السومريون ليسوا أكراداً … الى ان تظهر أدلة جديدة
الغموض السومري يبقى مثاراً للجدل، ما لم تتوافر أدلة تاريخية وآثارية قاطعة حول الهوية السومرية، وما دامت هذه الادلة القاطعة غائبة فالجدل مستمر، والنظريات تترى. وقد قيل الكثير عن أصل السومريين، ولعل النظرية الخليجية كانت أقواها، مع ان لها ثغراتها، ومفادها ان السومريين قدموا من الخليج العربي، ربما من شبه القارة الهندية او خوزستان، الخ.لكن النظريات الكلاسيكية اخذت تفقد قوتها بعد توافر بينات اثارية في العقود الاخيرة عن حضارات رافدينية سابقة للمرحلة السومرية تورث انطباعاً بان الاخيرة كانت امتداداً لها وليست حلقة منفصلة عنها او غريبة عن المنطقة. وهذا يعيد الى الاذهان ما قاله العالم الاثاري الشهير د. فرانكفورت قبل اربعين عاماً: "ان المناقشة المسهبة لمشكلة اصل السومريين يمكن ان تتضح في النهاية بانها مجرد ملاحقة وهم لا وجود لها مطلقاً".
ومع ذلك لا يزال اللغز السومري قائماً، ولا تزال تظهر بين حين وآخر آراء جديدة حوله. احدث هذه الاراء – في عالمنا العربي – ما طرحه السيد صلاح سعد الله بما يفيد ان السومريين اكراد (جريدة الحياة 29 كانون الثاني 1995)، ورأينا ان نناقش هذه الفرضية التي طرحها السيد سعد الله بشيئ من التواضع لكن بمزيد من التسرع، لانه "لفلف" اطروحته هذه باقل ما يمكن من "الادلة" ومن دون ان يحسب حساباً – على ما يبدو – للطعون التي يمكن ان تتعرض لها. لكن فرضيته مع ذلك كله، تبدو طريفة و"متماسكة" للوهلة الاولى، لذا فهي جديرة بالنقاش وليس كمثل الفرضيات الاخرى العجيبة، كقول بعضنا "ان السومريين عرب"، وقول بعضهم "ان اليهود سومريون".
تستند فرضية سعد الله الى النقاط التالية:
اولاً: بضع مفردات لا تكاد تتجاوز عدد اصابع الكف الواحدة يعتبرها مشتركة بين اللغتين السومرية والكردية، هي (أ) جلجامش، (ب) كلمة "رب" الدالة على (اللوح الكتابي)، (ج) كلمة "در" الدالة على الشجرة، (د) كلمة "كور" وتعني (عميق، العالم السفلي) (ه) كلمة "آرو" الدالة على الماء، ومرة اخرى كلمة Gihc الدالة على الشجرة.
ثانياً: تبنى الرأي القائل بأن السومريين عراقيون اصلاً انحدروا من شمال العراق. وصاحب هذا الرأي هو الدكتور فوزي رشيد من العراق، وذلك بالاستناد الى الكشوفات الآثارية في العقود الاخيرة التي قدمت بينات على وجود ظواهر حضارية، شبيهة بالسومرية، عند العبيديين السابقين لهم وقبلهم السامرائيين، الخ.
ثالثاً: بعض وقائع ملحمة جلجامش، وشيء يتعلق باسم (خواوا).
وفي ما يلي مناقشة لهذه النقاط:
1 - البند الاول لا يستحق المناقشة في رأينا، لأن من غير المنطقي ان تبنى نظرية عن صلة قربى بين لغتين استناداً الى خمس او ست مفردات متشابهة بينهما (حتى لو كانت الكلمات التي ذكرها صحيحة). ومع ذلك فان السؤال الذي يطرح نفسه هنا: اذا كانت الكلمات متشابهة بين السومرية والكردية، فلماذذا يعود اصلها الى الكردية وليس السومرية، ما دامت هذه الاخيرة اقدم من الكردية، (في العراق طبعاً) باكثر من الفي سنة على الاقل ؟ ان منطق الاشياء يقضي بأن تكون اللغة الاحدث – في المنطقة – هي المستعيرة وليس العكس. وسأكتفي بمناقشة كلمة GISH لأن الكلمات الاخريات، وأخص بالذكر الالفاظ السومرية منها، لم يرسمها بالحروف اللاتينية، الأمر الذي يجعل تحليلها مقطعياً متعذراً. ان محاولة ارجاع كلمة GISH السومرية التي تطلق على الشجرة، الى الكلمة الكردية (كاز) التي تقال للصنوبر، تفتقر الى قوة الاقناع، لأن علينا قبل كل شيء ان نبحث عن اصل كلمة (كاز) الكردية، وهل لها قرائن في شقيقاتها من اللغات الارية (الايرانية، الهندية، الأفغانية، الخ) وفي اللغات الهندية – الاوربية الاخرى، فإن لم تكن لها قرائن، فقد تكون والحال هذه مستعارة من السومرية او من لغة اخرى.
2 - ليس لدى كاتب هذه السطور تحفظ على النظرية القائلة بانحدار السومريين من شمال العراق، لكنه لا يتفق مع السيد صلاح سعد الله بأي شكل من الاشكال في قوله ان السومريين اكراد، لسبب بسيط هو ان الاكراد قدموا الى منطقة كردستان العراق (كما تسمى اليوم) من الشمال الشرقي للعراق بعد أفول حكم السومريين بأكثر من ألف عام، فكيف يمكن ان يكونوا أجداداً للسومريين الذي وجدوا في وادي الرافدين في الألف الرابع قبل الميلاد على الاقل ؟ وعلى أي أساس تاريخي استند السيد صلاح سعد الله الى ان الاكراد "استوطنوا منطقتهم الحالية قبل سبعة الاف سنة على الاقل مما يجعلهم أعرق قوم في المنطقة؟".
من المعروف ان الاكراد ينتمون الى الاقوام الهندية – الاوربية، وفي نطاق اضيق الى الاقوام الآرية، وليس ثمة ما يشير في أي مصدر من المصادر التاريخية الى ان الاكراد استطونوا كردستان (الحالية) قبل سبعة الاف سنة، لأن الاقوام الهندية – الاوربية لم يكن لهم أي وجود او ذكر في الشرق الاوسط برمته في تلك المرحلة. وفي واقع الحال ان وجود الاكراد في العراق (كردستان العراق) كان متأخراً جداً عن التاريخ الذي ذكره سعد الله، انه يرقى الى الربع الاول من الالف الاول قبل الميلاد. ويقول J P. Mallory في كتابه "في البحث عن الاقوام الهندية – الاوربية" (باللغة الانكليزية، طبعة 1991، دار Thames and Hudson): "العام 836 ق . م ظهر لاول مرة اسم الميديين في السجلات الآشورية، وكانوا يومذاك على مشارف اصفهان الحالية، اما الفرس Parsua فكانوا في في شمال غرب كرمنشاه. في تلك الايام كان يحكم فارس سبعة عشر ملكاً، كانوا كلهم يدفعون الجزية للملك الآشوري شلمانصر الثالث (858 – 824 ق.م) وكان واضحاً من الاخبار الآشورية ان الميديين والفرس الذين احتكوا بهم كانوا قد رسخوا اقدامهم في المنطقة قبل هذا التاريخ عندما توغل الآشوريون الى الشمال الشرقي في جبال زاغروس. وهذا يدعو للأعتقاد بان القبائل الكردية والايرانية كانت موجودة في المنطقة الشمالية من جبال زاغروس منذ بداية القرن التاسع ق.م" (ص49).
ومن المعلوم ان سقوط الآشوريين تم بعد تحالف الميديين (اجداد الاكراد؟) والبابليين. ففي العام 614 ق.م زحف الملك الميدي هوفاكشاترا (ويدعى كاشتاريتو ايضاً او اوماكشتار، حسب النطق البابلي، او سياكساريس حسب نطق هيرودوتس اليوناني) نحو نينوى، واستولى على نمرود الآشورية، واستولى على آشور، قبل وصول حليفه البابلي نابوبولاصر. واجتمع الملك البابلي (الكلداني) نابوبولاصر مع الملك الميدي هوفاكتشاترا تحت جدران مدينة آشور المدحورة "وعقد حلفاً مشتركاً للصداقة والتعاون". وفيما بعد تعزز هذا الحلف بزواج نبوخذنصر، ابن نابوبولاصر، من اميتس وفي رواية اخرى حفيدة الملك الميدي، ومعلوم ان مدينة (اربيل) كانت آشورية في اول الامر وأسمها آشوري "أربا ايلو" (الاربعة الهة)، وكانت اربيل موطناً لعبادة عشتار، ويقول بشير فرنسيس وكوركيس عواد في دراستهما "نبذة تاريخية في اصول أسماء الامكنة العراقية" ان التسمية العربية لهذه المدينة هي اربل، ويسميها الناس اليوم "اربيل" و "ارويل" و "اوريل"، و "اولير"، و "هولير" والصيغ الثلاث الاخيرة هي حسب نطق الاكراد لإسمها، وكانت اربيل في العهد الفرتي (126 ق.م – 227 ق.م) عاصمة لمملكة حدياب الآرامية. فالحديث عن العراقة التي تطرق اليها سعد الله غير صحيح، وليس له معنى او مغزى اصلاً، لأن اربيل – على سبيل المثال – اصبحت مدينة كردية على مر القرون، مثل سائر مدن كردستان الحالية، وهو امر لم يعد مثار نقاش.
3 - يرى سعد الله في كلمته ذاتها "حل المسألة السومرية: السومريون والاكراد!" ان افتراض الاثاريين ومترجمي ملحمة جلجامش بانه سار من (اوروك) في جنوب العراق الى غابة الارز في لبنان لجلب الخشب، يفتقر كلياً الى المصداقية، فليس "فليس من المعقول ان يذهب المرء من جنوب العراق الى لبنان – وهو بلد قد يكون مجهولاً لدى المرء اصلاً – لجلب الخشب عبر منطقة لا تتوافر فيها وسيلة طبيعية مناسبة للنقل، كالنهر. ثم ان الخشب متوافر في الشمال، ويسهل نقله نسبياً بواسطة النهر …". ويقول ان جلجامش "لم يعبر الصحراء ولم يذهب الى غابة الارز في لبنان، بل ذهب على الارجح الى غابة الصنوبر في الشمال، نعم فان الشجر لم يكن الارز، بل الصنوبر، ولم يكن في لبنان بل في كردستان ..الخ".
ان طرح سعد الله يبدو منطقياً هنا، لأن شمال وادي الرافدين اقرب بكثير من لبنان الى الجنوب العراقي لكن السجلات التاريخية تؤكد على ان ملوك وادي الرافدين منذ عهد سرغون الاكدي (2340 – 2284 ق.م) كانوا يفضلون خشب لبنان، لا سيما الارز، على رغم صعوبة نقل هذه الاخشاب.
وسأستند في المعلومات التالية، بهذا الشأن، الى دراسة بالانكليزية بعنوان "غابات آسيا الغربية القديمة" بقلم ام . بي. باوتن الاستاذ في المعهد الاستشراقي في شيكاغو، والدراسة منشورة في مجلة JNES مجلة الدراسات المتعلقة بالشرق الادنى الصادرة في شيكاغو "وأظن ان تاريخ نشرها كان في العام 1967". جاء في هذه الدراسة: "ولكن مع جبل حرمون (في سوريا) تصل افق النصوص المسمارية – وهنا اكثر من اثارة في هذه النصوص لغاباته". ويعتقد الباحث باوتن ان جلجامش وانكيدو في بحثهما عن خواوا "حارس الغابة" هبطا واد، ربما كان هو الوادي بين جبل حرمون وجبل لبنان وفي نصوص سارغون الاكدي وحفيده نرام سين ترد اشارة الى جبل الارز، وبالتخصيص جبل امانوس وبصدد نقل الاخشاب من شمال سوريا الى وادي الرافدين يقول باوت: "ان اشجار السرو، الارز، والتنوب، والصنوبر كانت لها اهمية كبيرة لمدن سومر البعيدة على نهر Gok SU، وبعد ذلك يطوق على الفراتوفي وقت فيضان الربيع". وفي الاحتمالات كافة "ان هذه المنطقة، الى الشمال والجنوب من فجوة ماراس، هي التي تدعى غابة الارز، او جبل الارز في نقوش الملوك السارغونيين (الاكديين)، وجبل الارز في اسطورة نرام سين.
وفيما اذا كانت الشجرة المقترنة بخواوا شجرة ارز ام لا، جاء في كلمة لثيو باور منشورة في JNS العدد 16 (1957) الصفحات 245 – 62 بعنوان "مقطع من ملحمة جلجامش يعود الى المرحلة البابلية القديمة": "ان حياة خمبابا، حارس غابة الارز في لبنان تتوقف على شجرة ارز يجب قطعها قبل ان يقتل".
4 - جاء في كلمة سعد الله: "ويلاحظ ان اسم حارس الغابة في الملحمة (ملحمة جلجامش) يرد بشكل (خواوا) ايضاً. وهو اسم قريب كذلك (…) من (خوا) الاسم الكردي للإله".
لا شك في ان الكلمة الكردية تطلق على الإله من اصل هندي – اوربي، فهي (خدا) بالفارسية، وتقابلها God بالانكليزية، الخ.
ونحن لا نعتقد ان لهذه الكلمة – خوا – صلة بالاسم (خواوا) للسبب الآتي: ان اسم خمبابا يرد بالصيغتين الاخريين ايضاً خوبابا، وخواوا، وهو كما يقول مايكل استور في كتابه (ايلينوساميتيكا) (ص258) على وزن فعال من الفعل (خبب) ويعني "أحب"، ولعل الكلمة تعني "محبوب" (بالفينيقية، وهو رمز محبوب عندهم على الضد من سميه في بلاده الرافدين). وقارن (خوباب) ابا زوجة موسى. وكان (خ ب ب) رئيساً للكتبة في اوغاريت. ويرى بنفينست ان كومبابوس هو صيغة اخرى لخومبابا، واكد في الوقت نفسه على ان الشخصيتين مختلفتان تماماً (يقصد انه محبوب في فينيقيا ومكروه في وادي الرافدين). في ضوء ما تقدم نحن لا نعتقد ان اسم (خواوا) له صلة بكلمة (خوا) الكردية.