العبرة المستخلصة من مظاهرات الجمعة: الفساد والفقر .... دراسة في الأسباب والحلول
ماجستير في القانون ـ نائب رئيس هيئة النزاهة سابقاًأثارت مظاهرات يوم الجمعة التي عمت عموم العراق جملة من التساؤلات في ظل نظام سياسي يتبنى دستوريا النظام الديمقراطي الانتخابي الى جانب أوضاع إقليمية تسعى الشعوب الحرة فيها الى تبني ذات النظام المتبنى في العراق. مما ينبغي أن نقف وقفة تأمل لاستخلاص الدروس والعبر منها ووضع الحلول الملائمة، حفاظاً على نظامنا السياسي من هزة أخرى قد تنال منه.
ولكي نستخلص النتيجة من المقدمات علينا ان نسأل أنفسنا السؤال البسيط التالي ما هو السبب الرئيسي للمظاهرات الغاضبة التي اجتاحت العراق؟
واضح من الشعارات المطالبة بالإصلاح إنها تناولت محورين شكلا سببين رئيسين أولهما الفساد المالي والإداري والسبب الثاني ،وهو نتيجة مباشرة للأول، هو الفقر الذي يلازم قطاعات واسعة من أبناء شعبنا رغم الثروات الهائلة التي يزخر بها العراق.
أولاً: الفساد المالي والإداري
تأثير الفساد السلبي على الاقتصاد الوطني أمر متحقق دائما ولذا يبدو انه من مستلزماته بل انه نتيجة طبيعية مباشرة له.
ومن جانب آخر يقلل الفساد من فرص الحياة والتعليم والأعمار والتنمية وفرص الاستفادة من المعونات والقروض الدولية ويخفض من معدلات النمو بصورة كبيرة ، كما يؤدي إلى تدهور البنية التحتية والخدمات العامة بصورة مؤكدة .
ويتضمن النظام الدستوري في العراق خمس أجهزة رقابية هي مجلس النواب ورقابة السلطة التنفيذية فضلا عن أجهزة رقابة متخصصة مهنية تتمثل في ديوان الرقابة المالية وهيئة النزاهة ودوائر المفتش العام الموزعة في كل الوزارات العراقية؟
أـ رقابة مجلس النواب والسلطة التنفيذية: تشير اغلب الدراسات القانونية المتخصصة إلى ان فعالية هذا النوع التقليدي من الرقابة يتأثر سلباً او إيجابا بالعوامل الانتخابية ومدى سيطرة جهة سياسية معينة على الأغلبية السياسية ومدى قوة فاعلية المعارضة في التأثير على الرأي العام، كما يعتمد على الوعي السياسي العام المؤثر على نتائج الانتخابات، كما ان تنوع مهام هذه السلطات يجعل من الرقابة احد الواجبات لا كلها، لذا فان التعويل على هذا النوع من الرقابة فقط لا يحقق النتائج المرجوة.
بً ـ رقابة الأجهزة الرقابية المتخصصة: وجود أجهزة رقابية متخصصة هي إحدى سمات التنظيم القانوني الإداري الحديث تطور تدريجيا ليصل إلى حد إنشاء هيئات على قدر من الاستقلالية تتراوح قوتها من نظام دستوري إلى أخر.
وهنا يمكن ان تثار الأسئلة التالية:
ـ ما هو دور هذه الأجهزة الفعلي في الحد من الفساد بكل أشكاله، وهل أثمر عملها عن انخفاض مؤشرات الفساد وفقاً للمقاييس العالمية (مؤشرات منظمة الشفافية الدولية ـ مؤشرات البنك الدولي ـ مؤشرات البحوث العلمية المتخصصة ...) ؟
ـ ما هي معوقات عمل هذه الأجهزة هل هي معوقات قانونية أم إدارية بمعنى أخر هل هناك قوانين محكمة تنظم عملها وهل هناك معايير محددة لاختيار العاملين فيها أم إن اختيارهم يخضع لاعتبارات سياسية؟
ـ هل هناك إستراتيجية واضحة لمكافحة الفساد وهل هناك خطط وقائية فعالة، مع ملاحظة إن مكافحة الفساد هو عمل منهجي وعلمي ويقوم على استراتيجيات يشارك في وضعها خبراء متخصصون ولا تخضع للتقدير الشخصي العشوائي.
ـ هل هناك تواصل مباشر ومنظم ودائمي بين السلطة البرلمانية والسلطة التنفيذية وهذه الهيئات الرقابية، هل هناك اجتماعات دورية تعقد لهذا الغرض؟
ـ هل يتضمن النظام الإداري لهذه الهيئات وجود مجلس استشاري يضم متخصصين في العلوم ذات الصلة بعمل هذه الهيئات؟
ـ هل هناك تقييم دوري لعملها، خاصة وان ميزانيات ضخمة ترصد عادة لتمكينها من أداء عملها بصورة صحيحة؟
إن الإجابة على هذه الأسئلة سيفتح طريق الحل لمشكلة الفساد. فالمرحلة المقبلة يجب أن تكون مرحلة التخلص من هذه الآفة الخطيرة التي كادت أن تهوي بالنظام السياسي.
وفي ضوء ما تقدم وللخطورة الجدية التي يمكن أن يوقعها الفساد على النظام السياسي في ظل التطورات الإقليمية الراهنة نوصي أن تنشأ قيادة عليا مشتركة لمكافحة الفساد تضم أعلى القيادات السياسية والتنفيذية والتشريعية (رئيس الجمهورية، رئيس الوزراء، رئيس مجلس النواب، خبراء أكاديميون متخصصون ) تتولى الاجتماع بشكل دوري لمراجعة خطط مكافحة الفساد وتقييم الأداء وتبني التوصيات الملائمة، على أن لا يكون ذلك سبباً للحد من استقلالية هذه الهيئات وهي تباشر مهامها.
ثانياً ـ الفقر: الفقر ظاهرة لازمت الشعب العراقي عبر التاريخ، ولم يشهد العراقيون فترات رخاء إلا بشكل محدود ولفترات متقطعة تنتهي غالبا بغزوات خارجية تدمر وتخرب وتسرق وتفرض الجوع والفقر على العراقيين. رغم إن العراق يتمتع بثروات هائلة كانت محط نظر الغزاة عبر التاريخ، فما هو الفقر ولماذا الفقر؟
ماهو الفقر؟: الفقر المقصود ليس مجرد نقصٍ في الدخل. إنما هو سلسلة متصلة من حلقات الحرمان والتي تشمل تدني مستوى التعليم وضعف الخدمات الصحية و افتقار الحصول على الخدمات الاجتماعية الأساسية بعدالة وانعدام فرص مشاركة المواطنين في العمليات التي تؤثّر على حياتهم ومستقبلهم.
لماذا الفقر؟: للإجابة عن هذا السؤال يميز الباحثون بين اقتصاد يحابي الفقراء واقتصاد لا يحابيهم، مع ملاحظة إن الأمر لا يتعلق بنظام رأسمالي وأخر اشتراكي، فقد يوجد ضمن نظام رأسمالي نظام متطور للضمان الاجتماعي يعمل بشكل مؤسساتي عادل، بينما يوجد نفس النظام في نظام اشتراكي ولكن تفرغه البيروقراطية والتنظيرات الحزبية والفساد من محتواه.
ولسنا بصدد استعراض النظريات الاقتصادية والأنظمة القانونية التي تعالج موضوع الفقر ولكن يمكن القول وبناءاً على المخرجات العملية او التطبيقية لهذه النظريات ان اقتصاد الدولة الذي يحابي الفقراء يقوم على نوعين من الإستراتيجية:
أولاً: إستراتيجية قصيرة المدى للحد من الفقر:
ان هذه الإستراتيجية تهدف إلى إعطاء حلول وقتية لتجنب الآثار الاجتماعية الكارثية المترتبة على الفقر وتقوم على أساس المساعدات والدعم وأساليب التنمية للمشاريع الصغيرة ومن ثوابت هذه الإستراتيجية:
ـ انشاء صندوق الضمان الاجتماعي: وتقوم فكرته على تخصيص أموال من واردات معينة (كالضرائب والرسوم ) يتولى الصندوق استثمارها في مشاريع مضمونة الربح كبناء العقارات وتأجيرها ومن عوائد هذه الاستثمارات يتكون رأسمال الصندوق الذي يقوم بدفع تعويضات البطالة للمسجلين في مكاتب التشغيل حصراً.
ـ تقديم قروض للمشاريع الصغيرة بفوائد منخفضة: يخصص جزء من الميزانية لدعم مشاريع إنتاجية فردية او أسرية بفوائد منخفضة وأهمية استيفاء الفوائد انها تعزز ميزانية القروض اللاحقة، كما تعطي المقترض الشعور بالمسؤولية والجدية في العمل. ولا يجوز الإعفاء من استرداد القرض او فوائده لان ذلك يؤدي إلى فشل النظام برمته لان ذلك يؤدي إلى دخول مقترضين انتهازيين لا هم لهم سوى الحصول على المال دون استثماره مع توقع الإعفاء منه وحتى لا يكون الفقر نظيراً لقلة النشاط والاعتماد على الغير.
ـ تبني نظام قانوني ائتماني يشجع المصارف الأهلية على تقديم القروض للعاطلين مع ضمانات قانونية وقضائية لاسترداد أموالهم.
ـ الاعتماد على الإنتاج المحلي الصناعي والزراعي قدر الإمكان أي توفير حماية للمنتج المحلي لأنه مرتبط مباشرة بتشغيل الأيدي العاملة.
ـ الاشتراط على الشركات الأجنبية العاملة في البلد ان لا تقل نسبة الأيادي العاملة الوطنية عن نسبة معينة، كـ (50%) مثلا، وحسب الواقع المهني الاجتماعي.
ـ الاشتراط على الشركات الأجنبية العاملة في البلد على أن لا تنقل أرباحها او جزء منها إلى خارج البلد إلا بعد مرور فترة زمنية محددة كـ (5 سنوات) مثلاً، وان تودعها في مصارف الدولة خلال هذه الفترة أو ان تستثمرها في مشاريع أخرى.
ـ تشجيع أصحاب رؤوس الأموال المحلية على استثمار أموالهم في مشاريع داخل البلد مع توفير نظام قانوني يقل من احتمالات الخسارة كنظام التأمين من الخسائر.
ـ تشجيع إنشاء المراكز التعليمية ولو عن طريق القروض التي تتولى تعليم المهن المختلفة، كتصليح الأجهزة أو المعدات أو غيرها.
ـ إنشاء مراكز بحوث معالجة الفقر التي تتولى إبداع الأفكار الخلاقة التي تواجه تحديات الفقر بأفكار عملية متطورة تتلاءم مع درجة تطور المجتمع.
ثانياًَ: إستراتيجية طويلة المدى للحد من الفقر:
ان أساس هذه الإستراتيجية هو التنمية البشرية الشاملة في كافة المجالات وأساسها هو التعليم المنضبط الذي يتجه نحو العلوم التطبيقية،وبناء صناعة وطنية متطورة.
ويعتبر التعليم حجر الزاوية في التنمية البشرية، وهو حق وهدف وغاية في حد ذاته ، فالمعرفة قوة بحد ذاتها للفرد والمجتمع، فضلا عما يوفره التعليم من فرص لتحسين الرفاه الاجتماعي وتأثيره المباشر على نمو الاقتصاد ورفع مستوى القيم والتحضر في المجتمع .
وخلصت دراسة أشار إليها تقرير الأمم المتحدة للتنمية الإنسانية للعام 2002 إلى إن رأس المال البشري والاجتماعي ـ المتعلم ـ يساهم بما لا يقل عن 64 % من أداء النمو ، بينما يسهم رأس المال المادي ـ الآلات والبنى التحتية الأساسية ـ بنسبة 16 % من النمو ، بينما يسهم رأس المال الطبيعي بالنسبة المتبقية . وتظهر التقديرات العالمية الى ان زيادة نسبة خريجي المرحلة الثانوية بنسبة 1 % تقترن بزيادة تتراوح بين 6 ـ 15 % في دخل 40 % من أفقر السكان . وعليه كما يؤكد التقرير فان التعليم يخدم النمو والمساواة ، وان تكاليف تحسين التعليم قد تكون ضخمة إلا إن كلفة استمرار الجهل لا حدود لها .
خاتمة: الصلة بين الفساد والفقر:
الصلة بين الفساد والفقر مؤكدة تاريخياً وعلمياً، فمن الناحية التاريخية كان فساد الطبقة الحاكمة والضرائب الثقيلة التي تفرضها على الشعب سبباً في الثورة الانكليزية ( 1690) والثورة الأمريكية (1776) والثورة الفرنسية(1789) اللتان تكونت قاعدتهما من الفقراء والجياع وان قاد الأولى رجال الإقطاع والدين وقادت الثانية الطبقة البرجوازية الناشئة.
ومن الناحية العلمية تعزز الدراسات المتلاحقة من ثمانينات وتسعينيات القرن الماضي الدليل المتنامي على أن الفساد يعيق الجهود الدولية الرامية إلى انتشال ملايين البشر من براثن الفقر والجهل والمرض لما يشكله من تهديد للتنمية الإنسانية في مختلف عناصرها ولهذا وصف مدير البنك الدولي السابق جيمس ولفنسون الفساد بأنه ( سرطان يقضي على اقتصاديات الدول(
ويذهب مؤشر مدركات الفساد لعام 2006. إلى إن الفساد بجميع أشكاله المباشرة وغير المباشرة يساعد على زيادة حدة الفقر، خصوصا عندما يُسرق حق الفقراء وتساء إدارة الموارد العامة .وعلى نطاق أوسع، يمكن ان يؤدي الفساد الكبير في نهاية المطاف إلى جمود اقتصادي وزيادة التباينات الاقتصادية والاجتماعية مع الوقت، عندما تجتمع في آن معا التكاليف المرتفعة لتوفير خدمات عامة والقدرات المنخفضة لجمع ضرائب.
ويؤكد التقرير على وجود علاقة قوية بين الفساد والفقر في الدول التي تعتبر الأشد فقرا . ومن المؤكد إن الفساد ينجم عن سوء تخصيص الموارد وينزع لأن يكون أكثر شمولية حين يصل الأمر إلى ضياع الحق في الحصول على الفرص والحقوق بعدالة. وقالت رئيس منظمة الشفافية الدولية مس لابيل بمناسبة صدور التقرير) على الرغم من مرور عقد من التقدم في وضع قوانين ولوائح لمكافحة الفساد لكن نتائج اليوم تبين أن هناك الكثير مما ينبغي عمله قبل أن نرى تحسنا ذو مغزى في حياة أفقر المواطنين في العالم ) .
وأكد تقرير منظمة الشفافية الدولية لسنة 2005، أن الرشاوى التي يستولي عليها قلة من البشر على حساب غالبية المواطنين، تؤثر بشكل كبير على تحقيق أهداف التنمية المستدامة، مثل: القضاء على الجوع الذي يعاني منه 1.2 مليار شخص يعيشون على أقل من دولار في اليوم، وتعميم التعليم الابتدائي بحيث يمكن ان يستوعب 113 مليوناً من الأطفال إضافيين محرومين من فرص التعليم في العالم، ولولا الفساد لامكن تخفيض وفيات الأطفال دون سن الخامسة بواقع الثلثين، حيث يموت 11 مليوناً من الأطفال الصغار سنوياً.
ويقول رئيس المنظمة السابق ، بيتر ايجن، في عرضه لتقرير عن الفساد لعام 2005، ) يعد الفساد في المشاريع العامة الكبيرة الحجم، عقبة كبيرة أمام التنمية المستدامة، ويعد كارثة كبيرة على الدول المتطورة والنامية على حد سواء"، مضيفاً "أنه عندما يغلب الإنسان المال على القيم، تكون النتيجة إنشاءات رديئة الجودة وإدارة ضعيفة للبنى التحتية، وأن في ذلك مضيعة للمال، ونهبا لموارد الدول، وقتل أرواح في الكثير من الأحيان"، مؤكداً على ضرورة "المحافظة على الأموال والمعونات المخصصة لمشاريع إعادة البناء في بعض الدول، مثل العراق من خطر الفساد"، مضيفاً "يجب أن تكون الشفافية الشعار الأول، وخصوصا في هذا الوقت الذي تقوم فيه الدول المانحة بضخ مبالغ هائلة من أجل إعادة البناء في الدول الآسيوية التي تضررت بفعل مد تسونامي).
ويستدرك قائلاً ( ان الفضيحة التي تم الكشف عنها في برنامج النفط في مقابل الغذاء، الخاص بالعراق، أظهرت الحاجة الملحة لوضع قوانين صارمة فيما يتعلق بتضارب المصالح، وأهمية الانفتاح في عملية المناقصات.
و تخلص أبحاث معهد البنك الدولي إلى أن أكثر من تريليون دولار أميركي (1000 بليون دولار أميركي) تدفع رشاوى كل عام . وان هذا الرقم لا يتضمن اختلاس الأموال العامة أو سرقة الموجودات العامة.
وتبين أبحاث معهد البنك الدولي أن البلدان التي تكافح الفساد وتحسن سيادة القانون فيها يمكنها أن تزيد دخولها الوطنية بما قد يبلغ الأربعة أضعاف على المدى الطويل ويمكنها أن تخفض وفيات الرضع فيها بنحو 75 في المائة. وان بلدا يبلغ نصيب الفرد فيه من الدخل 2000 دولار ، يمكنه إذا جابه الفساد وعمل على تحسين نظام الإدارة العامة وسيادة القانون فيه، أن يتوقع زيادة نصيب الفرد من الدخل فيه الى 8000 دولار أمريكي على المدى الطويل .
27/2/2011
************
انظر أيضا، بحوثنا:
الثقافة المضادة للفساد
جريمة سرقة المستقبل والحياة والعدالة
آفاق المعرفة والتقدم
النزاهة ومتلازمة الفساد والفقر والإرهاب
منشورة في موقعنا: الثقافة القانونية للجميع على الرابط:
http://farisalajrish.maktoobblog.com/
وللمزيد من البحوث القيمة في مجال التنمية، انظر: المعهد العربي للتخطيط، الكويت، على الرابط:
http://www.arab-api.org/devbrdg/a_development_bridge.htm