Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

الرسالة 11 من تحت الأنقاض

أيها الصديق العزيز الذي يهمني جدا أن أبقى وأياك على صِلة إنسانية حية نتبادل الأحاسيس والمشاعر مُمَنيا نفسي بأن يساعد أحدنا الآخر على صِعاب الدنيا لنكتشف عِلاج لبلوانا، فقد أكون قلقا وتفكيري لا يساعدني على حلّ المعضلة التي تصادفني لأجدك مستقرا وجاهزا للمساعدة ومد يد العون لي كي أتجاوز ما انا عليه.
فالإنسانية هي هكذا وأجدادنا قالوا: الصديق وقت الضيق، فمعدن الصداقة لا يمكن معرفته إلا عندما نكون في الشدة، لأن الكثير ممن نعتبرهم أصدقاء مقربين... يهربون بعيدا!!! تماما كما فعل عدد من حواريوا المسيح وتركوه وحيدا يصارع الموت مع جلاديه، ففي وقت الضيق يَظهر الأصدقاء الحقيقيين، وهكذا فالنار تًصفّي الذهب والمعادن من شوائبها، والشدة هي هذه النار بالنسبة للبشر التي تُصفي الناس وتغربلهم وتوضح صورتهم للآخرين.
ولا أريد من هذه المقدمة أيها العزيز سوى أن أقوم بتوضيح كم تُدخل الفرحة في نفسي المتألمة عندما أجد ردك على ما أكتبه، فساعتها أحسّ بالأمل يتجدد في كياني واليأس ينزوي جانبا وأزداد قوة رغم كل هذا الكم الهائل من الأحزان التي تحيط بي وتجعلني أسيرَ واقعٍ يصعب الخروج منه؛ فكلما اجتمع اثنان عِندنا يكون كلامهم عن الحوادث وأخبار حوادث وقتل وخطف ودمار ومشاكل الحياة التي تزداد سوءا دون امل يلوح في الأفق.
ومشاكلنا عزيزي سياسية ومصالح السياسيين، أكثر مما هي مشكلة طائفية أو مذهبية أو دينية، فلا تصدق أن الحرب هي طائفية بين السنة والشيعة أو انها قد تأصلت فيما بينهما، فهذا ما هو إلا كذب ورياء يصدر عن أجهزة الأعلام ويُروج له من يرغب لنا أن نتقاتل!!! فلو كانت كذلك فما الذي يجمع الكتلة الشيعية في البرلمان مع الكتلة الكردية ويتحالفان وكلنا نعلم أم معظم الأكراد هم من المذهب السني، أم أن السنة العرب يختلفون عن السنة الأكراد؟ وأنا الذي أعرفه أن السني أي كان هو سني بغض النظر عن قوميته، وهكذا الشيعي رغم بعض الاختلافات المذهبية المعقدة التي لا أريد الخوض فيها.
صديقي العزيز: في بلدنا تحدث اليوم ما لم يكتبه التاريخ يوما من حوادث مرعبة أو يندى لها الجبين وقد تصنف من حوادث الخسة والنذالة رغم أسفي لاستخدمي هذه التشبيهات الصعبة واللا إنسانية فهل ممكن أن تتصور من يستخدم الجثث لمن أصبحوا ضحايا الإرهاب مادة للمساومة، وهنا أروي لك بعض التفاصيل لكي تعذرني عندما أكتب لك عن شعب أبتلي بعناصر غريبة وممارسات أغرب من الخيال، فعند حدوث أنفجار ما وسقوط ضحايا أبرياء وهم هكذا غالبا!!! يوجد من يهتم بجمع أجهزة الاتصال من الضحايا (الموبايل) ليقوم لاحقا بالاتصال بذويهم بأنهم مخطوفون لديه وعليهم دفع الفدية و و و وهكذا بعد مفاوضات مقتضبة يتفق الطرفان على مبلغ من المال يوصلونه لعديم الضمير هذا ليقوم لاحقا بأخبارهم عليهم أخذ الجثة من الطب العدلي!!!! ولا تكفي مئات علامات التعجب أزاء هذا الحال المخزي والمبكي، هل كنت تتوقع أن العراقي الذي كان يفتخر بقوله (أنا أخو خيتة) يقوم بهذه الممارسات؟ هذه حقيقة وليست من أفلام الخيال، والعوائل المفجوعة رغم فاجعتهم بضحيتهم يُفجعون بمالهم.
وأروي لك حادثة أخرى لأب كان يقود سيارته برفقة ولده في منطقة الدورة حيث لم ينتبه لمفرزة من قوات الاحتلال يبدو أنها كانت راجلة وربما حذروه أو لا، المهم أطلقو عليه النار ليتفتت رأسه قطعا صغيرة داخل سيارته وامام أنظار ولده الصغير!!! وعندما توقفت السيارة ووصلت المفرزة إليها ووجدوا الحالة قالوا بالحرف الواحد (نحن آسفون) بلغتهم الأجنبية، وأخذو الضحية مع الولد وأوصلوهم إلى بيتهم مرددين ذات العبارة وعند دفن الجثة وعودة العائلة المفجوعة إلى بيتها هل تتوقع ماذا رأت هذه العائلة؟ وجدوا أن البيت قد نهب عن آخره!!!! هذا جانب من أخلاق العراقيين بعد الحروب المتسلسلة التي خاضوها وفساد الأخلاق وموت الضمائر!!!
فكم من علامات التعجب أسطرها أزاء هذه الأمور التي يندى لها الجبين، وأنت تكتب أن بلدتك قد غابت الشمس عنها، فالشمس غابت عن كل العراق وبات الجميع يعيشون في ظلام دامس لا حركة فيه سوى لقوى الظلام، ولا متنفس فيه سوى لمستغلي الفرص مهما كانت الفرصة مأساوية أو دموية، فنفس ما يحدث في بغداد يحدث في العمارة والبصرة والموصل وخانقين وكركوك، وربما ليس بهذه الحدة هنا أو هناك.
أكتب لك والحسرات تملأ هاجسي وقلبي يتفطر حزنا وألما، فكيف حدث هذا المنقلب وتغيرت أحوال أهلنا؟ وكأننا نسينا ما تعلمناه في الدراسة من الأخلاق والتضحية والإيثار وحب الآخر والتضحية في سبيله، ولازلت أتذكر القصة التي درسناها في الابتدائية عن الأعرابيان اللذان كانا يسيران في الصحراء ونفذ الماء من جعبتيهما، وسقطا ينتظران لحظة الموت، وصادف أن أعرابيا ثالثا مرّ بأحدهما ووجده على قيد الحياة وبحاجة إلى الماء وعند محاولته أن يسقيه طلب منه أن يسرع لنجدة صديقه فهو أحوج منه إلى الماء وصديقه كان قد سقط هو الآخر على بعد عشرات الأمتار منه، وعند ذهاب الأعرابي للصديق وجده قد فارق الحياة للتو، فعاد مسرعا للأول ليجده قد لفظ هو الآخر أنفاسه من العطش بينما لو أخذ رشفة من الماء قبل صديقه لكانت عادت إليه الحياة واستمر في الحياة، لكنه آثر أن ينقذ صديقه قبل أن ينقذ نفسه!!!!
أين نحن من تلك الأخلاق، وسمعنا وقرأنا ما حدث أيام السلب والنهب كيف أن عديمي الضمائر أخذو سرير المستشفى من تحت المريض وهو الذي خرج لتوه من العملية وتركوه على الأرض الصلبة لا لشيء سوى لكي يفوزوا بالسرير ويبيعوه بأبخس الأثمان ولا يهم إن تألم المريض أو زاد مرضه، فهو بالأساس كان يتألم فعليه أن يتألم أو يستمر بالألم، هكذا مارس أبناء العراق في غفلة من الزمن، ولو التفت الخالق لهذه الأفعال لقرر أن يبيد هذه الفئة من الشعب لأنه شغب وليس شعب، ولأنه الآفة التي تستوجب الإستئصال حالها حال أي ورم في الجسم أو مرض ينخر فيه.
إن استمريت في الكتابة لك أيها العزيز فقد أزداد ألما ويزداد قلمي حدة لأنه يبحث في الأمور السيئة تماما كما يبحث العامل في كومة القمامة كلما يرفع جانبا منها تنبعث الروائح الكريهة بصورة أكبر ليشمها البعيدون، هكذا فقلمي اليوم حاول ان يرفع بعض من القمامة التي خلّفها أبناء بلدي بتصرفاتهم فظهرت أشكال من الروائح المقززة التي يحق للقاصي والداني أن يتبرأ منها ويبتعد بل يحصّن نفسه من الاقتراب للعراقيين ويحجرهم كي لا تتأذى أو تصاب أخلاق الأنسانية بهذا المصاب الأليم.
ومع كل ذلك هل نترك المريض هكذا دون علاج ونتركه محجوزا بعيدا تماما كما يُحجز المصاب بداء البرص مخافة أن يعدي غيره، لا يا صديقي ليس هذا صحيحا والمرض إن لم يتم استئصاله اليوم فربما يصبح أقوى ويُعدي الكثيرين ويصبح أمر السيطرة عليه صعبا للغاية، فأدعوك أن تعمل ما في وسعك مع الخيرين لكي نستخدم الدواء وحتى لو اضطررنا إلى آخره الذي هو الكَي، لكي نوقف امتداد المرض إلى بقية الجسم السليم، فلا زال هناك الكثير من الجسم ما زال سليما، وطلابا أذكياء أدوا امتحاناتهم بكل جد ومسؤولية وحازوا على درجات عالية دليل هذا الذكاء وأنه لا زال المعدن الطيب موجود والجسم لا زال فيه مَن يفكر ويعمل بصورة صحيحة.
هذا الذي أريده منك أن تعمل ما في وسعك على وقاية الجزء السليم من الجسم وحتى يتم العناية به كي يعطي براعم للخير وتعود صباحاتنا مشرقة وأقلامنا تكتب الأشعار وتعود البلابل على أغصان الأشجار تغني أعذب الألحان ويعود الأطفال إلى أغنيتهم المعهودة التي درسناها ونحن صغار (البلبل الفتان ... يطير في البستان ... ) Opinions