العراق : بلد تحت الحطام وأمل يلوح في الأفق-الحلقة الثانية
هل سيقلب العراقيون الصفحة يوماً ما؟ها قد عاد العراق اليوم إلى دائرة الأضواء واحتل الصدارة والعناوين الأولى في كافة وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة ولم تشذ وسائل الإعلام الفرنسية عن هذه القاعدة . ففي أحد الأفلام الوثائقية التي عرضها التلفزيون الفرنسي بمناسبة الذكرى الرابعة لشن الحرب الأمريكية على العراق، ظهر شاب عراقي مندفع ومتحمس وهو يهوي بمطرقته على تمثال صدام حسين المنتصب في ساحة الفردوس في قلب العاصمة العراقية بغداد في 9 نيسان 2003 ، وبعد مرور السنوات الأربعة على ذلك السقوط الاستعراضي المهين للنظام الدكتاتوري ، ظهر نفس ذلك الشاب وهو محبط ويدلي للصحافي الفرنسي برايه قائلاً:" كان صدام حسين مثل ستالين دكتاتور وطاغية مستبد لكن الاحتلال بنظري صار أسوء منه" وبهذه الجملة اختصر شاهد العيان هذا مدى ذلك الخراب التاريخي الذي حل بالعراق .وعندما شنت القوات الأمريكية والبريطانية هجماتها في 20 آذار 2003 على العراق وغزوه كان من المؤكد أنها ستنتهي إلى النتيجة المخطط لها وهي إنهيار النظام البعثي الصدامي بعد ثلاث أسابيع فقط من بدء المعارك وبسهولة لم يكن يتوقعها أحد، وكانت الغالبية العظمى من العراقيين تعتقد وتتمنى أن الأفضل آت لا محالة ، ولم يحارب ضد قوات الاحتلال سوى قلة قليلة من المستميتين والمتطوعين الانتحاريين العرب وبعض فلول فدائيي صدام، ولم يكن هناك عراقيون مستعدون للتضحية بحياتهم دفاعاً عن نظام الطاغوت الذي أذاقهم العذاب والقتل طيلة 35 عاماً من حكم البعث الجائر والذي أرجع الشعب العراقي ، بسبب عماه وغبائه السياسي والاستراتيجي، إلى مستوى الفقر والفاقه التي كان يعيشها في سنوات العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي، وانخفض مستوى معيشة هذا الشعب المقهور والمغلوب على أمره لتصل إلى أدنى حد بلغته أفقر شعوب العالم كبنغلاديش وموريتانيا وشعوب أفريقيا ، بعد أن بلغ مستوى راقياً قورن بمستوى حياة دولة أوروبية كاليونان.
في الأيام الأولى للحرب كان أغلب العراقيين يسمون المشروع الحربي الأمريكي بمشروع تحرير العراق ولكن وبعد شهرين بالكاد صار كثيرون يوصمونه بمشروع الاحتلال.
وما أن وصل الحاكم المدني الأمريكي بول بريمر إلى سدة الحكم وتولى المسؤولية العليا في العراق ممثلاً للإدارة الأمريكية حتى باشر باتخاذ قرارات فردية عشوائية كانت تبعاتها وتداعياتها كارثية على الشعب العراقي. فأول إجراء أتخذه هو تشريع قانون إجتثاث البعث وحل وزارات بأكملها كوزارة الدفاع، والداخلية، والإعلام، وحل الجيش العراقي النظامي وشرد مئات الآلاف من العوائل المحسوبة حقاً أو باطلاً على النظام السابق. وطرد آلاف الكوادر العراقية من مؤسسات الدولة بحجة أنها كانت من القيادات البعثية العليا والوسطى وذلك بحكم قانون إجتثاث البعث الذي فرضه سيء الصيت بول بريمر بدون أي تفكير وتأمل في عواقبه ونتائجه. عند ذلك انتهى العراق كدولة ذات أسس دولتية وسادت شريعة الغاب وحملات النهب والسلب التي سميت بالحواسم وما رافقها من خلل مجتمعي وأخلاقي وعمليات خطف وابتزاز وسيادة قانون المافيات الإجرامية . كان الأمريكيون يبحثون عن زبائن وأتباع طيعون يمتثلون لأوامرهم وإملاءاتهم وليس حلفاء لهم كرامة وسيادة وكلمة تقال وتسمع ويمتلكون إرادة حرة ومستقلة. وتحول شهر العسل إلى كابوس، وتحول العراق إلى ثقب أسود يبتلع كل شيء . وابتداءاً من حزيران 2003 ظهرت أولى بوادر التمرد المسلح لاسيما بين صفوف جزء من السنة المستائين من المحاصصة الطائفية التي وسمت مجلس الحكم بتشكيلته المثيرة للجدل والامتعاض. ومنذ ذلك الوقت والأوضاع تتفاقم وتزداد سوءاً يوماً بعد يوم من ناحية شراسة المواجهات المسلحة وسقوط عشرات الضحايا من المدنيين حيث ارتفع عددهم بسرعة إلى مئات الضحايا يومياً وهروب الملايين من العراقيين من جحيم الحياة اليومية والخطر الداهم المتربص بهم وبعائلات وأطفالهم في كل مكان، وخسر العراق خيرة كوادره البشرية والتدريسية ممن تمكن من الهروب إلى خارج العراق هرباً من موت محقق أو من شظف العيش ومعاناة الحياة اليومية وقساوتها للحصول على ضروريات الحياة من مأكل ومشرب ووقود وكهرباء . فمتوسط العمليات القتالية والإرهابية وصل إلى 150 عملية في اليوم أحياناً وهو عدد يتجاوز بكثير ما تتناقله وسائل الإعلام، وبلغ عدد العمليات المعلنة 1476 خلال الأشهر الإثنتي عشر المنصرمة وأكثر من 1600 قتيل من المدنيين العراقيين في الشهر كمعدل متوسط منذ بداية العام 2007 . المذابح والاغتصابات وعمليات التعذيب والقتل وقطع الرؤوس تتم في دوائر مغلقة خارج التغطية الإعلامية لعدم قدرة الصحافيين ووسائل الإعلام المستقلة تغطية تلك الأحداث التي تقشعر لها الأبدان أو التواجد في ساحات الحدث إلا ضمن القوات الأمريكية لحمايتها من القتل والاختطاف . وقد استغلت الإدارة الأمريكية هذا العماء الإعلامي لتقدم صورة وردية أو أقل مأساوية عن واقع العراق المحزن مستشهدة ببعض الإنجازات الجزئية والرمزية رغم أهميتها النفسية والمعنوية كاعتقال ومحاكمة وإعدام صدام حسين وبعض أعوانه من المجرمين ومصرع زعيم القاعدة في بلاد الرافدين أبو مصعب الزرقاوي وتنظيم الانتخابات النيابية أو التشريعية وصياغة الدستور الدائم واستفتاء الشعب عليه ورفع القدرة الشرائية لبعض شرائح المجتمع من الطبقة المتوسطة التي سحقها النظام الصدامي وأفقرها، وإلى جانب ذلك عرض الجانب الأمريكي أضعافاً مضاعفة من الأكاذيب التي انكشف بعضها في تقرير لجنة بيكر ـ هاملتون واتضح جلياً أن القوات الأمريكية والحكومة العراقية عاجزتان عن فرض وإحلال الأمن والقانون لحد الآن.
من هنا يمكننا القول بثقة وبلا تردد أن مشروع غزو العراق وضع هذا البلد على أعتاب مرحلة جديدة من تاريخه مليئة بالعنف وملطخة بالدماء. وبعد أربعة أعوام شكل العراق إخفاقاً ذريعاً لأكبر قوة عظمى في العالم التي كانت ترنو من خلال غزوها العسكري استعراض عضلاتها وإظهار عظمتها كقوة لا تقهر وفي نفس الوقت ضرب عصفورين بحجر واحد والبدء بإعادة برمجة وتنظيم وترتيب الأوراق في الشرق الأوسط وإعادة صياغتها لتكون على صورتها . بيد أن الحصيلة الإيجابية الوحيدة التي تحققت من مشروعها العسكري الجبار والمكلف هو إطاحة صدام حسين وفيما عدا ذلك كانت النتائج غاية في السلبية وأبرزها حرق العراق من أقصاه إلى اقصاه. وتشوهت صفحة الأهداف النبيلة للحملة العسكرية الأمريكية التي حظيت في أيامها الأولى بشعبية كبيرة لكنها سرعان ما أصبحت في نظر الرأي العام الأمريكي بحكم الخاسرة. أما من الجانب العراقي فقد بات راسخاً في أذهان بعض العراقيين شبح التقسيم . فهناك تفسير وفهم مختلف ، من فئة إلى أخرى ، لما يحدث في العراق لدى مختلف مكونات الشعب العراقي بعد تجربة السنوات المرة المنصرمة منذ السقوط إلى يوم الناس هذا. فـ 31% من عموم الشعب العراقي يؤيدون سياسة رئيس الوزراء العراقي الأستاذ نوري كامل المالكي الذي وصل إلى الحكم بطريقة شرعية في أعقاب انتخابات شارك فيها أغلب العراقيين . في حين أن 67% من الشيعة و 60% من الكورد يعربون عن ارتياحهم عن هذه السياسة بينما يتقبلها 3% فقط من السنة.
ملٌ الأمريكيون من تحمل أعباء الحرب الثقيلة وحدهم وصاروا يطالبون عبر تظاهرات جماهيرية بسحب القوات الأمريكية حتى لو كان ذلك يعني ترك العراق يتخبط وحيداً في مواجهة دوامة الإرهاب . بيد أن الانسحاب العاجل والمفاجئ ، الذي يلبس ثوب الهزيمة، لن يكون الحل الأمثل في نظر شيخ المحللين والدبلوماسيين الأمريكيين وهو رئيس الدبلوماسية السابق للرئيس نيكسون أي هنري كيسنجر الذي يعتقد أن الحضور العسكري الأمريكي في العراق مازال يشكل ضرورة ولن يكون الانسحاب هدية تقدم لحكومة العراق الحالية كما أنه يضر بسمعة الولايات المتحدة ومكانتها ومصالحها الحيوية . إذ يتعين على الولايات المتحدة الأمريكية أن تبذل كل ما في وسعها من أجل منع الأصولية الإيرانية ، كما سماها كيسنجر ، من امتلاك السلاح النووي وهو الأمر الذي يتفق عليه الجمهوريون والديمقراطيون ، وكذلك منعها من فرض هيمنتها على المنطقة التي تعتمد عليها أمريكا والغرب برمته للتزود بالنفط والطاقة فمستقبل العالم الصناعي يتوقف على سلامة واستقرار هذه المنطقة الحساسة فلو انسحبت أمريكا وتركت إيران مطلقة اليدين تتصرف بالمنطقة كما يحلو لها فإن من شأن ذلك دفع دول المنطقة الضعيفة إلى تقديم تنازلات لإيران تفادياً لخطرها ولحماية نفسها . وإن الصراعات المذهبية داخل العراق ستتفاقم وتتحول إلى مذابح جماعية . هذه هي الصورة السوداوية التي رسمها كيسنجر لتداعيات الانسحاب . فهو يعتقد إن أي انسحاب ، سواء كان مفاجئاً أو تدريجياً، لن يحول دون نشوب تلك التداعيات الخطيرة والفوضى العارمة في المنطقة كلها . من هنا ينبغي أخذ الظروف السائدة، ليس فقط في العراق، بل في المنطقة برمتها بعين الاعتبار قبل الإقدام على أية خطوة تفسر بأنها تعني تخلي الولايات المتحدة عن التزاماتها الدولية في ضبط السلام والأمن العالميين.
إن زيادة عديد القوات الأمريكية في العراق يجب أن يفسر على اعتبار أنه الخطوة الأولى للاستراتيجية الأمريكية الجديدة في الشرق الأوسط والتي تهدف ليس فقط إلى استنهاض القدرات العسكرية فحسب ، بل وأيضاً إلى إنعاش الجهود الدبلوماسية والسياسية حيث ينبغي أن تحظى هذه الاستراتيجية بدعم وتأييد الديمقراطيين والجمهوريين معاً والهدف المقصود من ذلك هو إفهام الجميع بأن أمريكا عازمة ومصممة على لعب دورها كاملاً في المنطقة وتكثيف نشر القوات وتعزيزها وفق متطلبات الواقع الجديد أو المستجد على أرض الميدان وتوفير مجال واسع للمناورة لأنه ضروري لشن أي هجوم عسكري أو دبلوماسي يهدف إلى ترسيخ الأمن والاستقرار في المنطقة ولن تسمح الولايات المتحدة الأمريكية لأي طرف أن يعرقل هذه الخطة أويحاول إفشالها، وعلى الإيرانيين أن يدركوا حقيقة أن أمريكا ليست في ورطة داخل العراق وأنها قادرة على فتح عدة جبهات في آن واحدة واستئصال الخطر الإيراني إذا ما تجرأت طهران على تجاوز الخطوط الحمر .
المشاكل الأمنية التي تعصف بالعراق اليوم حقيقية وموجودة ولا يمكن إنكارها أو تجاهلها وتتمثل بتدخلات الدول الإقليمية في الشأن العراقي الداخلي ومحاولات دول الجوار العراقي تخريب المشروع الأمريكي في العراق ونسفه وإفشاله والسماح بتسلل مقاتلي القاعدة الإرهابيين والتكفيريين القادمين من مختلف الدول الإسلامية والغربية حيث توجد أقليات إسلامية متشددة ، وارتفاع مستوى الجريمة المنظمة وتصاعد وتيرة الصراعات والمواجهات الطائفية، يجعل مهمة الأمريكيين صعبة ومعقدة لكنها ليست مستحيلة إذ يقع على عاتق الأمريكيين صد ومحاربة ومنع تفاقم العاملين ألأولين أي تدخلات دول الجوار وتسلل العناصر الإرهابية إلى العراق، لأن ذلك يعد من مقتضيات الأمن القومي الأمريكي ويمس المصلحة الوطنية العليا في حين لاينبغي لأمريكا أن تكون طرفاً منحازاً اهذه الجهة أو تلك، أو أن تتورط في الصراعات المذهبية والطائفية والعرقية الداخلية في العراق والتي أضعفت الحكومة العراقية واستنزفت مواردها المادية والمالية التي كان ينبغي أن تخصص لإعادة الإعمار بدلاً من تبديدها لغايات أمنية . فالنزاعات المسلحة حدت من دور الحكومة العراقية الشرعية وحصرتها في المنطقة الخضراء وجعلت من القوى المسلحة الإرهابية وفرق الموت والميليشيات المسلحة السنية والشيعية على السواء تشكل ثقلاً عسكرياً موازياً ومناوئاً بل وربما متفوقاً أحياناً على الثقل العسكري الحكومي أي أنها الطرف الأقوى من الجيش والشرطة العراقيين وبالتالي يتعين على حكومة بغداد، لكي تنجح وتقوم بدورها وواجبها تجاه شعبها كما ينبغي، إزالة ومنع واستئصال هذا الوجود العسكري الموازي الميليشياوي الخارج على القانون ويمكنها الاستناد إلى دعم القوات الأمريكية ووجودها الوقتي في العراق لإنجاز هذه المهمة الأساسية لبقائها . فهذه الخطوة ضرورية لكي تتمكن الحكومة من تطبيق سياسة المصالحة الوطنية بدون عراقيل أو تهديدات لذلك لا بد من العمل وبأسرع وقت ممكن على تجريد تلك القوى المسلحة بمختلف مسمياتها، من أسلحتها كشرط أساسي لإقامة دولة القانون والنظام والعدالة والمساواة بين المواطنين ووقف نزيف الهجرة والهروب الجماعي . فهل ستنجح الحكومة العراقية في ذلك. هل تعي حكومة السيد المالكي ومن حولها من قوى وكتل سياسية، أنها تمثل الآن الحل والأمل الأخير للشعب العراقي لإنقاذه من محنته والعبور به إلى شاطئ الأمان؟ الإرهاب وحده ليس هو السبب في جمود العراق وانغماسه التدريجي في دوامة العنف بل هو غياب الإرادة السياسية الحقيقية وغياب القوانين أو فوضى وتهلل ما هو موجود منها من إرث النظام الصدامي السابق وانتشار آفة الفساد وانعدام المبادرات أو الخوف من الإقدام عليها داخل الحكومة شبه المشلولة بسبب المحاصصة . يجب إعادة عجلة الإنتاج والاقتصاد السليم وتنمية الاستثمارات الداخلية والعربية والعالمية دون أن يعني ذلك بيع ثروات الشعب العراقي ، وعلى رأسها النفط في المزاد العلني.
د. جواد بشارة / باريس
Jawad_bashara@yahoo.com