الطفيليون في زمن الحلزونة
من قطط سمان إلى ثيران هائجةشدني كثيرا فيلم مرجان أحمد مرجان منذ أن شاهدته كله، ولقد أجاد الفنان الرائع عادل إمام وكل الطاقم الفني الذي بمعيته.. في التعبير عن واقع بائس تعيشه مجتمعاتنا وأجيالنا الجديدة. لقد أحسن وبرع كعادته في تصوير ما آلت إليه الأمور في السنوات الأخيرة في كل مجتمعاتنا.. باستحواذ رهط من الناس على مليارات الدولارات بأساليب غير شرعية، ليسيئوا ليس لأنفسهم فحسب، بل ليفسدوا في الأرض، ويعيثوا في منظومات مجتمعاتنا، ويهتكوا مؤسساتنا في أغلب دولنا.. إنهم ليسوا بمصر وحدها، أولئك الذين سماهم إخوتي المصريون قبل ثلاثين سنة بـ القطط السمان أصحاب الملايين، بل إنهم غدوا اليوم أشبه بثيران متوحشة، وهم يشكلون طبقة اجتماعية تمتلك عدة مليارات.. إنهم ينتشرون في كل مجتمعاتنا، وحسب طبيعة تلك المجتمعات، وحسب النظم السياسية والاقتصادية المعمول بها في كل دولة من دولنا.
إن واحدا من تلكم الثيران يسمى بمرجان أحمد مرجان الذي لا يعرف أحد من أين أتى بملياراته.. وهو جاهل لا يمتلك شهادة جامعية، ولا حتى بتأهيلية ثانوية! هذا النموذج من البشر تجده يريد شراء كل ما يبغي ويشتهي بنقوده وأمواله.. إنه سلطة قوية جدا داخل المجتمع ، كونه من أصحاب رءوس الأموال.. إنه سلطة تزاحم مؤسسات الدولة ، كونه يشتري ما يريده بسهولة متناهية بالرشوة حينا ، وبالترغيب والترهيب حينا آخر.. إنه فنان في شراء ذمم الناس، إنه ذكي جدا في اللعب مع الآخرين حتى النهاية، حيث يكسب الجولة.. فمادام يمتلك المال في مجتمع انقلبت موازينه، فهو لا يتوانى أن يكون صاحب شهادة عليا، فمن البساطة أن يشتريها اليوم.. ولا يتوانى أبدا أن يكون أديبا وشاعرا في شراء إبداعات غيره حتى إن كانت سخيفة كسيفة.. ولا يتوانى أن يكون نائبا في البرلمان.. ولا يتوانى أن يتزوج أو يصاحب من يريد، أو يقتل عشيقته متى يريد وفي أي مكان يريد.. إنه قادر على شراء الذمم ببساطة متناهية، وأن يتعامل حتى مع أعداء البلاد كي يحقق مآربه أو مصالحه.. وقادر على تأسيس علاقات مشبوهة مع أية مافيات، أو مرتزقة، أو عصابات تمارس أجندتها لصالحه في كل العالم.. بل ليس ثمة موانع أمام دول معينة في العالم، تنفق المليارات على أناس معينين من أجل أن ينفذوا أجندتها السياسية ومآربها الأيديولوجية ضد هذا البلد أو ذاك.
تأمل في الأسباب والمعلومات
هذا النموذج من الطفيليين، الذي يتوزع اليوم في بلداننا.. ربما نجد من أمثاله في كل مكان في العالم، ولكن ما يعنيني في الأساس، مجتمعاتنا المقهورة التي تتعرض اليوم للانسحاق والقهر بعد أن بقيت أنظمة الماضي تزمر وتطبل للاشتراكية وقوي الشعب العامل وتحقيق مجتمع الكفاية والعدل والأمجاد الكاذبة.. بالرغم من نظافة أيدي أصحابها عهد ذاك! إن الهجمة لم تأت من دواخلنا، بقدر ما أتت من مناخ عالمي تبلورت مدياته في العقد الأخير من القرن العشرين.. ولعل أبرز أخطار متغيرات العالم التي أتت لصالح دول غنية ومجتمعات استهلاكية إزاء دول فقيرة ومجتمعات مسحوقة.. فكان أن أفرزت الأوضاع الجديدة انفصاما بين أغنياء متوحشين ، وبين فقراء مسحوقين. إن متغيرات العالم كانت كالأخطبوط الذي لم يستطع أحد مقاومته ، فكان أن ضربت القيم الاجتماعية عرض الحائط.. تلك القيم التي بقيت هي البقية الأخيرة تحيا حياة قوية إزاء القيم السياسية التي كانت قد انهارت منذ أزمان.. أو القيم الثقافية التي بارت بضاعتها منذ رحيل التوازنات، وغلبة الجهالة، وتزايد التخلف مع اضمحلال السلوكيات بدءا بالأخلاقية، ومرورا بالمدنية، وانتهاء بالوظيفية.
اليوم، أجد مجتمعاتنا، تمضي بانقساماتها المتنوعة سياسيا ودينيا وطائفيا، وتزداد مشاكل مثل هذا النوع على حساب الكرامة الإنسانية التي أجدها مهانة على أيدي الطفيليين من أصحاب الملايين والمليارات الذين يبنون إمبراطورياتهم على حساب دم الناس أو موارد البلاد.. إنهم يزيدون ثرواتهم من خلال النهب المنظم والغش والرشوة والتحايل والجريمة.. إنهم وراء تجويع الملايين من البشر، وهم وراء إبقاء الجهالة، وغرق الدول في الديون.. إنهم يسترون أصوات الكل إعلاميا، ويضخمون من حجومهم على حساب المنظومات الاجتماعية والنخب الثقافية.. ومن العجب، سكوت رجال الدين الذين يتشدقون على شاشات التليفزيون على هكذا ظاهرة تنخر في صلب مجتمعاتنا نخرا. إن رجال الدين بقلنسواتهم وعمائمهم وجببهم يسكتون عن الحق، فهم كالشياطين الخرس! إن بعض مجتمعاتنا العربية ، ولدت طبقة طفيلية من أصحاب المليارات بتهريب النفط أو الغاز أو السلع أو توريد السلاح أو غسل الأموال أو تجارة الحشيش.. إلخ، إنهم يستغلون مراكزهم في الدولة لينهبوا ما شاءت لهم الأقدار.. هناك بعض آخر كان ولم يزل يتسلم من دول وأنظمة سياسية معينة، فإذا كان سابقا يرضى بالفتات، فهو اليوم يتسلم الملايين من هذا النظام السياسي أو ذاك الإقليمي لأغراض انتخابية أو أهداف سياسية، أو غايات طائفية، أو أساليب دعائية.
ميراث الطفيليين الفاسدين
إن الأنظمة السياسية العربية اليوم لا تستطيع أن تفعل شيئا إزاء هذا الوباء الذي يجتاح العالم، وبالأخص مجتمعاتنا العربية الرخوة التي بدأ الطفيليون ينتشرون فيها منذ قرابة ثلاثين سنة كالذباب.. وهي عاجزة عن إصلاح ما فسد من ضمائر، وما تهشم من قيم، وما تشتت من الأخيار على حساب الضعف والانهيار الذي تشهده مدارسنا وجامعاتنا.. أو مصانعنا ومزارعنا.. أو حتى بيوتنا ومنازلنا.. إن الخراب غدا بوهيميا معترفا به من قبل الجيل الجديد الذي لا يرى في الحياة إلا الوصولية والسلطة والمال والنساء والاستغلال.. أو يبتعد لينعزل ضمن جماعات دينية، أو ميليشيات متصارعة، أو عصابات طائفية.. ربما يدري وربما لا يدري مصادر تمويلها، ولا يعرف ما أهدافها وما مراميها!.. ولم يتبق من حَمَلة القيم الحقيقية إلا القليل من الناس الذين يسعون إلى المعرفة والإبداع والإنتاج الذكي.
إن نموذجا كالذي أجاد تمثيل شخصيته، وبالأحرى بطولته الفنان العزيز عادل إمام وهو يلقي على الناس قصيدة تافهة باسم ( الحلزونة ) .. يمثل واحدا من آلاف النماذج التي تنتشر في مجتمعاتنا.. وهي فاقدة للمضامين الوطنية، وهي بلا جذور متمكنة في الأرض، فهي طفيلية، لا تؤمن أبدا بأي نزوعات وطنية، ولا أي قيم اجتماعية، ولا أي سلوكيات ولا أي أخلاقيات عادلة. لقد وجدت أن هؤلاء ممّن تربوا تربية خاطئة، ونشأوا على الفساد، لا يكتفون بفساد نفوسهم.. بل يسهمون في إفساد الآخرين. ومن المعيب أن أجد آباء كانوا قد تشدقوا بالوطنية والقومية العربية والمثل الاشتراكية والعدالة والكفاية والإصلاح الزراعي.. وتجد أبناءهم اليوم وهم يمتلكون المليارات من دون وجه حق.. وحتى إن ساعدتهم الظروف أن يكونوا كذلك، فهم قد عاشوا واقتاتوا علي شهرة آبائهم وتواريخهم التي قلبت حياة المجتمعات من التوازن إلي الاختلال! ومن الاستقرار إلي الفوضى، ومن الشرعية إلى الخيانات، ومن الحقائق إلى الأوهام.
إن مجتمعاتنا العربية اليوم غير متوازنة في سياقاتها وأنماط حياتها.. كما عاشت قبل خمسين سنة من اليوم.. لقد كان للبترول دوره المساهم في تشكيل بوهيميا الخراب. صحيح أنه نقل الحياة في دول نفطية خليجية من الصفر إلى معدلات عالية جدا، إلا أن مجتمعات وبلدانا أخرى كان النفط وباء عليها، ليس لنشوب انقلابات، واندلاع حروب ، وهزيمة جيوش، وانسحاق بنى ومؤسسات.. بل لسيطرة ديكتاتوريات ، أو فناء موارد ، أو تمويل أحزاب ، أو عسكرة ميليشيات ، أو شراء سلاح.. ومؤخرا انتفاخ طفيليات في دواخل مجتمعات عريقة ومتوازنة، ولقد ساعدت الانقسامات السياسية والأيديولوجية منذ خمسين سنة حتى الصراعات الطائفية التي نشهدها اليوم على تمويل المؤامرات والصرف بالملايين على جهات ضد أخرى.. أصبح الصراع اليوم بين دول غنية أيهما يكثر من شراء الذمم، وأيهما ينفق أكثر على الآلة الإعلامية لتمجد هذا ولتشتم أو تقلل من شأن ذلك. وعليه فإن المشكلة لا تنحصر بمجتمعات دون أخرى فحسب، بل إنها مشكلة هذه الدولة مع تلك، ومشكلة هذا الفريق من الدول ضد فريق آخر من الدول.
ما العمل؟ ما النظام؟
إن نموذج مرجان أحمد مرجان لم يأت من فراغ، بل على الباحث والدارس أن يفكر ويتأمل في الأسباب الحقيقية التي خلقت مثل هذه النماذج الطفيلية في مجتمعاتنا، وهي تسعى بشتى الوسائل لا لإعمار البلاد ومساعدة العباد، بل لأجل زيادة ما أمكن من الثروات، وليذهب الجميع إلى الجحيم. إن عمل الخير وبناء المؤسسات الخيرية لم يعد موجودا إلا نادرا، بعد أن كان مزدهرا قبل خمسين سنة.. نظرا لبشاعة السلوكيات وموت الضمائر وحطام الأخلاق.
إن أي نظام سياسي لا يمكنه أن يعالج مثل هذه الظاهرة الطفيلية التي استشرت في دواخل مجتمعاتنا بشكل مريب.. إنما نحن بحاجة إلى منظومة قيم جديدة، وإصلاحات كلية يباشر العمل بها في كل مجتمعاتنا على السواء وعلى مدى ثلاثين سنة من أجل إصلاح ما يمكن إصلاحه وانتشال أجيالنا القادمة من المأساة. إن مجتمعاتنا لا يمكنها أن تنصلح إلا إذا بدأ بإصلاح المؤسسات في كل دولنا ، واستحداث أنظمة عمل صارمة لمؤسسات جديدة .. إن أجيالنا القادمة بحاجة إلى مناهج تربوية جديدة وأساليب معرفية متقدمة .. إن إعلامنا مطالب بأن يغّير نفسه مما هو عليه إلى ما يمكن أن يألو إليه ، فهو اليوم اخطر وسيلة لانحرافات لا أول لها ولا آخر لكل دولنا ومجتمعاتنا .. وكل ذلك لن يتم أن بقيت كل من دولنا ومجتمعاتنا لا تشعر بالحاجة إلى التغيير .. ويبدو واضحا أن الاثنين منشغلان عن ذلك . فمتى سيأتي التغيير ؟ هذا ما سيجيب عنه المستقبل على مدى ثلاثين سنة قادمة بعد مجابهة تحديات خطيرة ومواجهة صدمات قوية .
نشرت في مجلة روز اليوسف المصرية ، العدد 4263 - السبت الموافق - 20 فبراير 2010 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com