السيد المالكي والديمقراطية في العراق !
حين دعيت من الأخوات و الأخوة في مؤسسة المدى في بغداد قبل حوالي السنتين لإلقاء محاضرة عن رؤيتي للوضع القائم في العراق وآفاق التطور حينذاك , سؤلت من أحد الأخوة الأفاضل من أساتذة الجامعة عن فحوى مقال كنت قد كتبته في بداية مجيء السيد نوري المالكي إلى رئاسة الوزراء بعد أن تسلم تركة ثقيلة لا من العهود السابقة فحسب, بل ومن مخلفات سياسة الدكتور الجعفري الطائفية التي أطلقت العنان للطائفية في تتكرس في أجهزة الدولة, وخاصة في أجهزة الأمن والشرطة وانتعاش المليشيات الطائفية الشيعية, وأنعشت معها المليشيات السنية, وهل توجد إمكانية في أن يتحول الناس من موقع فكري وسياسي مذهبي وطائفي إلى موقع فكري وسياسي مدني وديمقراطي؟ وكان المقصود بذلك, كما فهمت في حينها, هو: هل يمكن للسيد المالكي أن ينتقل من موقع يحتل فيه المسئولية الأولى في حزب سياسي شيعي مذهبي وطائفي, إذ لا يمكن تأسيس أحزاب مذهبية إلا على أساس طائفي, نحو مواقع المدنية والديمقراطية؟ وكان جوابي نعم, هذا ممكن في ظل ظروف وشروط معينة, وغير ممكن في ظروف وشروط أخرى. وإمكانية التحول تقترن بضرورة توفر الاستعداد الذاتي والتفتح الفكري لدى الشخص المعني, سواء أكان المالكي أم غيره من السياسيين العراقيين, مع عدم نسيان صعوبات وتعقيدات مثل هذا التحول والتغيرات السياسية المحتملة التي تفرض نفسها على الشخص. وكان في بالي من الناحية الإيجابية التحول الديمقراطي الذي برز لنا بوضوح وبشكل متميز منذ فترة مبكرة لدى الأخ والصديق الأستاذ ضياء الشكرچي ولدى الأخ الأستاذ محمد عبد الجبار شبوط وغيرهما. وكذلك إمكانية التحول من أيديولوجية كانت تدعي امتلاك الحقيقة كلها إلى فكر ديمقراطي يعترف بالتعددية وحرية الرأي والرأي الآخر. ومثل هذه العملية لا يمكن نفيها عن أي إنسان بأي حال, ولكن يصعب تعميمها أيضاً. فهي مقيدة بشروط وظروف مناسبة ومساعدة لتحقيق مثل هذا التحول لدى شخص ما بالارتباط مع مستواه الفكري وتفتحه الثقافي وتجاربه الحياتية والتي يعيشها راهنياً وحين تبرهن له الحياة خطأ الالتزام بخطه السابق, ويعمل على تبني نهج جديد بعيد عن الطائفية وفي صالح المواطنة والديمقراطية والمساواة بين المواطنات والمواطنين...الخ.وعند متابعتي لخط التطور لدى السيد المالكي, وهذا رأي شخصي خاضع للخطأ والصواب, يتلمس الإنسان لديه مرونة على التحرك, ولكن تحركه حتى الآن كان زگزاگياً صعوداً وهبوطاً, وهي المسألة المقلقة في نهج المالكي, إذ أن السير خطوة إلى أمام يمكن أن تلحق بها خطوتان إلى الوراء. وتكون الحصيلة سلبية. ويمكن أن يكون السير خطوتان إلى أمام وخطوة إلى الوراء, وعندها تكون الحصيلة إيجابية رغم سلبياتها. ولكن يصعب الوثوق بمثل هذا التحرك غير المنظم وغير المبرمج وغير المحسوب مسبقاً, والذي يمكن أت تترتب عنه وعليه عوائق غير محمودة لا يتمنى لها الإنسان بالظهور.
وبما أن المسألة موضوع البحث ترتبط برغبة السيد المالكي التحول إلى النظام الرئاسي فلا بد لنا أن نعود إلى تاريخ وتقاليد هذه الشخصية السياسية العراقية التي اقترنت حياته السياسية حتى الآن بقوى إسلامية سياسية (حزب الدعوة) وموقف قادة هذا الحزب من الديمقراطية على أنها أداة وليست منهجاً وفلسفة حياتية, كما عبر عنها السيد على الأديب, إضافة إلى الأجواء المحيطة به وطبيعة حزبه القلقة الذي عرف الجعفري رئيساً له, ثم وضع السيد المالكي النفسي أثناء عملية التفكير بالتحول من موقع إلى آخر. وهذه العوامل المتفاعلة تتجلى في إشكالية تجد تعبيرها في طريقة عمله في مجلس الوزراء وفي الحياة السياسية العراقية وكذلك في الإجراءات التي يتخذها للوصول إلى الهدف الذي يسعى إليه والذي يمكن أن يعبر عنه "البراغماتية" و"الغاية تبرر ألواسطة وكذلك عن مدى وعيه للديمقراطية لا من مفهوم ديني, بل من مفهوم مدني حديث, خاصة وأنه يتحدث عن أن الديمقراطية في العراق ستكون بعد ثلاث سنوات!
إن آخر مسألة طرحها السيد المالكي في الوسط السياسي العراقي هو دعوته للأخذ بالنظام الرئاسي في العراق ودعوته إلى تغيير الدستور لصالح تكريس مثل هذا النظام الرئاسي. وقبل الإدلاء برأيي في هذا الصدد, أشير إلى ما يلي:
لا بد للإنسان وهو يبحث في مثل هذه الأمور أن يعود إلى تاريخ وتراث وتقاليد وعادات ومسيرة شعوبنا عموماً ومكونات الشعب في العراق خصوصاً, سواء بالنسبة للعرب أم الكُرد أم التركمان أم الكلدان والآشوريين, وأن كان بنسبة أقل, وأن يتذكر واقع أن الإنسان العراقي يميل إلى الفردية في العمل والمركزية المتشددة والفوقية أو الآمرية حين يكون في المسئولية وكذلك النزوع صوب الاستبداد الفردي بذريعة فرض النظام وممارسة العدل عبر الاستبداد, ولهذا وجد في تراثنا المكتوب المستبد العادل والمستبد الظالم, والرغبة في التحكم بمصائر الآخرين. وهذه الظاهرة العامة نجدها لدى أغلب الساسة العراقيين ولم ينجو منها السيد المالكي, كما أرى, فهو ابن هذه البيئة العراقية وأبن العشائر العراقية, حيث يسعى إلى تكريس العشائرية بأساليب مستحدثة والحصيلة واحدة ولغايات ضيقة, كما أنه ابن المؤسسة الدينية أو القوى والأحزاب الدينية التي يؤكد تاريخ العراق الطويل نزوعها صوب الفردية والفكر الواحد والتحكم بإرادة الناس. وتاريخ العراق في الدول الإسلامية ابتداءً من الدولة الأموية ومروراً بالدولة العباسية وانتهاء بالدولة العثمانية ثم الدولة الملكية الحديثة فالجمهوريات الأربعة المنصرمة والمرحلة الراهنة كفيل بتأكيد هذا الواقع المؤلم.
لقد عاش العراق خلال العقود الأخيرة وفي ظل حكم القوى القومية اليمينية والبعثية في نظام شمولي فردي مطلق, سواء أكان على رأس الحكم عبد السلام محمد عارف أم أحمد حسن البكر أم صدام حسين, والأخير هو الأكثر دموية وكراهية للإنسان الآخر والفكر الآخر وحرية الآخر وأكثر من كل السابقين نرجسية وسادية وجنون العظمة وأكثر من كل الحكام العرب. وهي المشكلة التي يفترض في كل السياسيين العراقيين أن يدركوا بأنهم يمكن ان يقعوا في هذا الطب, أن يصابوا بهذه العلل الاجتماعية المرضية, وأن من واجبهم مراقبة سلوكهم اليومي لتجاوز احتمال السقوط في هذا المستنقع الذي ركد فيه صدام حسين.
كلنا يعرف بأن التحول في العراق قد بدأ بإسقاط الدولة الشمولية بالقوة, بصورة مشوهة وبطريقة غير طبيعية وعبر عملية قيصرية, الحرب, بعد 35 عاماً من النظام الفاشي, والتي اقترنت بدورها بالدماء والدموع والضحايا المرمية على قارعة الطريق وفي القبور الجماعية وفي مياه دجلة والفرات والقتل على الهوية الفكرية والدينية والمذهبية وعبر ممارسات بعبثية تدميرية لا سابق لها في العراق وبهذه الصورة البشعة.
وبعد كل هذا وذاك اقر المجتمع دستوراً جديداً وانتخب برلماناً جديداً وشكل حكومة مسئولة أمام البرلمان, رغم كل ما في هذه العملية والمؤسسات من نواقص معروفة ومحاصصة طائفية وقومية لم تعد مرغوبة, وهي بداية لطريق طويل يحتاج العراق إلى فترة غير قصيرة لهضم عملية التحول من الشمولية إلى وضع آخر يمكن أن يضع العراق على طريق المجتمع المدني والدولة المدنية الديمقراطية بدلاً من العنصرية والاستبداد والطائفية المقيتة. ولا شك في أن مثل هذه العملية ستواجه الكثير من المصاعب والأخطاء لسبب بسيط جداً هو غياب التقاليد الديمقراطية والتباين في وجهات النظر والرغبة في حسم الأمور بالقوة أو بالإجبار ورفض الرأي الآخر. ومثل هذه الحالة يفترض أن لا يتطير منها السياسي الذي يحتل مركز رئيس حكومة, بل أن يتفاعل معها ليلعب دوره في التأثير عليها وتغييرها صوب الأفضل. ولكن من غير المقبول أن يطالب رئيس الوزراء بتجاوز البرلمان ورئاسة الجمهورية ليبدأ بالدعوة إلى إقامة نظام رئاسي يسمح لرئيس الوزراء أن يمارس صلاحيات يراها مناسبة على طريقة نفذ ثم ناقش. وهي البداية لشروط التحول صوب الاستبداد الذي تميز به الشخص العراقي عموماً والسياسي خصوصاً وامتلأ به تاريخ العراق السياسي.
يأمل الإنسان في أن تكون الانتخابات العامة القادمة أكثر حيوية ومشاركة ونزاهة وأكثر قدرة على انتخاب جمهرة من النائبات والنواب تكون قادرة على وعي أعمق وممارسة أكثر صرامة وحيوية لمبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات والعدالة الاجتماعية وقادرة على وضع القوانين المناسبة لتأمين التوزيع العادل والسليم للواجبات والصلاحيات بين المركز وإقليم كُردستان والمحافظات وقانون ينظم الأحزاب ونشاطها, وقانون النفط وحل المشكلات التي لا تزال عالقة بما فيها التغييرات التي أجريت على حدود المحافظات والأقضية التي استهدفت إجراء تغيير سكاني في المناطق المعنية من العراق ...الخ.
إن المسافة بين الديمقراطية والشمولية يمكن أن تكون في الدول النامية, ومنها العراق, قصيرة جداً وأقصر مما يتصورها الإنسان, ولكن مهمة المثقفين وجميع الناس الديمقراطيين منع وقوع مثل هذا التحول, منع تقليص المسافة بل توسيعها إلى أقصى الحدود لتجنب العودة بالعراق إلى أي شكل من أشكال حكم الفرد والاستبداد والشمولية والطائفية تحت أية واجهة كانت.
19/5/2009 كاظم حبيب