Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

الراهـب دوماً بالناقـوس يَـنـشـغِـلُ ورُتبة الأكـتاف وهْـمٌ له أجَـلُ

حـدّثـني الأب المرحـوم يوحـنان ﭽـولاغ في منـتصف الستينات من القـرن الماضي بعـض الشيء عـن الأديرة والرهـبنات ، فـقال إنّ الصَّـلاة وخـدمة الناس واجـب عـلى كـل المؤمنين والمؤمنات ، ولكـن حـين يَـنـذر شـخـص نفـسَه للإنخـراط في الأديرة والعُـمُرات ، يَعـرف أنّ الحـياة فـيها وإنْ كانت طبـيعـية شـبـيهة بعـض الشيء بالأقـسام الداخـلية للطلاب والطالبات ، حـيث يخـدمون أنفـسهـم بأنفـسهـم ومتضرّعـين لرب السماوات ، إلاّ أنهـم يكـونون مقـتـنعـين وقابلين إلزاماً بفـروض الدير الثلاث وهي : ( البتولية ، الطاعة ، العـمل ) بالإضافة إلى تجَـرّدهـم من الممتـلكات ومناصب الدنيويّات ، وإن إلإلتزام بها لا مناصّ منه وإلاّ ، فـمَن يرفـض واحـدة منها لا ينـتسب إلى الدير، وكـل ذلك إشتقاق من أقـوال ربنا يسوع المسيح ولحـياته مُحاكاة . ولما تقـدّمَـتْ بنا السـنون واخـتبرنا الحـياة صِرنا ندرك أن رسالة الراهـب مَهَـمّـة ترتقي به إلى مستوى فـوق الأرضيات ، تـتطلب منه الإلتزام إلزاماً بالإبتعاد عـن ملذات الذات الآنيّات ، وإغـراءات الدنيا المتلاشـيات . إنه يتفـرّغ للخـَيار الذي إخـتاره لنفـسه وليس مُجـبَراً عـليه بل بمحـض إرادته الذاتية ، ويسترخـص الصكـوك الورقـية والمناصب الترابـية ليرتقي بقـلبه وذهـنه وكل أحاسيـسه إلى فـضاءات الأرواح السماوية ، فـلا يرتبط بأسْرة بل أسْرتـُه هي البشرية ، إنه شخـص واحـد في ربه الواحـد فإذا صار ذي إلهَـين مزدَوَجَـين أمسى مزدوجَ الشخـصية ، وحـينـئذ يتيه في التـنقــّل ما بـين هـذين المعـبودَين كخادم سـيّـدَين ومناقـضاً مبادئه الإنجـيلية ، فـلابدّ من أن يوقـر أحـدهـما ويهـز ذيله أمام الآخـر ، أو يحـترم الثاني ويكـره الأول ، وبذلك قـد يربح العالم كـله بقـيمته الوهـمية بعـد أن يخـسر نفـسه المشـتراة من رابية الجـلجـلة الحـقـيقـية .

وحـديثـنا عـن الطاعة فإنها لا تعـني الخـنوع ولا الخـضوع لأن في هـذين المصطلحَـين معاني الإجـحاف والظلم اللذين قـد يمتـدّان إلى ممارسة إضطهاد المرؤوس الفـقـير مِن قِـبَـل الجالس عـلى كـرسيّ الرئاسية ، والتي ستقـود لا محالة إلى ثورة الفـلاّح عـلى الإقـطاعـية ، وإنما تعـني قـبول التعـليمات والتوصيات التي يضعها رئيس الدير ذو الحـكـمة والخِـبرة ، والذي يتـّصف برجاحة العـقـل ومنطقـية الفـكـرة ، وتعادل الميزان وعـدم التسرّع في إصدارالأحـكام بالمَرة ، ورزانة الشخـصية وتواضع النفـس بالإضافة إلى دماثة الخــُلـُق وهـدوء الأعـصاب ورحابة الصدر ، يمتلىء قـلبه بالحـب والمودّة لخـدمة الآخـرين إخـوتِه ومِضياف لهـم . فإذا زاغ الراهـب عـمّا ذكـرناه مهـما كان موقـعـه ، فإن الأسكـيم لا يكـون إلاّ رداء له ومِن ضربة الشمس يقـيه . ولما إخـتبرْتُ الحـياة العـسكـرية صرتُ أميّـز طاعـتها العـمياء المسـبوقة بدعـوة إجـبارية ، والتي بها يُكـلـّـف الجـنديّ بخـدمة الوطن الإلزامية ، ولذلك نراه منذ اليوم الأول لسَـوقه إلى الجـيش ينـتظر يوم تسريحه منه . أما الطاعة الرهـبنية فإنها منبعـثة من رغـبة ذاتية لخـدمة البشرية ، تجـعـل الراهـب ينفــّـذ ما يترتــّب عـليه بصورة طـَوعـية ، واجـبات وتعـليمات وتوصيات تمليها عـليه قـوانين الحياة النسكـية ، مدى الحـياة برضىً تام وأفـراح قـلبـية .

أما العـمل ، فـكـلنا نعـلم وقـد رأينا بأمّ أعـينـنا في ربوع بلدنا ، أن الراهـب كان يعـمل في مخـتلف قـطاعات الإنـتاج في أديرتـنا ، والبعـض القـليل لا يزال يعـمل إلى يومنا . فهـو الزارع والساقي والحاصد والطباخ والمُنظــّـف وهـو يعـمل في الكـَرْم ويعـصر العـنب ويرعى الغـنم ، ويُعَـلــّم ويتعـلـّم ويخـط الكـتب.....ولا يوجـد راهـب ينهـض لتـناول الفـطور ثم ينـتظر الغـداء ليُخـطــّط للعـشاء ، ويتــّكىء عـلى مخـدّة لمشاهـدة البرامج التلفـزيونية ، فـهـو لا يقـبل أن يُخـدَم بل يريد أن يَخـدُم مثـلما عـلـّمنا ربنا الذي هـو قـدوتـُـنا . وأتذكـّر موقـفاً كنـتُ في زيارة عـند صديق وشاءت الصدفة أنْ حـضر كاهـن جـلسَـتـنا ، فأراد أحـد الأصدقاء من الحاضرين أن يضفي جـواً من المرح عـلى لقائـنا فـقال لي : أما كان الأفـضل لك لو إخـترتَ لحـياتك سلك الأكـليروس فـهـو عـمل يدرّ عـليك ربحاً وفـيراً ، فـعـلـّـق مَن يهـمّـه الأمر فـوراً قائلاً : إنّ الكاهـن ليس موظفاً ولا هـو صاحـب متجـر وإنما الكـتاب المقـدس يقـول : إنّ مَن يعـمل للمذبح يأكل من المذبح ، فـقـلتُ له : ولكـن الكتاب المقـدس يقـول أيضاً : ( كـُـنا نكرز لكـم بإنجـيل الله ونحـن عاملون ليلاً ونهاراً كي لا نـُـثـقـل عـلى أحـد منكم ) تسالونيكي الأولى 2: 9 فـلماذا لا تذكـر هـذا ؟ فـلـَم يُجـب حـضرته عـلى سؤالي ! .
لا شك أن حـياة اليوم ليست كالبارحة وراهـب القـرن الحادي والعـشرين ليس كراهـب السنين الماضية ! لأن التكـنولوجـيا فـرضتْ نفـسها بمخـتلف حـقـولها ، والإنسان ومن أي موقـع كان ، لم يعـد بإمكانه الرجـوع إلى ركـوب الخـيل في بلد مترو الأنفاق ، ولا أن يـبعـث رسالة إلى مَن يهـمه الأمر بـيَـد ساعي البريد لينـتظر الجـواب بعـد أشهـر ونحـن في عـصر الإنـترنيت ، فـحـياتـنا المادية في تغـيّر مستمر ولكـن المبادىء ثابتة لا تـتغـيّر ! فـلا يمكـن تغـيـير الحـب الذي عـند الله المحَـبة ، ولا الأمانة والعـدل اللذين عـند الله الأمين والعادل ، وهـكـذا فإن القـيَم والأخـلاق التي عـلـّمها لنا الرب في إنجـيله لن تـتبدّل إذا نصبْـنا فـوق سطح منزلنا قـرصاً لإستلام البرامج التلفـزيونية من الأقـمار الإصطـناعـية .
نحـن المسيحـيّون كـلنا مدعـوّون إلى الإيمان والتوبة والإلتزام بمبادىء كِـتابنا المقـدس نبراساً ينير الدرب أمامنا للسَـير في خـُطى معـلـّمنا الأعـظم ، ولا يخـفى عـلى أحـد أنّ هـناك بـينـنا مَن تـَمـيّـز في موقـعه فـصار قـدوة لنا كراهـب الدير مثلاً فـهـو مرآة أمامنا ، نرى صورة المسيح في وجـهه ، ونسمع كـلام المسيح في أقـواله ، ونـتـتبّع أعـمال المسيح في سـلوكه ، إنه صاحـب رسالة إخـتارها كي يُبشـّرنا بها مُبتدئاً بنفـسه أولاً فـنقـلـّده نحـن ثانياً . فـحـياته هـذه ميّـزتـْه عـنا فـصار ذي موقـع يحـسـده عـليه الكـثيرون . إنّ راهـب الدير عـلى أكـتافه صـليب المسيح يحـملُ ، ذلك الذي تفـتخـر به الجـلجـلة والجـبلُ ، وعـليه وبكل تأكـيد لا يُحابي مَن يـبحـث عـنها بنفـض جُـبّـته وبهـذا السـلوك لا يقـبلُ ، ومع مَن يُلاسـنه ويُـداهـنه لا يعـملُ ، إنه قـنديل منير يكـون له الأفـضلُ ، لو أنّ جُـهـده لخـدمتـنا نحـن الخـطاة يُبـذلُ ، ويُعـطي ما لله لله جـلّ جـلاله ، وما لقـيصر يتركـه لإبن قـيصر القاصر وحـده . إنـنا نريد راهـبنا دَوماً بالناقـوس يـنشـغـل ، ورُتبة الأكـتاف وهْـمٌ له أجـل .

مايكل سـيـﭙـي / سـدني Opinions