الراعي الحقيقي هو الذي يحرس على خرافه من الذئاب الخاطفة
المقدمةنحن مدفوعون في هذه الأيام لأن نبتكر خططاً ووسائل جديدة لتقوية الكنيسة والعمل على انتشار الإنجيل، وهذا الاتجاه من شأنه أن يقيد الإنسان ويجعله عبداً للأنظمة والقوانين والطقوس والتقاليد. لكن طريقة الله هي استخدام الإنسان المؤمن نفسه أكثر من أي شيء آخر، فالبشر هم الوسائط التي يستخدمها الله، وبينما تبحث الكنيسة عن طريق أفضل، يبحث الله عن رجال مؤمنين أفضل.
لعله لم يوجد وقت شعرت فيه الكنيسة في العراق بحاجتها إلى القوة مثل وقتنا الحاضر. ولست أظن أنه يوجد طريق آخر لاختبار القوة سوى طريق الصلاة الحارة، أنه بالرغم من وجود اجتماعات كثيرة للصلاة إلا أنها ضعيفة وهزيلة تفتقر إلى مصلين مواظبين يرفعون صلواتهم بلا انقطاع، والحاجة ماسة لأن نتعلم الصلاة من جديد ونلتحق بمدرسة الصلاة. والدعوة إلى الصلاة في هذه الأيام هي الدعوة العظمى والملحة التي يصرخ بها الروح القدس في قلب وحياة كل ابن لله.
كنيسة العراق
أين أولئك الخدام الذين يستطيعون أن يعلموا مؤمني العصر الحاضر كيف يصلّون ؟ أن جيل المسيحين العراقيين في أيامنا هذه هو جيل غير مصّلِ ؟ واننا في أشد الحاجة إلى خدام الكنيسة في العصر الرسولي لكي يدفعوا أولاد الله للصلاة ؟
ان زيادة قوة الكنيسة مالياًً، وامتلاكها للكثير من الوسائل العلمية والتقنية الحديثة التي تستخدم في الخدمة والتعليم، وكل الامكانيات الأخرى، ما لم تتقدس بالصلاة فانها تصبح لعنة كبرى تعوق تقدم كنيسة العراق وتعطل أثمار خدمتها، ونحن في هذه الأيام في أشد الحاجة إلى خدام مصلين يقدمون قدوة عملية للشعب. فيا ترى من الذي يقف في الثغرة ؟ ان الشخص الناضج الذي يستطيع أن يدفع الكنيسة للصلاة هو أعظم المصلحين وأكبر المرشدين، هو النبي الحقيقي في عصرنا.
ان الكنيسة في هذا العصر – كما في كل العصور أيضاً - تحتاج إلى رجال أشداء في الإيمان، يعيشون حياة القداسة والتدقيق، ويختبرون يوماً فيوماً الصلاة في خدمتهم، فتكون صلواتهم وإيمانهم وحياتهم العملية – قبل عظاتهم – سبباً في احداث ثورات روحية في حياة الأفراد كما في حياة الكنيسة أيضاً.
اننا لا نريد رجالاً لهم القدرة على اثارة عواطف الناس، وجذب انتباهم عن طريق الكلام المنمق المرتب، ولا نريد خداماً يجتذبون الشعب بوسائل التسلية المختلفة التي يدخلونها إلى كنائسهم، لكننا نريد خدام يستطيعون عن طريق الله وقوة الروح القدس وفاعلية الصلاة أن يحركوا قلوب الناس، ويحدثوا ثورات في حياتهم تكتسح كل شيء وتغير مجرى الحياة بالكامل.
ان الاستعداد الفطري، والمواهب الشخصية، والمعلومات المكتسبة عن طريق الدراسة، كل هذه لا تكون الخادم الناجح، لكن الإيمان الواثق، والصلاة المقتدرة، وقوة التكريس، والتواضع وانكار الذات، وفناء المجد الشخصي بالكامل في مجد المسيح، هذه هي عناصر النجاح للخادم الذي يستخدمه الله بقوة، ليس بطريقة تمثليلية استعراضية وانما بهدوء وتركيز يكتسحان كل ما يعترض طريق عمل الله.
يستطيع الله أن يعمل عجباً لو وجد الشخص المناسب، ويستطيع الإنسان أن يعمل عجباً لو ترك قيادة حياته لله، وفي تاريخ الكنيسة تستطيع أن تلمح كواكب مضيئة لامعة أنارت الطريق للآخرين وقادت الكثيرين للحق، ولا تزال سيرتهم حتى الآن سبب بركة ورفعة لحياة المؤمنين. ان حاجة الكنيسة في هذه الأيام – بكل طوائفها، هي إلى مثل هؤلاء.
ان الله يطلب أناساً قد صلبوا أنفسهم عن العالم بالكامل، واختبرو في حياتهم قوة الصلاة وفاعليتها، لكي يعمل بهم عجباً ويعيد إلينا مجد الكنيسة الأولى التي بدأت في العلية وهزت الأرض كلها، فهل من مجيب ؟
الخادم الحقيقي
إنجيل المسيح لا ينتشر بالطرق المعروفة، وهو لا ينشر نفسه بنفسه. ولكنه يتحرك بالذين ينادون به، اليوم على الخادم الحقيقي في كنيسة العراق أن يلبس الإنجيل ويتمثل به، فتتجسم فيه صفات الإنجيل وتعاليمه، فيشتعل قلبه بالمحبة للآخرين، وتسري في عروقه التضحية لأجل الآخرين، ويمتلئ كيانه من انكار الذات. وهكذا يبدو بين الناس متسربلاً بالتواضع، حكيماً كالحية، بسيطاً كالحمام، كعبد في طاعته، وكملك في كرامته، وكطفل في بساطته، على الخادم أن يلقي بنفسه أحضان الخدمة بكل غيرة وانكار ذات لأجل خلاص البشر، ويتمثل بشجاعة الشهداء الذين وقفوا بجانب الله يدافعون عن حق الإنجيل، ولكن ان كان كسولاً، أو طامعاً في مركز، أو خائفاً من الناس، أو مستدراً لعطفهم، أو ضعيف الإيمان بكلمة الله، وناقصاً في التكريس فلن يكون له أثر يذكر على العالم.
ينبغي على الخادم الحقيقي أن يوجه أقوى مواعظه لنفسه، وأن يكون أهم أعماله وأصعبها، هو فحص ذاته في محضر الله. ولا يمكن أن يقوم بهذه المهمة إلا من كان رجلاً مصلّياً مؤمناً وقديساً، والله لا يحتاج إلى أناس موهبين، أو مقتدرين في العلم والوعظ، لكنه يحتاج إلى رجال مقتدرين في الإيمان والقداسة والمحبة والتواضع. رجال يعظون الجماهير بالروح القدس، ويسلكون بين الناس في الروح القدس، فهؤلاء وحدهم هم الذين في امكانهم أن يخلقوا جيلاً جديداً للرب. بهذه الكيفية تكونت الكنيسة الأولى من أناس حسب مشيئة الله في البر والقداسة، فكان وعظهم يعني انكار الذات، وحمل الصليب والاستشهاد في الحق، وبذلك شهدوا لنعمة الله في جيلهم وفي الأجيال التي تبعتهم.
على الخادم أن يكون رجل الصلاة، فالصلاة هي أقوى سلاح له، والعظة الحقيقية هي التي تولد في المخدع. كما أن الخادم الحقيقي هو الذي ينشأ في المخدع، ويستمد حياته وتعاليمه ومواعظه من عشرته السرية مع الله. هو الذي يتثقل ويتمخض ويذرف الدموع في محضر الله. فالصلاة تصنع الرجال القديسين.
ان المنبر يفتقر في هذه الأيام إلى الصلاة. وكبرياء العلم من شأنها أن تضعف قوة الصلاة. لقد أصبحت الصلاة مجرد فريضة تؤدي لاستكمال العبادة، وليس للصلاة القوة والتأثير على المنبر الحديث كما كان لها على حياة بولس، أو خدمة بولس، وكل خادم لا يعطي للصلاة الاهتمام اللائق بها في حياته، وفي خدمته يصبح عاجزاً، وضعيفاً، وغير نافع بالنسبة لامتداد ملكوت الله على الأرض.
لقد وضع الله كل أمجاد الإنجيل تحت تصرف الإنسان، فما على الخادم أو المؤمن المسيحي الحقيقي، إلا أن يأخذ الرسالة من الله ويوصلها للإنسان، وما الرسول اليوم إلا القناة التي ينساب داخلها زيت النعمة الإلهية. وعلى القناة أن تكون مفتوحة وليس بها ثقوب حتى يتدفق منها الزيت دون أن يفقد منه شيء.
ان نجاح رسالة الإنجيل يتوقف على أولئك الذين ينادون به. وحين يعلن الله أن " عيني الرب تجولان في كل الأرض ليتشدد مع الذين قلوبهم كاملة نحوه "، فهو يريد أن يرينا أهمية البشر بالنسبة له واعتماده عليهم كالقنوات التي توصل قوته للعالم.
نحن معرضون لأن نفقد هذا الحق الثمين وسط زحام العالم المادي الذي نعيش فيه، ومتى فقدت الكنيسة هذا الحق فانها تسقط في الظلام والاضطراب. ان الكنيسة في هذه الأيام لا تحتاج إلى تنظيمات، أو اختراع طرق أحدث، بل إلى رجال مؤمنين يمكن أن يستخدمهم الروح القدس. رجال مصلّين، رجال مقتدرين في الصلاة، فالروح القدس لا يحل على الأشياء بل على البشر، البشر المصليّن.
قال أحد المؤرخين : ان الذي يصنع التاريخ هم أولئك الذين لهم الشخصيات البارزة وليست الأنظمة السياسية، أو الأوضاع الاجتماعية. وهذا ينطبق بصورة أدق على انجيل المسيح، فشخصية وتصرفات رجال المسيح هي التي تغير الأمم والشعوب وتجعلها تصبح مسيحية.
والرسول في نظر الله أهم من الرسالة نفسها، والخادم أهم من العظة، لأن الخادم هو الذي يصنع العظة، وكما ان لبن الأم هو عصارة حياتها كذلك العظة هي خلاصة حياة الخادم، فالوعظ لا يكون وليد الساعة، بل هو النبع الفائض من الحياة، وقد يستغرق تكوين عظة واحدة عشرين عاماً، لأن الخادم يحتاج لتلك المدة، والعظة الحقيقية جزء لا يتجزأ من حياة الخادم، فهي تنمو بنموه، وتتقوى حين يتقوى هو، وتمتلئ من روح الله حينما يمتلئ هو منه.
وحين قال الرسول بولس : " إنجيلي " لم يكن يقصد ملكيته للإنجيل، أو أن يفتخر بما كتبه، بل أن الإنجيل قد ملك على قلبه وملأ حياته وتجسم في أعماله فأصبح صورة مطابقة لحياته. أين هي مواعظ بولس ؟ انها مجرد كلمات متناثرة ألقاها بولس أيام حياته، ولكن الرسول بولس – وهو أعظم من عظاته – لا يزال حياً بشخصيته ومواقفه وآثاره الخالدة في الكنيسة. فالوعظ مجرد صوت، وقد يختفي الصوت وتنسى العظة من الذاكرة، ولكن القس يبقى حياً.
الخاتمة
لا يمكن للعظة، أو الكرازة أن ترتفع عن مستوى الكارز، فالخدام الأموات يلّقون مواعظ ميتة، والمواعظ الميتة تقتل السامعين، كل شيء يتوقف على شخصية الخادم وحياته الروحية، في العهد القديم كان رئيس الكهنة يلبس صدرة من ذهب مكتوباً عليها باحجار كريمة ( قدس للرب ). كذلك ينبغي أن يتحلى الخادم، أو الرسول بالمسيح بنفس هذا الشعار ويكون قدساً للرب.
ليتنا اليوم نصلي بحرارة حتى تتحق لنا كل مواعيد الله المختصة باستجابة الصلاة.
الراهب اشور ياقو البازي
من العراق