرة وتعمل مجتمعة وتساهم في عملية التطوير والبناء لهذا الأقليم . ومن هنا نلاحظ اقتراب القيادة من هموم الأقليات .
لكن الخلل يكمن على الضفة الأخرى هنالك ثقافة المجتمع وخلفياته المعتقدية والثقافية والتاريخية المتراكمة ، فخلال قرون كانت والى اليوم تروج ثقافة اسلامية رائجة في كوردستان وفي مناطق وبلدان أسلامية كثيرة وهي وصف غير المسلم بأنه كافر ، ولا مجال هنا للتطرق الى احكام اهل الذمة ، وهي احكام اقل ما نقول عنها انها ليست ملائمة ومناسبة مع احترام حرية البشر وكرامتها ، المهم كان المصطلح الرائج في كوردستان هو مصطلح ( فلاه) وهي مأخوذة من لفظة فلاح العربية ، إذ كان يطلق في الموصل على الأقلية المسيحية اسم (فليحي ) نظراً لتسمية لغته بهذا الأسم ( فلّيحي ) ، وهي منحوتة من لفظة ( الفلاح ) ، فالفلاح حينما يتوجه الى الموصل يتكلم بلغته الكلدانية ، ولا يفهما الموصلاوي ، فيقول عن لغتهم انها لغة الفلاحين ( فلّيحي) ، ثم حورت الكلمة الى الكردية باسم ( فلاه = Falah ) .
وهذه التسمية لا بأس بها مقارنة بمصطلح ( كاور او كافر ) تطلق على المسيحي ، ولعل الحديقة في كركوك المعروفة باسم (كاور باغي) ، وهي تسمية تركية تعني ( حديقة الكفار) ، وكاور هي كافر ، وباغي هي الحديقة . وهنالك أمور اخرى قد لا يعرفها القارئ ، وهي قبل اندلاع الثورة الكوردية في ايلول 1961 كان ممنوعاً على المسيحي الذي يستشهد في معارك بأن يطلق عليه لفظة الشهيد وبعد ذلك بدّل المرحوم البارزاني مصطفى بأن من يقتل في المعارك من المسيحيين هو شهيد بكل معنى الكلمة .
بعد عام 1991 حينما تمتع اقليم كوردستان بمساحة كبيرة من الحكم الذاتي ، عكفت القيادة الكوردية بقيادة البارزاني مسعود الى تحريم استعمال لفظتي ( فلاه ، وكافر او كاور ) وطفقت لفظة المسيحي تروج في الدوائر الحكومية وبين افراد الشعب ، ونحن نلمس ذلك في نقاط التفتيش ( السيطرات على الطرق ) ومدى التقدير والأحترام الذي يخاطب به الأنسان المسيحي ( مسيحي سه ر جافا = masihe sar chava ) اي مسيحي على عيني . وفي الأمثلة الشعبية هنالك مقولة يرددها المسلمون وهي : تعشّى في بيت اليهودي ، ونام في بيت المسيحي . دلالة على ائتمان الجانب المسيحي وإنه لا يمكن ان يخون الأمانة .
وهذا المثال هو جانب واحد من الأمثلة الشعبية لكن في الضفة الأخرى نقرأ خطاباً مختلفاً كلياً وهو العمل على إذكاء روح الضغينة والكراهية ضد الآخر غير المسلم ، والتي يروج لها رجال الدين المسلمون مع الأسف في منابرهم الدينية ، وهذه الخطب هي التي تشحن وتؤجج المشاعر العاطفية للمواطن البسيط بأن عدوه امامه ، وعليه الأنتقام منه .
في الحقيقة سمة الأمانة والأخلاص للاقليات بشكل عام والمسيحيون بشكل خاص جعل من هذه الأقليات قريبة من القيادة في الحكومات والدول لا سيما في العراق ، والشواهد التاريخية كثيرة ، ولكن ربما يجادلني احدهم ويقول :
لكن ما هذا الظلم والأضطهاد ؟ ولماذا تتشرد هذه الأقليات وتترك اوطانها إن كانت بهذه الدرجة قريبة من من مراكز صنع القرار وكانت بحماية الحكومات ؟
اجل ان الأقليات تكون بحماية الحكومات لكن ، يحدث احياناً ان تكون تلك الحكومات مخترقة او فاشلة ، وهذا الذي كان واقعاً بعد سقوط النظام في نيسان عام 2003 فكانت الحكومة لا تستطيع حماية نفسها ، فكيف تستطيع ان تحمي الأقليات ؟ وهكذا كان تفجير الكنائس وتشريد الأقليات الدينية والأستحواذ على املاكهم او منع ارزاقهم تحت شتى الحجج الواهية . وقد اوردت مثلاً في إحدى المناسبات من ان احد اصدقائي قد ائتمن جانب صديقه المسلم في بغداد على ان يجلس في البيت دون بدل ايجار او ببدل ايجار رمزي ، فكان ما قام به هذا الصديق العزيز ان لجأ الى بيع الأثاث ، ثم كتب قطعة على الدار يقول فيها : الدار معروضة للبيع . واعتبر ان البيت هو من الغنائم .
إنه يدل على فشل الحكومة التي لا تستطيع ان تحمي شعبها ، لا سيما الأقليات التي تعتبر اضعف الحلقات في النسيج المجتمعي العراقي .
في عام 1941 وقع ما عرف بالفرهود ضد المكون اليهودي ، واليهود من الأقوام العراقية الأصيلة ، ومن قام بعمليات النهب والسلب والقتل في هذا الفرهود كانوا من عوام الشعب ، وحاولت الحكومة حمياتهم لكنها لم تستطيع الى ذلك سبيلاً إلا بعد اضرار جسيمة طالت الأرواح والممتلكات لهذا القوم العراقي المسالم .
الحكومة الكردية فتحت ابوابها لاستقبال المشردين من المدن العراقية بسبب عمليات الترهيب والقتل والتهديد المترتب على خلفية الهوية الدينية ، لقد تمتع المسيحيون والمندائيون في كوردستان بحقوقهم الكاملة كمواطنين من الدرجة الأولى ، لكن هذا لم يمنع من وقوع بعض الخروقات منها حدوث بعض الأعتداءات على المحلات والمتاجر التي تخص الأيزيدية والمسيحيون في مدن زاخو وغيرها ، واتخذت الحكومة في وقتها الأجراءات الفورية لكي لا تتطور الأمور نحو الأسوأ ، ونحن نعلم ان اقليم كوردستان ينعم باستقرار امني وسلام مدني ، لكن الذي يحدث بين الفينة والأخرى هو انطلاق تلك التراكمات الثقافية في مسألة المسلم والمسيحي .
إن محاولات التأثير على البنية الديموغرافية لقرانا وبلداتنا المسيحية من قبل اخواننا المسلمين محصور في الثقافة الدينية ، وعلى الحكومة ان لا تقوم بواجبها الأمني فحسب ، وفي اعتقادي المتواضع ان الحل الأمني ليس كافياً ، فمطلوب من قيادة الأقليم ان يكون لها توجه وبرنامج متطور لبناء الأنسان في كوردستان ، قبل ان يكون لها توجه في بناء البنية التحتية ، فبناء الأنسان هو من اصعب المهام وتبدأً ببناء الطفل بتلقينه التربية الأنسانية المسامحة ( التعلم في الصغر كالنقش على الحجر ) .
على الإنسان الكوردي ان يعلم بأنه قبل ان يكون مسلم هو إنسان ، وعليه ان يتعلم شيئاً عن الأديان الأخرى ، فالدين الأسلامي ليس وحده على الكرة الأرضية فحسب ، فثمة معتقدات وأديان اخرى يعتز معتنقيها بأديانهم ومعتقداتهم وكما يعتز المسلم بمعتقده ودينه .
إن البداية تبدأ في الطفل ، ولهذا نؤكد على اقليم كوردستان ان يخصص اهم المبالغ من الميزانية في مشاريع لتربية وتعليم الأطفال واجيال الشباب ، وحينها سوف لا تضطر الحكومة لمزيد من القوات الأمنية للمحافظة على الأمن ولحماية المواطنين . إن محاولات التجاوز على دشت النهلة وقراها او غيرها من الأماكن في كوردستان بقصد تغيير تركيبتها السكانية ، هي نتيجة طبيعية لتلك الثقافة التي تدعو لكراهية الآخر وعدم القبول به .
من المؤكد ان القيادة الكوردية وفي مقدمتها الأستاذ مسعود اليارزاني وكل ألأقطاب في هذه القيادة لا يمكن ان توافق على سياسة التغيير الديموغرافي ولا تقبل بالتأثير على الخصوصيات الثقافية واللغوية والأثنية والدينية للمكونات غير الكوردية وغير الأسلامية ، ولنا الثقة ان يصار الى معالجة هذه الأشكالية بشكل آني وجذري ، لكي لا تتكرر في المستقبل وأن يصار الى معالجة التراكمات القديمة وإزالة آثارها لينعم الجميع في اجواء الأمن والأستقرار والتعايش المدني السلمي للجميع دون تفرقة او تمييز .
د. حبيب تومي / اوسلو في 17 / 06 / 2013
habeebtomi@yahoo.no