Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

الشهيدة فبرونيا النصيبينية

المقدمة: مع انتشار المسيحية في بلاد ما بين النهرين أضحت نصيبين حاضرة كنيسة المشرق، ومركز إشعاعها الروحي والثقافي. ففيها أسس مار يعقوب النصيبيني أول جامعة لاهوتية في العالم، وفي جبلها المجاور إيزلا انطلقت الحياة الرهبانية مع مار أوجين، وطورت ونظمت مع إبراهيم الكشكري مؤسس دير إيزلا الكبير، وانطلق رهبانها حاملين بشرى الخلاص إلى شعوب العالم المعروف آنذاك، فوصلوا بفتوحاتهم الإنجيلية إلى بلاد الهند والصين.
ومع بداية الجيل الرابع للمسيحية نجد في نصيبين ديراً للراهبات على اسم مارت نارسوي، أنشأته وأسسته الشماسة بلاطونيا، وجمعت فيه خمسين راهبة. ووضعت لهن قانوناً شديداً، يعشن من خلاله حياة رهبانية منظمة، ويتبارين في تقديس نفوسهن بالصوم والصلاة، حيث لا يأكلن سوى مرة واحدة في النهار، ويقضين يوم الجمعة في الكنيسة من الصباح إلى المساء، متفرغات للتأمل وقراءة الكتاب المقدس، لأن القانون يفرض بألا تقوم الراهبات بأي عمل في هذا اليوم.
وعندما توفيت بلاطونيا خلفتها في رئاسة الدير الشماسة برونة، التي سارت على أثر الرئيسة الأولى في إدارة الراهبات بحنان وحزم، حتى أن عبير القداسة كان يفوح في تلك الجهات كلها ويعطرها.
وفي عهد الرئيسة برونة كانت إحدى البتولات المنتسبات لهذا الدير هي فبرونيا، تلك الشابة البتول التي زينها الله بجمال النفس والجسد، ثم اختارها لترفل بأرجوان دمائها الزكية، فتصبح عروسة بهية تليق ببهائه وقداسته وعظمته الإلهية. هذه الفتاة البارة والعظيمة بين الشهيدات ستبقى زينة متألقة لكنيسة نصيبين العريقة، وموضوع فخار لأبنائها عبر الأجيال.
1_ حياتها: لا نملك معلومات دقيقة عن حياتها، وما استقيناه عن قصة استشهادها كتبته الأم تومايس التي خلفت الأم برونة في رئاسة الدير بعد وفاتها، حيث تختم القصة بقولها: " أنا المسكينة تومايس خلفت برونة بعد موتها، ولكوني عارفة حقاً بكل ما جرى للطوباوية فبرونيا منذ البدء، وعلمت بقية الأمور من السيد لوسيماكس. فقد كتبت هذه الشهادة مدحاً وإكراماً للطوباوية، وخلاصاً وتشجيعاً للسامعين، ليستيقظ عقلهم في الجهاد في سبيل عبادة الله، لكي يؤهلوا هم أيضاً لملكوت السماء بيسوع المسيح ربنا الذي له المجد والسلطة إلى دهر الدهور آمين ".
جاء في شهادة تومايس أن الطوباوية فبرونيا كانت في العشرين من عمرها عند استشهادها سنة 304م، وعليه تكون ولادتها في نهاية القرن الثالث أي حوالي سنة 284م. كانت فبرونيا ابنة أخي رئيسة الدير برونة، وكانت قد فقدت والدتها وهي في ربيعها الثاني، فضمتها برونة إليها واهتمت بتربيتها وتثقيفها بعناية لا توصف. وكانت فبرونيا ذات جمال رائع وحُسن بارع، مما جعل برونة خائفة من أن يصبح جمالها سبب شقاء لنفسها وحياتها، فعودتها على التقوى وحب الفضيلة وممارسة الصوم والتأمل، كي تحفظها وتقيها من المعاثر.
وكانت فبرونيا ذات أخلاق ناعمة ونفس حساسة وطباع لطيفة، فنمت على الإيمان والإماتة ونذرت لله بتوليتها. وبدأت حياتها الرهبانية بالتقشف، حيث كانت لا تأكل إلا مرة واحدة كل يومين، وفي أكلها لا تشبع، ولا تشرب إلا القليل من الماء، وتحيي ليالي برمتها في الصلاة والتأمل، وكانت تستريح وقت النوم على سرير خشبي طوله ثلاث اذرع ونصف وعرضه ذراع واحدة، وكثيراً ما كانت ترقد على الحضيض في سبيل قمع جسدها. وحينما كانت التجارب تراودها ليلاً، كانت تنهض وتلوذ بالصلاة وبالقراءة الروحية طرداً للهواجس الشريرة، متضرعة إلى عريسها الإلهي أن يحفظ لها زهرة طهارتها نقية بهية. وكانت تحب العلم محبة شديدة، حتى أن الرئيسة والراهبات كن يتعجبن من سعة معارفها.
وكانت فبرونيا ذات صوت رخيم، تشرح كلام الله كأن الروح القدس ينطق بفمها، لذلك أوعزت إليها الرئيسة قراءة كلام الله لدى اجتماع الراهبات للصلاة، وأمرتها أن تقرأ لهن وراء الحجاب أيام الآحاد والجمع، بسبب حضور نساء علمانيات للصلاة معهن في هذه الأيام، حتى لا يلفت جمالها البارع أنظار الحاضرات، ولا ينظرن إليها ولا يُفتنَّ بسحر عينيها. ورغم ذلك فقد شاع خبرها في المدينة، واخذ الناس يتحدثون عن علمها وجمالها ووداعتها وتواضعها.
وكان في نصيبين امرأة وثنية شريفة تدعى اياريا تعيش مع ذويها بعد ترملها، وقد بلغها خبر فبرونيا، حتى ذابت شوقاً إلى رؤيتها. وفي احد الأيام جاءت إلى الدير وقابلت الرئيسة برونة وجثت عند قدميها قائلة: " استحلفك بالله خالق السماء والأرض ألا تنفري مني لكوني ما زلت وثنية نجسة وألعوبة للشياطين، ولا تحرميني من صحبة فبرونيا وتعليمها، فأتلقى بواسطتكن طريق الخلاص وأفوز بما هو معدّ للمسيحيين. أنقذيني من بطلان هذا العالم ومن عبادة الأصنام الرجسة. فها أن والديّ يرغماني على زواج آخر. فكفاني عذابي من ضلال الأول، وأريد الآن أن احصل على الحياة بواسطة تعليم أختي فبرونيا وصحبتها ". كانت اياريا تقول هذا وهي تبلل قدمي الرئيسة بدموعها، حتى تحننت عليها وسمحت لها بمشاهدتها شرط أن تتوشح بالزي الرهباني، لأن فبرونيا منذ ثماني عشرة سنة تعيش في هذا الدير، دون أن ترى وجه رجل ولا الزي العالمي ولم تعاشر حتى العلمانيات. أدخلت الرئيسة برونة الشريفة اياريا وهي مرتدية الزي الرهباني على فبرونيا، وما أن رأتها فبرونيا ظنتها راهبة غريبة فجثت عند قدميها إكراماً لها. وبعد السلام أمرت الرئيسة فبرونيا لتقرأ لضيفتها من الكتب المقدسة، فامتلأ قلب اياريا حزناً وندامة، حتى أمضت كلتاهما الليل كله دون نوم، فلم تكف فبرونيا عن القراءة، واياريا لم تشبع من تعليمها وهي تتنهد باكية متحسرة.
وفي الصباح عادت اياريا إلى منزلها، وأخذت تحرض ذويها على الابتعاد عن عبادة الأصنام وعلى الإقبال على معرفة الإله الحق. وبعد انصراف اياريا سألت فبرونيا نائبة الرئيسة تومايس قائلة: " التمس منك يا أماه أن تقولي لي من هي هذه الأخت الغريبة التي سكبت هذه الدموع، وكأنها لم تسمع من قبل كلام الله ". فقالت لها تومايس: " إنها الشريفة اياريا ". فقالت فبرونيا: " لماذا خدعتنني فخاطبتها كأخت ". فقالت لها تومايس: " إن سيدتنا رئيسة الدير شاءت ذلك ".
وبعد مدة وجيزة داهم المرض فبرونيا واشتدت عليها وطأته، ولما سمعت اياريا بمرضها، جاءت إليها لتخدمها، ولم تفارقها إلا بعد أن استعادت عافيتها.
2_الاضطهاد: مع بداية القرن الرابع ثارت زوبعة الاضطهاد بحق المسيحيين في عهد الإمبراطور الروماني ديوقلتيانس، واخذ السيف يحصد نفوس المسيحيين حصداً مريعاً. وقد كلف سيلينس وابن أخيه لوسيماكس بالذهاب إلى المشرق، وأوصاهما أن يفتكوا بالمسيحيين بلا شفقة ولا رحمة. فامتثلا لأمر الإمبراطور وذهبا إلى المشرق مع جيش كبير، وأقام لوسيماكس ابن خالته فريمس آمراً للجيش.
ولما بلغوا ما بين النهرين، شرع سيلينس ينكل بالمسيحيين ويقضي عليهم بالسيف والنار، ويرمي بجثثهم للكلاب، فاستولى الرعب على المسيحيين من شراسة سيلينس. وفي إحدى الليالي دعا لوسيماكس ابن خالته فريمس وقال له: " أنت تعلم أن أبي مات وثنياً، ولكن والدتي ماتت مسيحية، وقد بذلت قصارى جهدها لكي أصير أنا أيضاً مسيحياً. ولكني لم أستطيع إلى ذلك سبيلاً، خوفاً من أبي ومن الملك. غير أنها أمرتني بألا أسيء إلى المسيحيين، بل أن أحب المسيح. وحينما أرى كيف يعامل عمي سيلينس الظالم هؤلاء المسيحيين، يتمزق عليهم فؤادي حزناً واسى. فأريد أن يُطلق سراح المسيحيين سراً ". فلما سمع فريمس ذلك، أمر بعدم القبض على المسيحيين، وكان يسبق ويرسل الخبر إلى الأديرة ويوعز إليهم في الهرب من أمام الطاغية سيلينس. وما أن اقترب الجيش من مدينة نصيبين حتى شاع الخبر أن سيلينس ولوسيماكس قادمان إليها، ليرغما المسيحيين على تقديم الذبائح للأصنام. فترك جميع المسيحيين والاكليروس والرهبان مساكنهم ولاذوا بالفرار، واختبأ مطران المدينة نفسه من الخوف.
وما أن بلغ الخبر مسامع الراهبات اجتمعن عند الرئيسة وقلن لها: " ماذا نفعل يا أماه، فقد وصل المضطهدون إلى هنا أيضاً، والجميع يفرون من أمامهم ". فقالت الرئيسة لهن: " وماذا تردن أن أصنع لكن ". فأجبنها: " أن تأمرينا بالاختباء مدة لإنقاذ أنفسنا ". فردت الرئيسة عليهن: " لا يا بناتي إني لا أريد منكن هذا، بل علينا أن نصمد في الجهاد، وأن نموت في سبيل ذالك الذي مات لأجلنا، لكي نحيا معه أيضاً ". ولما سمعت الأخوات هذا الكلام، اخلدن إلى الصمت والهدوء. وبعد أن خرجن قالت إحداهن واسمها ايثاريا: " إني أعلم أن رئيستنا لا تتركنا نغادر المكان لأجل فبرونيا، ولعلها تريد أن نهلك جميعاً بسببها. فأرى أن ندخل عليها، وأنا سأكلمها عنكن بما ينبغي ".
وفي اليوم التالي اجتمعت جميع الراهبات ودخلن على الرئيسة، وتكلمت باسمهن الأخت ايثاريا قائلة: " مُري بأن نختبئ ونفر من أمام الغضب القادم. فنحن لسنا خيراً من الإكليروس ومن الأسقف، فكري أن بيننا من هن شابات. فقد يختطفهن الجنود الرومان، ويتعرضن لتدنيس أجسادهن فيخسرن أجر زهدهن، أو لعلنا لا نستطيع احتمال العذابات فنجحد الإيمان، ونصبح أضحوكة للشياطين ونفقد نفوسنا. فإذا أمرتِنا بالهرب، فإننا نأخذ معنا فبرونيا أيضاً وننطلق ".
وحينما سمعت فبرونيا هذا الكلام، قالت لهن: " لعمر المسيح الذي خُطبت له وقدمت له ذاتي، لن أغادر هذا المكان، وليكن ما شاء الله ". فألتفت الرئيسة نحو ايثاريا قائلة: " يا ايثاريا أنت تعرفين ما صنعت، وأنا بريئة من ذلك "، ثم قالت للأخوات: " كل منكن تدري ما الأصلح لها، فلتختر ما تشاء ". بعد أن أنهت الرئيسة كلامها استحوذ الخوف على الراهبات، فخرجن من الدير بعد أن صلين وودعن الرئيسة وفبرونيا بحزن بالغ وبكاء مر.
أما الراهبة افرقلة التي تربت مع فبرونيا فقد جاءت تودع فبرونيا فعانقتها وأخذت تبكي وتقول: " وداعاً يا فبرونيا صلي لأجلي ". وأمسكت فبرونيا بيديها ومنعتها من الخروج وقالت لها: " خافي الله يا افرقلة، ولا تتركينا أنت أيضاً. ألا ترين أني ما أزال مريضة، وقد أموت ولا تستطيع الرئيسة وحدها أن تدفني، فامكثي عندنا حتى إذا مت تواريني التراب ". فردت افرقلة قائلة: " ما دمتِ قد أمرتِني يا أختي فلن أترككِ ". فردت الرئيسة على افرقلة قائلة: " ها قد وعدت أمام الله بأنكِ لن تتركينا ". ولكن ما أن حل المساء حتى غادرت افرقلة الدير لاحقة بالأخريات.
ولما رأت الرئيسة أن الدير قد خلا من الراهبات، دخلت المعبد وارتمت على الأرض وأخذت تصرخ وتبكي. وكانت تومايس نائبتها جالسة بجانبها تعزيها وتقول: " كفي يا أماه فإن الله قادر أن ينقذنا من هذه المحنة، فمن ذا الذي آمن بالله وخزي ". فأجابتها الرئيسة: " أجل يا تومايس إني أدري أن الأمر كذلك، ولكن ماذا أصنع بفبرونيا، وأين أخبئها وأنقذها، وكيف انظر إليها إذا اختطفها البرابرة ". عندها طلبت تومايس من الرئيسة أن يمضيا معاً عند فبرونيا ويشجعاها، لأنها ما زالت تعاني من المرض.
وما أن بلغتا عند فبرونيا حتى احتضنتها الرئيسة وهي تذرف الدموع، وحينما رأتها فبرونيا على تلك الحال سألت تومايس قائلة: " أناشدك يا أماه أن تقولي لي ما هو سبب بكاء أمنا الرئيسة، فلقد سمعت صراخها قبل قليل وهي في المعبد ". فأجابتها تومايس باكية: " يا ابنتي فبرونيا إنما الرئيسة تبكي وتتنهد من أجلك، نظراً إلى المحن المزمعة أن تأتينا من الظالمين، وهي تحزن عليك لكونك صبية حسناء ". فقالت فبرونيا: " التمس منكما أن تصليا من أجلي فقط، فلعل الله ينظر إلي فيقويني ويوليني الصبر، كما فعل للذين أحبوه ". فردت عليها تومايس قائله: " يا ابنتي فبرونيا هوذا زمان الجهاد، ولا شيء أكرم عند الله من البتولية، وعريس البتولات غير مائت، وهو يولي الخلود للذين يحبونه. فحاولي أن تنظري إلى ذلك الذي خصصت له ذاتك، ولا تنكثي عهدك ". فلما سمعت فبرونيا هذا الكلام تشجعت وهيأت نفسها لمجابهة الشيطان، وقالت لتومايس: " أحسنت يا سيدتي بإسدائك النصح إلى خادمتك، فاني قد تقويت كثيراً بكلامك. فلو أردت الهرب من الجهاد، لغادرت المكان أنا أيضاً مع أخواتي واختبأت. ولأني أحب ذاك الذي خصصت له ذاتي، فأنا مهتمة بالذهاب إليه، إذا جعلني أهلاً للتألم والجهاد في سبيله ".
فلما سمعت الرئيسة هذا الكلام، شرعت هي أيضاً تبذل النصح لفبرونيا قائلة: " أذكري يا فبرونيا المجاهدين الذين سبقوك واستشهدوا بنوع مجيد، ونالوا إكليل الظفر من الله ". ولم تزل الرئيسة تخاطبها بمثل هذه الأقوال حتى انقضى الليل.
3_ استشهادها: ما أن أشرقت شمس اليوم التالي، حتى علا ضجيج سكان نصيبين، وساد فيها الفوضى حينما احتلها القائدان سيلينس ولوسيماكس. وقبض الجيش على مسيحيين كثيرين وأودعوا السجن. واخبر بعض الوثنيين سيلينس بشأن الدير، فأرسل جنوداً كسروا الأبواب ودخلوا وقبضوا على برونة، وهمَّ بعضهم بقتلها على الفور. فارتمت فبرونيا على أقدام الجنود وصرخت بصوت عال وقالت: " استحلفكم بإله السماء أن تقتلوني أولاً، فلا أرى موت سيدتي ". ولما اقبل فريمس ورأى ما صنعه الجنود، غضب عليهم جداً وأمرهم بالخروج من الدير. ثم قال للرئيسة: " أين ساكنات هذا الموضع ". فأجابته الرئيسة: " لقد غادرن الموضع خوفاً منكم ". فقال لها فريمس: " ليتكن أنتن أيضاً نجوتن بأنفسكن، ولديكن المجال الآن للهرب حيثما تشأن ". ثم غادر الجنود الرومان الدير دون أن يترك فيه حراساً. ولما عاد فريمس إلى لوسيماكس، سأله عن الدير وسكانه. فرد عليه فريمس بالقول: " الراهبات قد هربن من الدير، ولم يبقى فيه سوى عجوزين وشابة، وقد اعتراني العجب لما رأيت الشابة التي لم أرى في النساء جمالاً يضاهي جمالها. ولولا كونها مسكينة وبائسة، لاستحقت أن تكون زوجة لك يا سيدي ". فرد عليه لوسيماكس قائلاً: " أوصيت بعدم سفك دم المسيحيين، بل أكون محباً للمسيح، فحاشا لي أن أفعل ذلك. والآن أطلب منك يا سيدي فريمس أن تخرجهن من هناك، وتخلصهن لئلا يقعن في قبضة عمي سيلينس العديم الرحمة ".
إلا أن أحد أولئك الجنود ذهب إلى سلينيس وأخبره عن شابة الدير الرائعة الجمال، وها أن فريمس يتحدث إلى لوسيماكس بشأن الزواج منها. فلما سمع سيلينس هذا الكلام، احتدم غيظاً وأقام حراساً على الدير لمنع الراهبات من الهرب. ثم أمر فنادوا في المدينة: غداً ستدان فبرونيا علناً في معلب المدينة. وفي اليوم التالي ذهب الجنود إلى الدير وقبضوا على فبرونيا وقيدوها بالسلاسل وكبلوا عنقها بطوق من حديد ثقيل، وجروها وأخرجوها من الدير. فلحقت بها الرئيسة برونة ونائبتها تومايس وتوسلتا أن يذهبا أيضاً معها للجهاد، لكن الجنود رفضوا طلبهما لأنهم لم يتلقوا أمراً بشأنهما. ثم توسلتا إلى الجنود بأن يتيحوا لهما التحدث إليها قليلاً، فاستجاب الجنود إلى طلبهما. فخاطبت برونة فبرونيا بالقول: " يا أبنتي فبرونيا ها إنك ماضية إلى الجهاد، ففكري أن العريس السماوي ينظر إلى نضالك، وأن القوات السماوية تحمل أكليل الظفر وهي منتظرة نهاية جهادك ليكللوك به، فلا تخافي من العذابات لئلا تصبحي مهزلة للشياطين، ولا تشفقي على جسدك الذي سينحل من الضربات، فعلى هذا الجسد أن ينحل بعد قليل ويستحيل تراباً في القبر. فأنا باقية في الدير حزينة ومنتظرة من يبشرني أن فبرونيا أنجزت جهادها، وأحصيت في عداد الشهداء ". فقالت فبرونيا: " ثقتي بالله، يا أماه إني لن أخالف الآن أوامرك ونصائحك، وأظهر في جسد النساء عزيمة الرجال وبأسهم، وسترى الشعوب ويذهلون ويعطون الطوبى لشيخوخة برونة، التي غرست يدها هذه النبتة. التمس منكما يا والدتيّ أن تزودانيّ بالبركات، وأن تصليا لأجلي، فاتركاني لأذهب ". فمدت برونة يديها نحو السماء ورفعت صوتها وقالت: " أيها الرب يسوع المسيح، أنت الذي ظهرت لأمتك تقلا كما ظهرت لبولس، ألتفت أيضاً إلى هذه المسكينة في وقت الجهاد ". ثم عانقت فبرونيا وقبلتها، وتركتها تمضي.
ساق الجنود فبرونيا وهي مكبلة إلى ملعب نصيبين، حيث تجمع هناك جمهور غفير من الأهالي، وكان بين النساء الحاضرات الشريفة اياريا ونائبة الرئيسة تومايس التي تنكرت بالزي العلماني. وما أن جلسا سيلينس ولوسيماكس على المنصة، أمرا بإدخال فبرونيا، وما أن رآها الجمهور تصاعدت الزفرات. وأمر سيلينس الجمهور بالسكوت، وطلب من لوسيماكس أن يطرح عليها الأسئلة. فقال لها لوسيماكس: " قولي يا بنت ما اسمك، أجارية أنت أم حرة ". فردت عليه فبرونيا بالقول: " أنا أمة المسيح، وسيدتي تدعوني فبرونيا ".
وشرع سيلينس يستنطقها قائلاً: " يا فبرونيا لم أود استنطاقك، فإن وداعتك وتواضعك وجمالك الرائع اخمد غضبي عليك، وأنا لا أوجه السؤال إليك كمذنبة، بل أسألك كابنتي الحبيبة، أن تقبلي لوسيماكس زوجاً لك. فأجعلك ذات شأن عظيم على الأرض، فأجيبيني بما تشائين ". فقالت فبرونيا: " أيها الحاكم لي في السماء خدراً لم تصنعه أيادي البشر، وعرساً لا يزول، ومهراً قوامه ملكوت السماء، وعريساً غير مائت ولا يزول ولا يتغير، ومعه سأتنعم إلى الأبد ".
ولما سمع الحاكم قولها، احتدم غيظاً وأمر الجنود بتمزيق ثيابها، وبتوشيحها رقعاً بالية، وإيقافها على تلك الحال من الهوان والعراء أمام الجميع، فتعطي الويل لنفسها. وسرعان ما مزق الجنود ثيابها، وشدوا لها خرقاً بالية وأوقفوها عارية أمام الجميع. فقال لها سيلينس: " ترين من أي خيرات هويت، وإلى أي هوان انحدرت ". فأجابته فبرونيا قائلة: " لو عريتني تماماً من ثيابي، لما حسبت هذا هواناً. وأنا متهيئة لعذاب النار والسيف، إن كنت أهلاً لأتألم في سبيل ذاك الذي تألم من أجلي ".
وهنا أمر سيلينس الجنود فمدوها على الأرض، وأضرموا النار تحتها. وتقدم أربعة جنود وجلدوا ظهرها بالقضبان، حتى تفجر الدم من ظهرها، وتساقطت قطراته على الأرض كالمطر. وكان الشعب يصرخ ويناشد الحاكم ليشفق على الصبية. وحينما رأى سيلينس أن جسدها تمزق، ولحمانها أخذت تتناثر على الأرض مع الدم، أوعز في الكف عن ضربها، فألقوها خارج النار ظانين أنها قد فارقت الحياة. وبعد أن رشوا وجهها بماء استفاقت، فأمر سيلينس بأن تقوم وتعطي الجواب، فقال لها: " ماذا تقولين يا فبرونيا، وكيف خضت النزال الأول ". فأجابته فبرونيا: " لقد علمت من الخبرة الأولى أني لا أُغلب، وأني أحتقر عذاباتك ". فأمر سيلينس الجنود ليعلقوها على خشبة، ويجردوا جنبيها بأمشاط حديدية، ويضرموا النار فيها، حتى تحرق عظامها أيضاً. أما فبرونيا فكانت عيناها شاخصتان إلى السماء وهي تقول: " هلم يا رب إلى معونتي، ولا تتخل عني في هذه الساعة ". ثم احضروا طبيباً فأمره سيلينس بقطع لسانها، واقتلاع أسنانها، وقطع ثدييها. ففعل الطبيب كما أمره. أما فبرونيا فرفعت صوتها إلى السماء وصرخت بألم عظيم وقالت: " أيها الرب إلهي، أنظر إلى ما أنا فيه من الشدة والظلم، واقبل نفسي ". ثم غاصت في نزاع طويل. فأمر سيلينس بقطع رأسها، فأخذ الجلاد سيفاً وأمسك بشعر فبرونيا ونحرها كما تنحر الشاة. فأسلمت روحها الطاهرة لعريسها السماوي.
وكان الكثير من الحضور مستائين من قسوة ما شاهدوا. وما أن علمت الرئيسة برونة بخبر استشهادها وهي عاكفت على الصلاة والتضرع قالت: " يا رب أنظر إلى تواضع أمتك فبرونيا، وهلم إلى مساعدتها، لكي ترى عيناي أن فبرونيا تكللت وأحصيت مع الشهداء الطوباويين ".
وإذ قام الحكام وذهبوا لتناول الغذاء في دار الولاية، كان لوسيماكس يسير وعيناه مغرورقتان بالدموع، فأمر الجند في حراسة جسد فبرونيا، ولم يستطع تناول الطعام، بل انزوى في غرفة واستسلم إلى الحزن. أم عمه سيلينس فأخذ يتمشى في فناء دار الولاية، وبينما يتمشى نظر إلى السماء وظل وقتاً منذهلاً، ثم صرخ كالثور ووثب وضرب رأسه بأحد العواميد فسقط ميتاً. فعلا الضجيج وسادت الفوضى دار الولاية، فهز لوسيماكس رأسه وقال: " ما أعظم إله المسيحيين، فقد انتقم الله لدم فبرونيا الذي سفك ظلماً من قبل عمي الظالم سيلينس ". ثم أمر القائد فريمس ليحمل الجنود إلى الدير جسد فبرونيا وجميع أعضائها المبتورة، وحتى التراب الذي فوقه سفك دمها. ففعل فريمس كما أمره لوسيماكس، ولف جثمانها الطاهر بردائه. وبجهد جهيد وصل الجند إلى الدير وهم حاملين جثمان الشهيدة، لأن الجموع المزدحمة كانت تتراكض وتحاول اختطاف شيء من أعضائها للتبرك.
ولما رأت الرئيسة برونة جسد فبرونيا على تلك الحال، انهارت على الأرض وأغمي عليها مدة طويلة. ثم أقبلت راهبات الدير اللواتي هربن، وارتمين جميعاً على جسدها المقدس وهن باكيات. أما الشريفة اياريا فكانت جاثية أمام جسد الشهيدة وهي تقول: " إني أجثو أمام هاتين الرجلين المقدستين اللتين داستا رأس التنين، وأقبّل جراح الجسد المقدس التي بها شفيت جروح نفسي، وأضفر إكليل الثناء واضعه على الرأس الذي شرف جنسنا بمحاسن النصر ".
وفي المساء غسلن الأخوات جسد الشهيدة، ورتبن كلاً من أعضائها في موضعه. ثم أمرت برونة بفتح باب الدير أمام الشعب، فدخلت الجموع وأخذت تمجد الله، وكانت النساء يبكين لحرمانهن من معلمتهن. ووصل بعض من الآباء القديسين وكثير من الرهبان، وأمضوا الليل كله ساهرين في الصلاة.
أما لوسيماكس فدعا فريمس وقال له: " يا سيدي فريمس إني أكفر بجميع عادات آبائي وبإرثهم وأموالهم، وأنظم إلى المسيح ". فقال فريمس: " وأنا أيضاً ألعن ديوقلتيانس ومملكته، وأكفر بإرث آبائي وانظم إلى المسيح ". وتركا دار الولاية وجاءا إلى الدير مع الجموع.
وعند الصباح وضع جثمان الشهيدة في صندوق، ضامين كلاً من الأعضاء إلى مكانه، أما الأسنان فوضعوها على صدرها، وملئوا الصندوق بالطيب والمسك والبخور الفاخرة. ثم قام أسقف المدينة ومعه الرهبان والاكليروس بالصلاة على جثمان الشهيدة، وبعد الانتهاء من الصلاة وضع الصندوق في مكان لائق من الدير. وكانت الشريفة اياريا قد تركت أهلها وتخلت عن العالم، وانزوت في الدير وأوقفت جميع أموالها للدير، ووشحت صندوق الشهيدة فبرونيا بما تملكه من الذهب والجواهر.
وآمن بالمسيح جمع غفير من الوثنيين واعتمدوا، واعتمد أيضاً القائدان لوسيماكس وفريمس وتخليا عن العالم وترهبا وامضيا حياتهما في ما يرضي المسيح.
الخاتمة: بعد استشهاد فبرونيا شيد مطران نصيبين كنيسة جميلة، وأنجزها في ست سنين. ولما أتمها دعا الأساقفة المجاورين وأقام عيداً كبيراً واحتفالاً فخماً في الخامس والعشرين من حزيران. فاجتمع جمهور غفير من الناس حتى ضاقت بهم الكنيسة والدير، وبعد أن أنهوا صلاة الفجر جاء موكب المطران والأساقفة والكهنة والشمامسة وجمهور غفير من المؤمنين إلى الدير. وخاطب مطران نصيبين الرئيسة برونة قائلاً: " إننا لعاجزون عن وصف الأمجاد اللائقة بالشهيدة فبرونيا، لأن اللسان قاصر عن وصفها. إلا أننا قصدناك كأخت لنا، ملتمسين منك أن تكرمي معنا الشهيدة المظفرة، فتعطيها لنا لكي تسكن في الكنيسة التي شيدت لأسمها ". ولما سمعت الراهبات هذا الكلام، ارتمين كلهن على أرجل الأساقفة وطلبن منهم أن لا يحرمن من هذه الجوهرة. أما برونة فطلبت من الأساقفة أن يأخذوا هذه الجوهرة إن حسن الأمر لديهم ولدى الطوباوية.
وبعد أن ختمت الصلاة دنو من الصندوق ليأخذوه، وإذا برعد يهز الفضاء ويلقي الهلع في قلوب الشعب كله، وحينما مدوا أيديهم لحمل الصندوق حدث زلزال كبير، حتى ظن الجميع أن المدينة قد دمرت. فعرف المطران أن الشهيدة غير راضية بترك الدير، فسأل برونة أن تعطيه أحد الأعضاء المبتورة، حتى يضعها في الكنيسة المشادة على اسمها كبركة. ففتحت برونة الصندوق، فكان الجسد يتلألأ كأشعة الشمس تنبعث منه مثل بروق نارية. فمدت برونة يدها بخوف ولمست يد فبرونيا لإعطائها للمطران، وإذا بيدها تشل وتصبح مثل مائتة. فبكت برونة وسألت الشهيدة أن لا تخزيها في شيخوختها. فعادت يد برونة صحيحة كالسابق. ثم مدت يدها ثانية طالبت من الشهيدة أن تعطيها بركة، وأخذت أحدى أسنانها الموضوعة على صدرها، وأعطتها للمطران وأغلقت الصندوق.
وما أن تلقى المطران هذه الدرة المقدسة في إناء من ذهب، عاد الموكب إلى الكنيسة باحتفال كبير، ووضعت هذه الذخيرة في موضعها. وقد نال الشفاء جميع العمي والعرج والممسوسين. وكان الشعب يجلب المرضى من كل مكان فينالون الشفاء من كل علة فيهم. وقد انتشرت عبادة تلك العذراء الشهيدة في كل مكان، ونال بشفاعتها الكثيرون جزيل النعم والبركات. وبقي جسد الشهيدة فبرونيا في دير مارت نارسوي إلى يومنا هذا، وقد تحول هذا الدير بعد الفتح الإسلامي إلى جامع زين العابدين، الذي لا زال قائماً إلى يومنا هذا. وتحتفل كنيسة المشرق بتذكار الشهيدة فبرونيا النصيبينية يوم الجمعة الرابعة من سابوع الرسل. ويحتفل أيضاً بتذكارها يوم الخامس والعشرين من حزيران وهو اليوم الذي فيه تم تدشين الكنيسة التي شيدت في نصيبين على اسمها.

Opinions