Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

الشرق الأوسط وسياسة العملقة الدولية والإقليمية

وُصِفَتْ منطقة الشرق الأوسط بالمنطقة الملتهبة ، تبعاً لغناها بالثروات النفطية وتعدد الملفات السياسية المعقدة فيها التي شهدتها بعد نهاية الحرب العالمية الثانية والى يومنا هذا . وقد كان الغرب قد وضعها نصب عينيه منذ العقود الأخيرة من الحكم العثماني ، إذ كان العديد من الدول الكبرى يتنافس على التوغل فيها ، خاصة بريطانيا وفرنسا اللتين تميّزتا بنشاطهما الدبلوماسي والتجسسي أيام وَهْنِ تلك الإمبراطورية التي اطلق عليها الرجل المريض .
تحقق الهدف التاريخي لهاتين الدولتين الغربيتين في اجتياح قواتهما لهذه المنطقة واحتلالها في الحرب الكونية الأولى ، وتم لهما اخضاعها ووضعها تحت نفوذهما حسب ترسيم معاهدة ( سايكس بيكو) سنة 1916 المعدلة في مؤتمر ( سانت ريمو ) 1920 حيث تم فيه بحث مسألة الإنتداب والبترول في الشرق الأوسط ، وبنفس الوقت تقرر وضع العراق وفلسطين والأردن تحت حكم الإنتداب البريطاني ووضع سوريا ولبنان تحت الإنتداب الفرنسي . وكان قد تحقق ( لبريطانيا العظمى ) قبل ذلك التاريخ بسط نفوذها على ايران ايضا . وهكذا تمركز الثقل البريطاني في المنطقة الغنية بالنفط ونشطت فيها الشركات الإحتكارية في المسح الجيولوجي لكشف الذهب الأسود ووضع حقوله رهنَ احتكار الشركات الغربية الكبرى ( كونسرتيوم )
استمر النفوذ السياسي والعسكري لبريطانيا في منطقة الشرق الأوسط حتى وضعت الحرب العالمية الثانية اوزارها ، وكان من نتائجها سحق النازية وحلفائها وانبثاق اصطفاف عالمي جديد في قيام معسكر الدول الإشتراكية الذي ضم كل من الأتحاد السوقيتي وبولونيا وجيكوسلوفاكيا ورومانيا وهنغاريا وبلغاريا ، الأمر الذي ولد ردود فعل سريعة لدى الدول الغربية وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية التي لجأت الى إقامة مجموعة احلاف عسكرية ، ضماناً للحفاظ على موقع الدولة الأقوى ( العملقة ) في الساحة الدولية . اتت في طليعة تلك الأحلاف معاهدة شمال الأطلسي (NATO) المبرمة سنة 1949 والتي ضمت كل من الولايات المتحدة ، كندا ، بريطانيا ، فرنسا بلجيكا ، هولندا ، لوكسمبورغ ، المانيـا الإتحاديـة ، الدانمارك ، النرويج ، ايسلاند ، البرتغال ،ايطاليا اليونان ، تركيا .
وإزاء هـذه العسكـرة الدوليـة الواسعـة لتطويق المعسكـر الإشتراكي الفتي ، قـام الأخيـر فـي سـنة 1950 بالإنتظـام فـي معاهـدة ( حلف وارشو ) بقيـادة الإتحـاد السوفيتي وعضويـة كـل مـن هنغاريـا جيكوسلوفاكيا ، بولونيا ، بلغاريا ، البانيا ، رومانيا . وهكذا شهد العالم مضماراً دولياً تتبارى فيه قوتان عالميتان تسيران متقابلتين في خطين متوازيين لصنع التوازن العسكري والسياسي ضمن سياسة تؤمِّن المحافظة على الخارطة العالمية الجديدة ذات الخطوط الحمراء المرسومة بينهما .
وفي مطلع الخمسينات وبعد توصل الإتحاد السوفيتي لإمتلاك السلاح النووي اشتدت ظاهرة التسابق على التسليح العسكري بين المعسكريين ودخلا في طور الحرب الباردة التي دفعت بأمريكا لإقامة حلفين آخرين بزعامتها ، هما حلف جنوب شرقي آسيا ( SEATO ) في سنة 1954 ضم كل من بريطانيـا ، تايلانـد ، فيتنـام ، والحلـف الثانـي تأسس فـي سنـة 1967 مـن عضويـة اندنوسيا ، فيلبين ماليزيا ، سنغافورة ، تايلاند . وكل هذا كان من اجل تطويق المعسكر الإشتراكي وتقويض نفوذه ومن ثم العمل على تحجيمه وحذف وجوده من معادلة ( العملقة ) في مجابهة امريكا .



بلا شك أن العملاقين السوفيتي والأمريكي سارعا لتقاسم مناطق النفوذ حسب ما تمليه مصالحهما السياسية والإقتصادية ، وكل طرف منهما راح يبحث عن دول اقليمية حليفة وصديقة في مختلف القارات ، وخاصة في المناطق ذات الأهمية الجيوسياسية والغنية بثرواتها ومواردها . وهكذا اصبح العالم الثالث مسرح التقاء العملاقيين للتسابق في تثبيت الوجود ، عبر دول تحكمها مصالح انظمتها بالموالات للمعسكر الشرقي او الغربي . وهكذا بدأت تتولد ظاهـرة العملقـة في الشـرق الأوسـط ـ المنطقة الأكثر أهمية ــ في العالم الثالث . حيث كانت بريطانيا قد صنعت من إيران دولة معتمدة لحماية مصالحها في المنطقة العربية الشرق اوسطية ، وعند ظهور مصر على مسرح الأحداث بعد ثورة يوليوالمصرية 1952 وانتقال السلطة الى السيد جمال عبد الناصر سنة 1954 الذي أعلن عن تزعم الحركة القومية العربية مستمداً القوة من العملاق السوفيتي ، سارعت امريكا في نفس السنة الى وضع اول خطوة على طريق مزاحمة بريطانيا في الشرق الأوسط ، ذلك بتأسيس النقطة الرابعة كفرع لنشاط المخابرات الأمريكية (CIA ) لتقوية نفوذها في العراق ، ودعم ايران لإسناد اليها دور (العملقة) لمجابهة المستجدات في الساحة ، بعد التحول الذي احدثته الثورة المصرية في ميزان القوى في المنطقة العربية ، سيما بعد تأميمها لقناة السويس سنة 1956 التي كانت وراء اول ملف ساخن ادى الى نشوب حرب ( الإعتداء الثلاثي ) اعلنها كل من فرنسا وبريطانيا واسرائيل على مصر ، وكان للإتحاد السوفييتي دور مباشر في إيقافها.
حظيت مصر باهتمام العملاق السوفيتي الذي قدم لها الدعم العسكري والسياسي والإقتصادي بغية النهوض بها ، مما شجع القيادة المصرية لتخطو خطوات واسعة على طريق تبني القضية العربية وتسييسها وطرحها هموماً لأمة واحدة تنشد مستقبل الوحدة والتحرر . والسير قدماً في ذلك النهج قاد الى إقامة الوحدة بين مصر وسوريا وإنبثاق دولة الجمهورية العربية المتحدة سنة 1958 وكان ذلك الحدث الكبير ايذاناً بدخول الوليد العربي الجديد بقيادة مصر طور ( العملقة ) كدولة عربية مؤهلة للوقوف بوجه العملاق الفارسي الموكولة اليه حماية المصالح الأمريكية والبريطانية ، وكذلك الوقوف بوجه اسرائيل وحتى تهديد أمنها من خلال القوة التسليحية التي تمتعت بها مصر آنذاك جراء علاقاتها المتينة مع السوفييت .
كان اول تحرك كرد فعل للوحدة بين مصر وسوريا ، قيام اتحاد بين العراق والأردن تحت اسـم (الإتحاد العربي) وكان اهم العوامل التي سهلت قيامه هو تركيبة ملكية نظاميهما اللذين كانا من عائلة واحدة وسياستهما ذات الولاء المطلق للغرب .
ولم تمض إلاً اشهر عدة على قيام ذلك الإتحاد ، حتى تفجرت في العراق ثورة عارمة ، ثورة الرابع عشر من تموز العظيمة التي نسفت اساس النظام الملكي في العراق وإقامت على انقاضه نظاماً جمهوريـاً تقدمياً . وعلى أثرها تعاظمت الملفات الساخنة في عموم المنطقة التي وُضِعَت رهن مشاريع دولية ، نجم عنها اصطفاف سياسي اقليمي جديد تستعر فيه التحركات والمؤامرات في عموم الساحة ، للقضاء على الثورة العراقية التي افزعت العملاق الأمريكي وحلفاﺀه وجعلتهم يستنفرون كل الرجعية المحلية السائرة في ركابهم ، من قوى سياسية واحزاب ودول ضالعة كدول الخليج العربي وايران عملاقهم المعتمد . وكان ابرز حدث في ذلك المخطط الإستعماري الذي تبقى تجلياته نقطة سوداء في تاريخ القوى القومية العربية ، هو تواطؤ العملاق العربي المتمثل بجمهورية ﻣﺼر العربية ــ منذ ان كانت في وحدة مع ﺳوريا وبعد انفراطها في ﺳنة 1961 ــ مع تلك المؤامرة الواسعة التي اجهزت على ثورة العراق في انقلاب شباط المشؤوم سنة 1963 وادخلت هذه البلد في مسلسل من صراعات داخلية ، وفجرت فيها انقلابات عسكرية دموية مهدت السبيل الى المآل الذي هي فيه الآن .
بدأت العملقة ﺍﻟﻣﺻرية تتقوض بعد هزيمتها المنكرة أمام اﺳرئيل في ﺳنة 1967 وفي الحرب اللاحقة بين مصر واسرائيل ﺳنة 1973 انتهى دورﻣﺻﺭالمؤثر في اﻟﺳاحة العربية بعد قيام ﺍﻟﺭﺋﯿﺱ اﻟﻣﺻﺭﻱ أنور السادالت بزيارة اﺳرائيل في تشرين الثاني 1977 وقد مثلت تلك الزيارة ﺳابقة فاجأت الشارع العربي واربكته . وبعد شهر من ذلك التاريخ ، اثمر تطبيع العلاقة بين مصر واسرائيل توقيع معاهدة اﻟﺻﻟـح مع مناحيم بيغن اسميت باتفاق ( كامب ديفد ) اخرجت مصر كلية من خط المجابهة العربية ودفعها في منحى سياسي جديد ، ذهبت به بعيداً عن موقعها السياسي المؤثر في الساحة العربية وتخلت عن موقع ودور ( العملقة ) اللذين عول عليهما السوفيت لعقدين من السنين وخسروا حليفهم الأكبر في المنطقة العربية ، وحاولوا الإستعاضة عنه بالعراق بعد أن كان نظام البعث قد طرح نفسه الدولة الأقوى في المنطقة في الدفاع عن ( القضايا العربية المصيرية ) وفي التصدي للمصالح الغربية ، وخاصة بعد فرض السيادة على ثروة العراق النفطية في عملية تأميم شركات النفط الإحتكارية في مطلع السبعينات .
وعملقة ايران هي الأخرى انتهت بسقوط الشاه في شباط 1979 وبداية عهد الحكومة الدينية بقيادة آية الله الخميني ، وكما ذكرنا كان السوفييت قد وثقوا العلاقة مع العراق وكانوا طيلة السبعينات يحاولون استمالته كلياً الى جانبهم لإعتماده حليفاً لهم ، بيد أن ظهور إيران الإسلامية كدولة كبيرة تناصب العداء لأمريكا ابدل الموازين في الشرق الأوسط ، وجعل كل من الغرب والشرق يفكر في خطط جديدة لمواجهة المستجدات في تلك المنطقة .
وبعد نشوب الحرب العراقية الإيرانية في ايلول سنة 1980 انبرى العملاقان الدوليان ( أمريكا والإتحاد السوفيتي ) في التسابق على تسجيل الحضور في مجرى الأحداث الدامية لتلك الحرب . واتخذ كل منهما دوره في مجاراة دوام الصراع بين دولتين غنيتين لبلوغ الإستفادة القصوى ماديـاً وسياسيـاً . وضعـت تلك الحــرب اوزارها في 8 ـ 8 ـ 1988 وكـان مـن نتائجهـا زوال ( العملقة الإقليمية) والتقاء الدولتين المنهكتين ( العراق وايران ) بشكل غير متضامن بموقف العداء لأمريكا . وإثر الضربة الأمريكية الأولى للعراق في حرب تحرير الكويت في كانون الأول سنة 1991 توفرت مناخات مشجعة للإتحاد السوفييتي لكي يمتن علاقاته ضمن ذلك الفراغ مع كلا الدولتين ، بيد أنه اتضح كان على شفير سقوطه في آب 1991 وفقدانه لركائز العملقة التي وضعته ما يقارب النصف قرن في مجابهة الغرب ، كطرف لمعادلة القوتين العظميين في العالم .
تخلصت إيران من اكبر ند لها في منطقة الشرق الأوسط بعد انتهاء النظام العراقي في الحملة الأمريكية العسكرية التي اجتاحت العراق ، وتهيأت لها ( لإيران ) الفرصة لكي تلعب دورها الخطر في لب الأحداث ليس في الساحة العراقية فحسب ، وإنما فـي عمـوم الساحـة العربيـة الشرق اوسطيـة وذلك من خلال اقامة محاور عديدة مدَّت بينها سكة لنقل مخططاتها ومشاريعها من العراق ومروراً بسوريا ولبنان وفلسطين . وبهذا تكوّن لإيران حضور متميز في مجمل احداث المنطقة وملفاتها الساخنة ، مما يؤهلها لعب دور ( العملقة ) ثانية ، بوجود ظهير دولي متمثل بروسيا الناهضة بقيادة فلادمير بوتن الذي يضيق ذرعاً بسياسة احاديـة القوى التي تنتهجها امريكا فـي العالـم ويتصدى بقوة لخططها الرامية لتهميش بلده التي كانت بالأمس احدى القوتين العظميين . وتتجلى هذه المواقف في سياسة القيادة الروسية في إقامة التحالف مع الصين ومع دول آسيا الصغرى ، كدُوَل بحر قزوين التي من ضمنها ايران ، الدولة القوية في الشرق الأوسط والتي تدخل في مجابهة شرسة بمحاورها ومخططاتها مع الولايات المتحدة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط ، تستنزفها ماديا وعسكرياً وسياسياً بغية إفشال مشاريعها في المنطقة.
تقف روسيا الى جانب ايران بجلاء وتقدم لها الدعم السياسي واللوجستي وتدافع عن ملفها النووي الذي يعتبر اليوم اقوى المشاكل التي تشغل العالم في الشرق الأوسط . والقيادة الروسية تجد في ذلك خير وسيلة تمكنها من الوقوف بوجه السياسة الأمريكية والحد من خطورة قطبيتها في وسط المجتمع الدولي . وأن العلاقات الطيبة بين امريكا وروسيا التي يسعيان للحفاظ عليها كل من الرئيسين بوتن وبوش ، لا تقف حائلاً أمام التوجه الروسي في انتهاج سياسة فيها رفض للتعامل مع روسيا الجديدة كدولة اوربية محجمة ، وكذلك فيها مسعى واضح في تجميع مستلزمات رد اعتبار للعملقة الروسية .
إن أمريكا المتورطة في ملفات الشرق الأوسط ، تفهم مدى خطورة دور العملقة الإيرانية المدعومة من روسيا في منطقة مصالحها الحيوية ، لذا وجدت ضرورة قصوى في التحرك بشكل جدي على دول الخليج لرفع وتائر التعبئة السياسية والعسكرية في وسطها لمجابهة إيران ومحاورها ، ومن خلال هذا التحرك اسند دور رئيسي للمملكة العربية السعودية لتكون المرتكز لهذا التوجه كأقوى دولة عربية في المنطقة تتمتع بمكانة دولية وتتميز بنشاطها الإقليمي السياسي والدبلوماسي ، مما يؤهلها أن تلعب دور العملقة العربية تقف بوجه ايران واطماعها .
وهكذا قادت تطورات الأحداث في الشرق الأوسط الى إعادة المنطقة الى حظيرة العملقة الدولية والأقليمية وفق مسلسل جديد من الصراع الدامي تتحكم في مساره بشكل رئيسي الدول الكبرى المتنافسة على المصالح . Opinions