السوق الخليجية المشتركة : وحدة الجيوب قبل القصور
منذ قيام مجلس التعاون الخليجي عام 1981؛ أي منذ 26 عاماً والدعوة إلى الوحدة السياسية في الخليج وخارج الخليج في العالم العربي قائمة، ولكن هذه الوحدة لم تتحقق لأسباب يطول شرحها في هذا المجال. وقليل جداً من الباحثين السياسيين من نادى بالوحدة الاقتصادية كطريق صحيح وسليم إلى الوحدة السياسية، في زمن أصبحت فيه وحدة الرغيف أقوى من وحدة السيف، ووحدة السوق أقوى من وحدة القصور.الطريق إلى الوحدة يمرُّ من الجيوب قبل القصور
لقد أدرك الخليجيون أخيراً أهمية الوحدة الاقتصادية، عندما نظروا إلى الوحدة الأوروبية القائمة، والتي جرى العمل لها طيلة خمسين سنة مضت، في حين تحققت هذه الوحدة – السوق الخليجية المشتركة - الآن بعد ربع قرن تقريباً ، وبوتيرة أسرع من الوحدة الأوروبية، وذلك لوجود قواسم مشتركة بين دول الخليج كالعِرق الواحد، واللغة الواحدة، والدين الواحد، والتاريخ الواحد، والجغرافيا الواحدة .. الخ.
لقد دخل الخليج العربي بعد إعلان السوق الخليجية المشتركة في قمة الدوحة الخليجية السنوية (4/12/2007) منعطفاً شديد الأهمية، لا يتوقف عند مجرد السوق الخليجية المشتركة، ولكنه يتعداه مستقبلاً إلى وحدة المواقف السياسية الخارجية، وإلى وحدة القوة العسكرية، وإلى وحدة قوانين وأنظمة اجتماعية مختلفة. والأهم من هذا وحدة العملة الخليجية، أو الوحدة النقدية التي تمَّ الوعد بتحقيقها في عام 2010 رغم ملاحظات سلبية عليها، من قبل بعض الباحثين والمتخصصين الاقتصاديين. فالمدخل إلى كل هذا لم يكن الوحدة السياسية أو وحدة القصور، ولكنها الوحدة الاقتصادية أو وحدة الجيوب، التي تحققت أخيراً.
إعلان الدوحة التأريخي
جاء إعلان الدوحة للسوق الخليجية المشتركة يقول لنا:
لقد اعتمدت السوق الخليجية المشتركة على المبدأ الذي نصت المادة الثالثة من الاتفاقية الاقتصادية، بأن يُعامل مواطنو دول المجلس الطبيعيون والاعتباريون في أي دولة من الدول الأعضاء نفس معاملة مواطنيها دون تفريق أو تمييز في كافة المجالات الاقتصادية، وعلى وجه الخصوص ما يلي:
- مزاولة جميع الأنشطة الاقتصادية والاستثمارية والخدمية.
- ممارسة المهن والحرف.
- تداول وشراء الأسهم وتأسيس الشركات.
- العمل في القطاعات الحكومية والأهلية.
- التأمين الاجتماعي والتقاعد.
- تملك العقار.
- تنقل رؤوس الأموال.
- المعاملة الضريبية.
- الإستفادة من الخدمات التعليمية والصحية والاجتماعية.
- التنقل والاقامة.
وتهدف السوق الخليجية المشتركة بذلك إلى إيجاد سوق واحدة يتم من خلالها استفادة مواطني دول المجلس من الفرص المتاحة في الاقتصاد الخليجي، وفتح مجال أوسع للاستثمار البيني والأجنبي، وتعظيم الفوائد الناجمة عن اقتصاديات الحجم، ورفع الكفاءة في الإنتاج، وتحقيق الاستخدام الأمثل للموارد المتاحة، وتحسين الوضع التفاوضي لدول المجلس وتعزيز مكانتها الفاعلة والمؤثرة بين التجمعات الاقتصادية الدولية.
المال والعقل معاً والقوة الحقيقة
لقد استطاعت الأمم في التاريخ البشري القديم والحديث، أن تحقق النهضة والتقدم الحضاري الواسع من خلال عاملين أساسيين هما: توفر المال، وتوفر المستوى العالي للعقل البشري في كافة المجالات. فلا المال وحده ينفع لتحقيق ذلك، ولا المستوى العالي للعقل البشري وحده ينفع أيضاً لتحقيق ذلك. والشاعر أحمد شوقي أدرك هذه الحقيقة التاريخية، وقال:
بالعلم والمال يبني الناس مُلكهمُ
لم يُبنَ مُلكٌ على جهلٍ وإقلال
ولو أردنا أن نضرب مثلين واضحين من التاريخ الحديث على ذلك، لما وجدنا أصدق من المثال الأمريكي والمثال البريطاني. فأمريكا كان لديها ثروة هائلة قبل بدء الهجرة الأوروبية إليها، وقبل نزوح العقول الأوروبية إلى أمريكا في القرن السابع عشر، ورغم هذه الثروة الهائلة التي لا تزال باقية حتى الآن، إلا أن أمريكا لم تحقق العظمة والقوة والسلطة التي تملكها الآن إلا عندما توفر لديها عامل العلم والعقل.
كذلك الحال بالنسبة لبريطانيا. فبريطانيا لم تحقق إمبراطوريتها التي كانت لا تغيب عنها الشمس إلا عندما خرجت إلى الهند والعالم العربي وأفريقيا ونشرت استعمارها ونهبت ثروات الأمم. فقد كان لديها العقل البريطاني الرفيع المستوى المتمثل في ذلك الوقت بالملكة العظيمة اليزابث تيودور (1533-1603) التي وصفت بأنها أعقل إمرأة في التاريخ، والتي كانت تعدم كل من يمارس السحر بموجب قانون سنَّته في عام 1562 واعدمت بموجبه 81 ساحرة وساحر. وكانت جامعتا اكسفورد وكامبردج في ذلك الوقت قد انشئتا. كما تمثل العقل الانجليزي الرفيع في تلك الفترة بالمفكر توماس مور (1478-1535) صاحب "المدينة الفاضلة"، وفرنسيس بيكون (1561-1621) الذي كان من أكبر العقول وأنشطها في أوروبا. كما ظهر من العلماء العظام في بريطانيا في هذه الفترة روبرت هوك مكتشف العجلة، وكريستان هيوجنس مكتشف قانون القوة المركزية الطاردة، ووليم جلبرت الفيزيائي والطبيب والعالم الفلكي وغيرهم. وظهر شكسبير 1564-1616) في هذه الفترة. ولكن كل هذا لم يؤهل بريطانيا لأن تصبح قوة عظمى في القرن التاسع عشر إلا عندما ملكت مال وثروات المستعمرات.
من هو المستفيد الآن من السوق المشتركة؟
من هو المستفيد من السوق الخليجية المشتركة؟
الجميع يجيب بصوت واحد: أبناء الخليج أولاً، والعرب أجمعين من بعدهم.
فهل هذا صحيح؟
لو تأملنا في قرارات السوق الخليجية المشتركة بسرعة، لوجدنا أن هذه السوق تخدم - على المدى القصير وليس على المدى الطويل - رجال الأعمال أكثر مما تخدم المواطنين أنفسهم. ولا نعلم إلى متى سيمتد هذا المدى القصير.
فرجال الأعمال الخليجيين سوف يوسّعون أعمالهم وتجارتهم، ويزيدون من أرباحهم بموجب قوانين السوق الخليجية المشتركة. فبدلاً من أن يكون الوكيل السعودي – مثالاً لا حصراً – وكيلاً لشركة غربية أو شرقية في السعودية فقط، يصبح وكيلاً لهذه الشركة في كافة دول الخليج. وبدلاً من أن تتفاوض شركة شرقية أو غربية لتسويق منتج ما في البحرين ثم تنتقل إلى باقي دول الخليج للتفاوض مع تجار آخرين في هذه البلدان، فهي تتفاوض مع تاجر في البحرين ليكون وكيلاً لها في كافة دول الخليج وهكذا. فالقرارات التي اتخذتها القمة الخليجية في الدوحة بشأن السوق الخليجية المشتركة، كمزاولة جميع الأنشطة الاقتصادية والاستثمارية والخدمية، وتداول وشراء الأسهم وتأسيس الشركات، و تملُّك العقار، وتنقل رؤوس الأموال، والمعاملة الضريبية، كلها لصالح رجال الأعمال بالدرجة الأولى.
أما المواطن الخليجي فلن يستفيد كثيراً من هذه الاتفاقية على المدى القصير، ذلك أنه لم يُهيأ تعليمياً وتربوياً لكي يحلَّ محلَّ مئات الألوف من غير الخليجيين العاملين في أسواق الخليج. ولعل ما نُشر أخيراً من أنه لا توجد جامعة خليجية من ضمن أشهر 400 جامعة في العالم كان كافياً لكي يدرك الخليجيون من أن التعليم الخليجي في دركٍ أسفل، وأن مخرجات التعليم الخليجي تساعد على زيادة نسبة البطالة في الخليج عامة. فالشاب الكويتي الذي لم يجد عملاً في الكويت من الصعب أن يجد له عملاً في أية دولة خليجية أخرى بموجب اتفاقية السوق الخليجية المشتركة. فالبطالة في الخليج ليست قاصرة على دولة خليجية معينة، وإنما هي ظاهرة بارزة في كافة دول الخليج وبنسب مختلفة. لذا، فإن قرارات السوق الخليجية المشتركة بخصوص ممارسة المهن والحرف، والعمل في القطاعات الحكومية والأهلية وما يتبعها من تأمين وتقاعد، والتنقل والإقامة، لن يستفيد منها المواطن الخليجي على المدى القصير إلا إذا أصبحت مخرجات التعليم الخليجي هو ما تحتاجه أسواق العمل الخليجي، وعندها يمكن الاستغناء عن خدمات غير الخليجيين وإحلال الخليجيين في المجالات العلمية والعملية المطلوبة بإلحاح في أسواق الخليج.
فبدون إصلاح سريع وفعّال للتعليم، وارتقاء بهذا التعليم في الخليج، بحيث تطغى العلوم على الأيديولوجيا في المناهج التعليمية، وتُخرّج المعاهد والجامعات ما نحتاج لا ما نريد، سيبقى المال وحده بدون العلم في السوق الخليجية المشتركة يلعب دور الهواء في البالون، وليس دور الماء في التربة الصالحة.